إحدى دول إقليم البلقان، تبعد 72 كيلومترًا عن إيطاليا، عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي وحلف شمال الأطلسي ومجلس أوروبا، 70% من سكانها يعتنقون الإسلام، ينقسمون إلى  سُنة وبكتاشية شيعية – طريقة صوفية جاءت إلى ألبانيا خلال الفترة العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي تشترك في بعض الأمور مع الطائفة العلوية في تركيا – و20% مسيحيون. لكن تقارير الأمم المتحدة تصفهم جميعًا بغير المتدينين، على الرغم من انتمائهم لجماعات دينية.

يتنوع المناخ فيها، وتنتشر الغابات عليها، وفيها أكثر من 3000 نوع من نباتات تُستخدم لأغراض طبية، وناتج الفرد فيها قرابة 12 ألف دولار سنويًّا، وفيها أعلى معدلات العمر المتوقع في العالم بـ 78 عامًا للفرد، كل ذلك في مساحة لا تتجاوز 30 ألف كيلومتر مربع، هي مساحة ألبانيا.

جاء الإسلام إلى ألبانيا مع الإمبراطورية العثمانية، وانتشر في مناطقها الحضرية، وكان انتشاره أقل في المناطق البعيدة بسبب مقاومة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وبعض التضاريس الجبلية التي جعلت وصول العثمانيين صعبًا. وبدأت ألبانيا التي دخلها العثمانيون في الانهيار مع قدوم 1912 وتوقيع اتفاقية لندن. وبموجب تلك الاتفاقية وُزِّعت أجزاء من ألبانيا العثمانية على صربيا واليونان والجبل الأسود ومقدونيا، وبقيت بضعة كيلومترات مربعة تحمل اسم ألبانيا التي نعرفها اليوم.

بذلك تحولت أغلبية المسلمين الألبان إلى أقليات في البلدان التي وُزعوا عليها، كما باتت ألبانيا نفسها دولةً متآلفة من مجموعة من الأقليات. زاد من تهميشها أن أوروبا فرضت عليها أن تبقى دولةً محايدةً خاضعة للرقابة الدولية، وبالطبع كان على ألبانيا أن تطمس هويتها الإسلامية وتقطع علاقتها الثقافية مع العالم الإسلامي، وأن يُكتب دستورها وفق المعايير الأوروبية، وأبرز المعالم تغيير الحروف العربية إلى حروف لاتينية.

اغتيال القساوسة والشيوخ

لم تكن رحلة ألبانيا سلسةً، ولم يكن الدين أو التدين مجرد مظهر يتجلى حينًا ويختفي أحيانًا، بل بات الأمر نقطة اهتمام صنَّاع القرار، حتى تحولت ألبانيا ذات الأغلبية المسلمة إلى أول دولة ملحدة معلنة رسميًّا في العالم، وربما في التاريخ كله.

يبدأ التحول بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، إذ اعترفت عصبة الأمم بألبانيا دولةً مستقلة ذات سيادة وتحت حكم مجلس أعلى للدولة يتألف من 4 رؤساء يمثلون الطوائف الدينية في ألبانيا، المسلمون السُّنة والبكتاشية والأرثوذكس والكاثوليك. وفي عام 1924 بات أحمد زوغو رئيسًا للمجلس الأعلى، ونصَّب نفسه ملكًا لألبانيا عام 1928، وجعل نصب عينيه مهمة تحويل ألبانيا إلى بلد أوروبي بالكامل، وإنشاء قطيعة كاملة مع الإرث العثماني الإسلامي.

ظلت البلاد تحت سطوته حتى أتت الحرب العالمية الثانية، فوقعت ألبانيا تحت حكم إيطاليا الفاشية المؤمنة بالماركسية اللينينية؛ لذا أمسى من المنطقي أن يكون مندوب إيطاليا في حكمها هو الشيوعي البكتاشي أنور خوجا. حكم أنور البلاد لمدة 40 عامًا بالحديد والنار، صلاحيات لا محدودة وعداء لا ينتهي للدين ومظاهره. أمر خوجا باغتيال القساوسة والشيوخ، وبتدمير 1200 مسجد و400 كنيسة أو تحويلها لدور سينما أو قاعات رياضية أو مقرات حكومية، واعتقل خوجا 200 رجل دين من مختلف الأديان.

لذا كان تتويج قمعه بإعلان ألبانيا رسميًّا أول دولة ملحدة في التاريخ عام 1976، وأنشأ بتلك المناسبة متحفًا أسماه متحف الإلحاد، ووضع على بابه بيتًا من الشعر يقول قائله: إن الألبانوية هي دين الألبان. وخاض خوجا حربًا ضد الدين، وإن كان من الممكن أن نسميها حربًا ضد الله، سواء كما يعرفه المسلمون أو المسيحيون أو غيرهما، فهي حرب ضد الله في مختلف الجهات والجبهات والصور.

أوروبا تبتعد والعرب يرحبون

انتهى حكم خوجا لألبانيا عام 1985، لكن لم تخرج البلاد إلا عام 1992، بعد انهيار الشيوعية الشمولية بعامين. وصل صالح بريشا إلى السلطة عبر حزبه الديمقراطي العلماني، وقاد البلاد لمدة 4 سنوات. في تلك السنوات الأربع قام صالح بالعديد من الإصلاحات بهدف نقل بلاده لحكم ديمقراطي وإنهاء حالة العزلة التي كانت تعيشها ألبانيا، فلم يكن مسموحًا للمواطنين بالسفر، ولم تكن ألبانيا تملك أي علاقات دبلوماسية إلا مع الصين الشيوعية.

