لفت احتفال لاعبيْ المنتخب السويسري شاكيري وتشاكا – ذوي الأصول الألبانية – بعد تسجيل هدفيهما في مرمى الصرب انتباه جميع متابعي كأس العالم، وهي إشارة للالتفات إلى هذه الأمة التي ينحدر منها محمد علي باشا والي مصر (1805 – 1848). عرفت ألبانيا عبر تاريخها تحولات خطرة؛ إذ انتقلت من المسيحية البيزنطية إلى العثمانية الإسلامية، ومن الشيوعية – كأول دولة اتخذت من الإلحاد دينًا لها – إلى الرأسمالية، ثم إلى الاشتراكية مجددًا. فلماذا تُقرن صربيا بألبانيا كلما ذكرت الثانية؟ وهل تاريخ ألبانيا ليس فيه إلا العداء مع الصرب؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في هذا التقرير.


لا يُهزم العثمانيون وأمامهم الألبان

ظلت ألبانيا حتى القرن الرابع عشر تحت السيطرة البيزنطية، إلى أن تنبه العثمانيون إلى أهمية موقع ألبانيا من البلقان باعتبارها بوابة شرقية لأوروبا ووسيلة لنشر الإسلام فيها. وعليه، انطلقت الصيحات العثمانية تجاه دول البلقان، وألبانيا التي في القلب منها، لفتحها.ورغم مقاومتها الدولة العثمانية مقاومة شرسة، وقعت ألبانيا تحت الإمارة الإسلامية 1571، ليتحول معظم أهلها إلى الإسلام، حيث تصل نسبة المسلمين في ألبانيا إلى 70%. ويتقدم منهم أبرز القادة والولاة السياسيون والعسكريون، لدرجة أنه عُرف عنهم أن الجيش العثماني لا يُهزم و مقدمته ألبانية.اشتدت المواجهات الأوروبية – العثمانية، وكانت في المحور منطقة البلقان، تزامن ذلك مع انهيار الإمبراطورية العثمانية. ومع تداعي تلك الدولة أخذت الحركات الانفصالية والاستقلالية في النشاط، حيث أعلنت ألبانيا على إثرها الاستقلال عام 1912 خوفًا من أن يصيبها التقسيم، إلا أن نتائج الحرب العالمية الأولى كانت سباقة إلى ذلك؛ حيث كانت منطقة البلقان من المناطق المستهدفة بالتقسيم، وتوزعت القومية الألبانية بين الدول الكبرى المنتصرة حينئذ (إنجلترا، فرنسا، صربيا)، وتجزأت ألبانيا إلى الجبل الأسود، وكوسوفو، ومقدونيا، وتقلصت مساحتها إلى أقل من الربع.غير أن الأمر لم يستمر على هذا الحال حتى زارها الاحتلال الإيطالي أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم الألماني، الذي انتهى بهزيمة ساحقة للألمان، وأُعلن على أساسها استقلال ألبانيا الأخير.


القبلة إلى اليسار كثيرًا

يشير الكثيرون إلى أهمية البلقان في التوازنات الدولية والعالمية نظرًا لأهمية موقعها الجغرافي، وهو ما دلل عليه التاريخ، وما يزال، في ارتباطها بطبيعة النسق الدولي السائد والقوى المسيطرة عليه.ومن هنا تحولت ألبانيا إلى الشيوعية على يد أنور خوجا والحزب الشيوعي من ورائه، لتُشكل حلقة من حلقات الاختراق الشيوعي لأوروبا، ولكن هذه المرة بشيوعية أكثر فجاجة، إذ أُعلنت ألبانيا أول دولة ملحدة، وأن «دين الألبان هو الألبانية» في محاولة واضحة لعزل الدولة عن سياقها التاريخي، لا سيما الإسلامي منه. وانطلقت الشيوعية في محاربة الإسلام والمسلمين حتى أضحى توزيع كعك العيد والتمتمة بسبحان الله جريمة يُعاقَب من يقترفها، في سلسلة استحكمت حلقاتها سنة 1967 بهدم المساجد وتحويل بعضها إلى مخازن.بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتساقط الدول الشيوعية (لا سيما دول أوروبا الشرقية)، ثار الألبان ونادوا بالإصلاح و الحرية، إلا أن هذه الدعوات النبيلة تـُرجِمت إلى سياسات اقتصادية وخارجية أكثر انفتاحًا عمقت الأزمة، وزادت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وعطلت الإنتاج كعادة التحولات الرأسمالية غير المدروسة!


