في المساحة المُخصصة للمسجد الأقصى وعلى مد 144 ألف متر شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، تلألأت السماء بالزينة الرمضانية المُلونة، هناك وعلى الأبواب الأحد عشر، المُغلق منها والمفتوح امتدت حبال الزينة من باب حطة، إلى باب الأسباط وصولًا إلى باب العمود ببعض الفوانيس المصنوعة من الكرتون والورق المُقوى وكثيٌر من الأهلة والنجوم المُضيئة، إضافة إلى اللافتات المُزينة بالآيات القرآنية، فأدخلت في نفوس أهل القدس الراحة ومنحتهم البهجة بقدسية المكان في استقبال شهر رمضان المبارك بوجٍه عربي إسلامي.

وبالوصول إلى الداخل وإذا ما استقر بك الحال في الساحات والقباب والمُصليات التي تضمها حدود المسجد الأقصى تجدها تحولت إلى حلقات إيمانية، يلزمها المصلون الذين أتوا من كلِ حدبٍ وصوب من داخل المدينة أو خارجها، عبر رحلات من الضفة أو الأراضي المحتلة عام 48، مُتحدِين الجدار العازل الذي يُطوق المدينة ويفصلها عن محيطها.

وإن تنقلت بين أروقته فلا تكاد تجد بقعًة منها إلا وقد عمّتها لجان العمل التطوعي من نظام وكشافة وإسعاف ودفاع مدني، يعملون كخلية نحل لساعات طويلة جنبًا إلى جنب دون توقف رغم أرق الصيام وحرارة الشمس الحارقة، تجدهم لا يبغون إلا فضلًا من الله وأجرًا بخدمة المُصلين، وما أن يحل الغروب حتى تتجمع العائلات حول موائد إفطار بعضها أعدوها في بيوتهم قبل المجيء وأخرى تُوزع بالمجان للزائرين عبر دائرة الأوقاف الإسلامية وبتمويل من جهات عربية وإسلامية ودولية، ثم ينتظمون في صفوفٍ متراصة لأداء صلاة العشاء والتراويح التي لا تخلو من دعاءٍ خالص بأن يُحرر الأقصى وكل فلسطين من دنس الاحتلال.

فرغم ما يعيشه الأقصى من ضنك وصلف تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي الذي اجتاح الإنسان والمكان هناك، يبقى قبلة المُحبين، ترى كل حجرٍ فيه يتزّين لرمضان الذي انتظره بلهفة الغائب ليَعمُره المُصلون والمعتكفون.

«إضاءات» تنقل بعضًا من ملامح البهجة وتفاصيل نهار الصائمين في المسجد الأقصى المبارك.


صلاة رغم أنف الاحتلال

في القدس إن كنت من أهل البلدة القديمة يحِلُ لك في عُرف الاحتلال الوصول إلى المسجد الأقصى وقتما شئت، فتُصلي وتلوذ بمصاطب العلم وتجوب الأروقة يُمنًة ويُسرة، أما إن كنت من أهل الضفة المحتلة أو أراضي الـ48 فعليك أن تُثبت في البطاقة الشخصية عمرك، فلا يكون دون الأربعين حتى يُجاز لك الدخول والصلاة والتعبد والاعتكاف؛ فيما تتعقد الشروط أكثر لدى أهالي قطاع غزة، فبعد منع دام لستة أشهر سُمح لهم بالوصول إلى الأقصى شريطة الذهاب والإياب في ذات اليوم، وفقط في أيام الجمع من شهر رمضان وبعدد 100 شخص لا غير.

(المصدر:
دائرة الاوقاف الاسلامية في القدس)

ما دون الفئات المحددة أعلاه لا يُمكنهم الوصول إلى الأقصى، لكن الكثير من الشباب يُصرون على الوصول رغم أنف الاحتلال، تجدهم يتسلقون فتحات الجدار تسلقًا من النقاط الفاصلة بين القدس والمدن الفلسطينية، لا يُرهبهم بطش الرصاص ولا غياهب الاعتقال.

«فالصلاة في الأقصى لها معنىًّ وقيمة أُخرى لا يفقهها إلا من حُرم قسرًا منها»، كما يقول أحدهم، فيما يُشير آخر ويُدعى «علاء بلعاوي» من بيت لحم، إلى أنه يعشق الصلاة في الأقصى خلال شهر رمضان، ولا يكاد يمر الشهر إلا وقد صلى على الأقل في الأسبوع ثلاث مرات، بينما يُصر على الاعتكاف خلال الأيام العشرة الأواخر، لكنُه يؤكد أنه لا يذهب للصلاة بشكل طبيعي بل تهريبًا بينما الجنود على غفلة من أمرهم.