على الرغم من أن صالح ينتمي إلى خلفية علمانية، وعلى الرغم من أنه كان يتوقع أن تهرول الولايات المتحدة للاستثمار في ألبانيا باعتبارها كانت معقلًا سابقًا للشيوعية، فإن الولايات المتحدة خذلته، وكذلك فعلت أوروبا؛ لذا لم يجد الرجل حلًّا سوى التقدم نحو من تقدموا إليه بالفعل طلبًا للاستثمار في بلاده، الدول العربية والإسلامية، لذا انضمت ألبانيا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي.

بمجرد الانضمام بدأت المنظمات الإسلامية إنشاء مدارس جديدة، وترميم ما هُدم من دور العبادة. كما فعلت المنظمات المسيحية الأمر نفسه. ازدهرت الهوية الدينية مجددًا بشقيها الإسلامي والمسيحي. لكن لم يدم الأمر طويلًا، فانهيار فقاعة شركات توظيف الأموال وتدمير مستقبل عشرات الآلاف من الأسر التي استثمرت فيها خلق حالةً من الغضب والفوضى كانت أكبر من صالح، واستغلها حزب المعارضة الاشتراكي، امتداد الحزب الشيوعي، في إنهاء حكم صالح وأتباعه.

باتت ألبانيا تحت قيادة رئيس حزب المعارضة، فاتوس نانو، الذي لم يدخر جهدًا في طمس الوجود الإسلامي، وبالطبع بدأ بالانسحاب من منظمة المؤتمر الإسلامي.

شعب متسامح، أو شعب لا يبالي بالدين

تأرجح أهواء الحكام والسلطة لم يؤثر كثيرًا على مزاج الشعب الألباني الذي يميل إلى التعايش السلمي بصورة كبيرة، ففي عام 1992 ساعد المسلمون الكاثوليك في افتتاح الكاتدرائية في مدينة شكوردا، أكبر مدينة في شمال ألبانيا، ثم بعد أيام ساعد المسيحيون المسلمين في افتتاح مسجدهم الكبير في المدينة نفسها، كما أنه من المعتاد في ألبانيا أن يحدث زواج بين الأديان المختلفة والطوائف المتضادة.

لكن بالتأكيد لا يخلو الأمر من حملات سياسية لاستعداء طائفة على أخرى من أجل مكسب سياسي أو انتخابي. كما قال ألفريد مويسيسو، الرئيس الألباني عام 2005، إن الإسلام ليس دينًا أصيلًا في ألبانيا، وإنما جلبته الجيوش العثمانية إلى البلاد. وأكد ألفريد وغيره من الأدباء الألبان أن بلادهم تنتمي للثقافة المسيحية، وانتقدوا كثيرًا أفعال صالح بريشا لأسلمة ألبانيا.

وبعيدًا عن الخطاب العاطفي أو الحديث عن التسامح المفرط، ألا يمكن القول بأن حالة التسامح السلمية التي يعيشها الألبان ترجع إلى تحولهم التاريخي عبر حالات تدين مختلفة، المسيحية ثم الإسلام ثم الإلحاد ثم ترك الدين جملةً ثم العودة إلى نسخ متعددة من الدين، حيث خُلق بداخلهم حالة من عدم الاكتراث بالدين عمومًا. فالتسامح ليس عن وعي أو طيب خاطر، بل هو حالة من اللامبالاة تجاه الدين عمومًا.

خرج الحزب الاشتراكي من السلطة عام 2005، وخلفه الحزب الديمقراطي، لكن الاشتراكي عاد إلى الحكم مرة أخرى عام 2013، ثم فاز في انتخابات عام 2017، ووضع مشروعه الأكبر وهو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. جعل الحزب الاشتراكي من عضوية الاتحاد ستارًا للهيمنة على كل مفاصل الدولة، وفرض ما لا يطيقه السكان، وطمس الهوية الدينية على الجُملة، وعزل ألبانيا بالكامل عن العالم العربي والإسلامي، وفتح أبوابها فقط للدول الأوروبية.

محمد علي باشا

ومهما يكن من حال الحزب الاشتراكي، ومن تأرجح البلاد بين الحزبين، الديمقراطي والاشتراكي، فإنه من الممكن القول بأن البلاد قد جاوزت نوعًا ما مرحلة الخطر، وتخلصت من إعصار أنور خوجا والعديد من آثاره التدميرية.

ويبدو كذلك أن العالم الغربي يحاول تخليص نفسه من عار خوجا، إذ شهد عام 2015 هجومًا شرسًا على جيمي كوربين، اليساري وزعيم حزب العمال البريطاني، بسبب استخدامه لجملة منسوبة إلى خوجا. واجتمعت آراء الصحافيين الإنجليز على أن استدلال كوربين بمقولات خوجا أقرب ما يكون لتمليع ديكتاتور سيئ السمعة ومحط الكثير من الانتقادات في الأوساط الأوروبية.

لم يُحدد الصحافيون من يجب تلميعه إذن من الألبان، لكن يجدر الذكر أن المجتمع الألباني قدَّم للخلافة العثمانية العديد من الرجال الذين ترقوا في مراتب مناصب الدولة العثمانية، ومن أبرزهم وأشهرهم محمد علي باشا، حاكم مصر وتوابعها، الذي استقل بها عن الدولة العثمانية.