ألبانيا والصرب: بين التاريخ والكرة

اللاجئون الألبان إبان حرب كوسوفو 1999

تاريخيًا شهدت العلاقات الألبانية – الصربية توترات عدة، كون الأخيرة أكثر قوة وقدرة فى اللعب على أوتار التوازنات الدولية والتواصل مع الأطراف الأوروبية، فبعد تفكك الإمبراطورية الصربية، ثم انضوائها تحت لواء الاتحاد اليوغسلافي، انضمت كوسوفو كولاية تتمتع بوضعية خاصة «حكم ذاتي» داخل الاتحاد، وفي نهايات الاتحاد اليوغسلافي، عمل الصرب على ضمان تبعية إقليم كوسوفو لهم ليكون تحت حكمهم المباشر 1990.وظلت العلاقات بين الطرفين الصربي والألباني حول إقليم كوسوفو في هدوء نسبي، لأسباب عدة داخلية تمثلت في وجود قيادات أقل استعدادًا للعنف، وأسباب دولية بتحولات وأوضاع غير مستقرة «التحول للهيمنة الأمريكية»، إلا أن الأمور اشتعلت بحرب غير متكافئة (1998- 1999) بين الصرب وألبان كوسوفو، راح ضحيتها ما يقرب من 13 ألف ألباني، وتشكل حينها جيش تحرير كوسوفو لتزداد وتيرة العنف والمقاومة.ولعل أهم حلقات هذا النزاع كان بإعلان كوسوفو من جانب واحد استقلالها عن صربيا 2008، وسارعت ألبانيا للاعتراف بها، والابتهاج بهذه الخطوة التي عدّتها هامة نحو وحدة القومية الألبانية، وهو ما اعتبرته صربيا إعلانًا صريحًا للعداء من قبل الألبان، وأخذت صورة العداء ساطعة لا تغيب عن شعبي البلدين. وهو ما برز جليًا من خلال مواجهتين كرويتين، جمعت الأولى الصرب والألبان في التصفيات المؤهلة لأمم أوروبا 2016، حيث لاح في الأجواء كم العداء بين الاثنين بمنع الجمهور الألباني من الحضور، ثم الطائرة التي عليها علم يمثل ألبانيا الكبرى والتي تضم كوسوفو. الثانية بين صربيا وسويسرا في دوري المجموعات لكأس العالم، حينما احتفل اللاعبان بهدفيهما بإشارة النسر ذي الرأسين، وبدا من تعليقاتهما مدى جرحهما الغائر والأحقاد التاريخية ضد الصرب التي تصل إلى حد التهجير القسري والإبادة حسب توصيف البعض.

سؤال الهوية الألبانية: من نحن؟

ألبانيا, كوسوفو, صربيا, حرب كوسوفو
ربما يتساءل الكثيرون، ومنهم الألبان، سؤالًا سهلًا قوامه: من نحن؟ وإلى من ننتمي؟ وإلى أي عصر يعود تاريخنا؟ إلا أن السهولة التركيبية (اللفظية) للسؤال لا تنعكس بالضرورة على الإجابة، لا سيما وأن حسمها يؤدي لا محالة إلى شقاق بعيد.فألبانيا، حسب العرض السابق، أمة تعيش في أكثر من دولة في البلقان، حيث يعيش في ألبانيا ما يربو على 3 ملايين نسمة، في حين يعيش أغلبهم خارج ألبانيا، أي ما يقرب من 5 ملايين نسمة. ومنها كانت القومية الألبانية أو حلم «ألبانيا الكبرى» حلمًا يراود كل الألبان المشتتين بين قوميات عدة كأغلبيات تتبع الأقلية المسيطرة كما هو الحال في كوسوفو مثلًا (إصرار الصرب على عدم الاعتراف بـاستقلالها)، كما أن التصريح بعلمانية الدولة يفصلها عن ستة قرون من الانتماء للإسلام والعيش في كنف حكمه في ظل العهد العثماني.إن إشكال الهوية ربما هو أهم إشكال يواجه ألبانيا، والذي إن حُسم بإجابة ترضاها الغالبية قد يغير من مستقبل تلك الدولة التي تعيش في ظل معضلة الفقر والغني.ورغم الإشارات المتكررة حول تحسن العلاقات بين الصرب والألبان، فدائمًا ما تعكر صفوَها أحداثٌ، حتى وإن بدت يسيرة كاحتفال لاعب كرة قدم أو طائرة عليها علم، الأمر أعمق وأكبر من أن تحله مباحثات أو تنهيه تصريحات، فآلام الشعوب وآمالها لا تنقضي بين عشية وضحاها، كما أنه لا يمكن فصل التاريخ عن الحاضر، فسؤال الهوية والقومية وذاكرة الألبان تجاه الصرب يصعب نساينه. إن الأمة الألبانية إذا ما أرادات أن تعيش وتنهض، عليها إعادة ترتيب دوائر الانتماء والهوية على النحو الذي يؤدي إلى الاعتراف بأن كوسوفو هي جزء من أمة ألبانية، وجزء من عالم أوروبي، ورافد من روافد أمتنا الإسلامية.