يحكي «بلعاوي» أنه والكثير من الشبان يتجهون نحو الجدار الفاصل بين القدس والضفة المحتلة حاملين معهم سلمًا لا يقل طوله عن ثمانية أمتار وحبل طويل، ومن ثمَّ يبدءون بمراقبة دوريات الاحتلال، وما إن تبتعد قليلًا حتى يُغافلوها ويقفزون عن الجدار قرب مُخيم شعفاط، ويقول:

النجاح بالقفز رغم مخاطره وأضراره على أجسادنا يملأ قلوبنا بالسعادة لا تُضاهيها سعادة سوى سعادة الانتصار بتحرير الأقصى وكل فلسطين.

إفطارٌ وتراويح في ساحات الأقصى

في المساء إذا ما اقتربت الشمس من المغيب وجدت أسرابًا بشرية من نساءٍ وأطفال ورجال وشيوخ يلوذون بجدران المسجد كلٌ في فلكٍ مع عائلته يتحلقون حول مائدة الإفطار والتي حضرتها النساء في بيوتهن قبل المجيء إلى المسجد. فيما يطوف حولهم سدنة المسجد الأقصى بالماء البارد وبعض العصير والتمر، في مشهدٍ عز نظيره إلا في الحرمين المكي والمدني بالمملكة العربية السعودية.

«خديجة خويص» تلك المرابطة التي تتصدر صورتها أخبار اعتداءات المستوطنين على رواد المسجد الأقصى، تُصر على أن تتناول وأطفالها طعام الإفطار في ساحات المسجد الأقصى إن لم يكن يوميًا فمرتين في الأسبوع، رغم أن بيتها لا يبعد سوى مئات الأمتار فقط عن المسجد الأقصى.

(المصدر:
دائرة الاوقاف الاسلامية في القدس)

تقول خديجة إن إصرارها على الإفطار في المسجد الأقصى وحرصها على أداء صلاة العشاء والتراويح فيه هو «وسيلة لقهر الاحتلال ودعم المسجد الأقصى المبارك وتثبيت دعائم المقدسيين داخله، حتى لا يتسنى للاحتلال تفريغه من وجهه الفلسطيني الإسلامي». وأما عن اصطحاب أبنائها صغيرهم وكبيرهم فأشارت إلى أن هدفها من ذلك «ترسيخ عقيدة الرباط داخل المسجد الأقصى في نفوسهم»، خاصة في ظل حالة الشقاق والانشقاق عن ثوابت القضية الفلسطينية من قبل الفلسطينيين أنفسهم وأمة المليار مسلم.

(المصدر:
دائرة الاوقاف الاسلامية في القدس)

وغير بعيدٍ عن «خويص» اتخذت عائلة «الطموني» من طوباس بالضفة المحتلة من جدار مسجد قبة الصخرة الأمامي متكأً لها لتتناول وجبة الإفطار مع إعلان مؤذن الأقصى لآذان المغرب، تقول الأربعينية «أم شادي» إن رحلة وصولها من بلدتها طوباس إلى المسجد الأقصى شاقة يتخللها تفتيش وانتظار طويل لاجتياز الحواجز على طول الجدار الفاصل بين القدس وخاصة البلدة القديمة مع مدن الضفة المحتلة، لكنّ صلاة التراويح برمضان في الأقصى لا تُعوض.

تتمنى السيدة لو تُقتلع الحواجز والجدار فلا تُحجب القدس والمسجد الأقصى عن أهل الضفة أبدًا، لكنها ترى أن ذلك سيكون ممكنًا فقط إذا ما حُررت الأرض وعاد الوطن واحدًا ملتحمًا من شماله إلى جنوبه، قالت وقد علمت أنّي أهاتفها من غزة:

نحن نرى المسجد الأقصى ونزوره في رمضان كثيرًا أما أنتم فكان الله عونكم ورزقكم الله زيارته وهو حرًا.. ولم أملك إلا أن أُؤمن بعدها الدعاء.

وجبات إفطار مجانية

ولأن زوار المسجد الأقصى في رمضان كُثر، يشدون إليه الرحال من شتى بقاع فلسطين وفقًا لشروط ومُحددات يضعها الاحتلال الإسرائيلي، يأبى «يعقوب» صاحب مطعم النصر في البلدة القديمة بالقدس إلا أن يقوم بواجب ضيافتهم بطهي الوجبات الساخنة التي تمولها مؤسسات وجمعيات خيرية من بلدان عربية وإسلامية مختلفة، وكذلك تقديم الوجبة الباردة والتي غالبًا ما تشتمل على ثلاث حبات تمر، وبعض الفاكهة إضافًة إلى كأس من اللبن وزجاجة مياه معدنية صغيرة.

(المصدر:
دائرة الاوقاف الاسلامية في القدس)

يستأجر «يعقوب» في كل عام جزء من مدرسة مُلاصقة للمسجد الأقصى ينقل إليها معدات الطهي جميعها والثلاجات ليتمكن من القيام بمهمته في مشروع (إفطار الصائمين) الزائرين للمسجد الأقصى من الأراضي المحتلة عام 48 أو الضفة المحتلة أو غزة أو أهل القدس المُعوزين.

لا يبدو ذلك غريبًا إذا ما علمنا أن الاحتلال الإسرائيلي يمنع تنقل عربات النقل داخل البلدة القديمة حتى السابعة مساءً، يقول:

إذا تم إعداد الوجبات في المقر الرئيسي للمطعم فلن نتمكن من إيصالها قبل موعد الإفطار، وهو ما لا يناسب الصائمين، نحن نُريد أن نوصل الوجبات ساخنة للصائمين في وقتها المناسب، وفي ذات الوقت نحن مُجبرون على تنفيذ أوامر وقوانين سلطات الاحتلال، لذا فاستئجار المدرسة يحل الأزمة.

لكن ثمّة ما يؤلم «يعقوب» هذا العام بأن عدد الوجبات المُقدمة للصائمين الآمين المسجد الأقصى لا يتجاوز الـ8 آلاف وجبة على مدار أيام شهر رمضان، تُمولها مؤسسات خيرية من تركيا وأستراليا بميزانيات محدودة جدًا لا تتناسب والازدياد المُضطرد في أعداد المصلين خاصة أيام الجُمع، ويبدو هذا العدد زهيدًا إذا ما قورن بأعداد السنوات الـ15 الماضية، والتي كان يصل إلى 150 ألف وجبة ما بين سحور وإفطار.

)

يُؤكد لنا الرجل أن الأسباب لا تعدو سياسات التضييق التي تُمعن في ممارستها السلطات الإسرائيلية والمتمثلة بحظر جملة من المؤسسات الخيرية التي كانت تدعم مشاريع إفطار الصائمين بالأموال ومنها الحركة الإسلامية (القطاعين الشمالي والجنوبي)، إضافة إلى حظر هيئة الأعمال الخيرية الإماراتية ومؤسسة قطر الخيرية، وذلك دون إبداء أسباب واضحة أو مبررات شافية، يقول:

حاولنا فهم الأسباب ولكن لم نجد سبيلًا للوصول إلى إجابة شافية لحجب الدعم هذا العام، أعتقد أنها أسباب سياسية لها علاقة بالاحتلال الإسرائيلي، وهدفه الكبير إفراغ المسجد الأقصى من رواده.

تواجد رغم الإبعاد

(المصدر:
دائرة الاوقاف الاسلامية في القدس

خارج المسجد الأقصى وإذا ما أطلقت بصرك لباب الأسباط سترى شجرة الزيتون العتيقة تُزين بخضرتها اليانعة مظهره وتُضفي إضاءة زينة رمضان فوق أوراقها رونقًا أخّاذًا، وإذا ما انحدرت ببصرك إلى أسفل تلك الشجرة ستُبصر وجه ستة من خيرة شباب القدس هم (طارق الهشلمون، أحمد الشاويش، نظام أبو رموز، رامي الفاخوري، جميل العبّاسي وروحي كالاغاصي) يقفون صفًا متراصًا يؤدون صلواتهم جميعها خاصة صلاة التراويح على مرأى من قوات الاحتلال في رسالة تحدٍ واضحة لأوامر إبعادهم القسري عن المسجد الأقصى.

(المصدر:
دائرة الاوقاف الاسلامية في القدس)

يُحدثنا المُبعد عن الأقصى «نظام أبو رموز» عن حيله ورفاقه للتعافي من آلام الإبعاد، لافتًا أنهم يتواجدون يوميًا في أقرب نقطة متاخمة للمسجد الأقصى، يُصغون بقلوبهم وآذانهم إلى صوت المؤذن، يتأملون من بعيد جمال المسجد وهو ضاج بالمصلين والمعتكفين من شتى بقاع فلسطين، فلا يبقى لأثر الإبعاد القسري في نفوسهم شيء، يقول:

عندها لا يعنينا الإبعاد كثيرًا، يبقى إبعاد جسدي لا يفت في الروح أبدًا.

ويُعاني «أبو رموز» من قرار الإبعاد منذ 20 شهرًا، فلا يحق له الدخول إلى ساحات المسجد الأقصى أو الصلاة على أي جنازة داخل أروقته حتى لو كانت لأقرب المُقربين منه، ومع ذلك لم يبتعد يومًا عن المسجد الأقصى، بين الحين والآخر يُحاول تخطي المنع بالوصول إلى داخل المسجد لكن الشرطة سرعان ما توقفه عند الباب وتمنعه من الخطي بخطوة واحدة فيؤوب إلى شجرة الزيتون خاصته عند باب الأسباط يُؤدي الصلاة على صوت الإمام ويُشاركه خمسة آخرين من الشبان المحرومين لمدد تتراوح بين شهر وستة أشهر من الوصول لباحات الأقصى.

ويُصر الاحتلال الإسرائيلي على زيادة قرارات الإبعاد للشباب الناشطين في إعمار المسجد الأقصى ولبعض حُراسه قُبيل شهر رمضان في محاولة منه لحرمان الأقصى من الطقوس اليومية والأجواء الروحانية الرمضانية، فيبدو حزينًا خاليًا لكنهم لا يظفر ولن يظفر بذلك.