أثار اللقاء المشوب بالوجوم بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والبابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، تساؤلات عديدة، حول طبيعة العلاقة غير السوية بين الرجلين، وعما إذا كانت شخصيةً أم لاعتبارات أيديولوجية، وفي هذا التقرير نسلط الضوء ابتداءً على العلاقة بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية.

إبان حملته الانتخابيّة كرر ترامب في أكثر من مناسبة ضرورة إلغاء تعديل جونسون، و أكد أنه سيكون من أولوياته حال فوزه بالرئاسة. وبعد ثلاثة أسابيع من توليه الرئاسة قال إنه سيتخلص تمامًا من تعديل جونسون، وسوف يسمح لمُمثلي العقيدة بالحديث الحُر، دون أن يخافوا من الانتقام. وقال أيضًا إن حريّة التعبير لن تتوقف عند عتبة كنيسةٍ أو أي دار عبادة أخرى.

وقد كان؛ ففي يوم الخميس الرابع من أبريل/نيسان الماضي، أصدر قرارا تنفيذيا بإلغاء التعديل، فما «تعديل جونسون»؟ وما تبعات وجوده؟ ولماذا أثاره ترامب؟ وما تبعات إلغائه؟


لماذا عمد ليندون جونسون إلى إخراس الكنيسة؟

الرئيس الأمريكي الـ 36، ليندون جونسون

عام 1954 أقرّ الكونجرس الأمريكي قرارًا، عُرف تاريخيًا باسم تعديل جونسون،ينص هذا التعديل على أنّه لا يحق لأي منظمة معفاة من الضرائب (الكنائس والمنظمات غير الربحيّة) أن تقوم بأي ضغط من أي نوع على المسئولين المنتخبين، أو أن تدعم أي حملات انتخابية يقوم بها حزب سياسي، أو أن تدعم معارضة أي مرشح لأي منصب. ودعّم ذلك المادة (501) من قانون الضرائب الأمريكي، الذي ينص على أن الإعفاء الضريبي يُمنح المنظمات غير الربحية – ويشمل الكنائس- ما دامت لا تشارك أو تتدخل في أي حملة سياسية، سواء بالدعم أو بالمعارضة لأي مرشح لمنصب الرئاسة.

الطريف وراء هذا التعديل أنّ السيناتور الديمقراطي ليندون جونسون قد أعده خصيصًا لمُعاقبة مجموعتين مُحافظتين غير ربحيتين من ولاية تكساس، دعم المُرشح دادلي دوورتي، الذي وقف في وجه السيناتور جونسون، أثناء ترشحه للمرة الثانية في انتخابات الكونجرس، إذ قامتا بطبع بيانات ومنشورات تُطالب المواطنين بانتخاب دوورتي. ولكن ما إن تم الأمر للسيناتور جونسون المشهور بـأخلاقه السياسية المُتدنية حتى حث الكونجرس على المواقفة على تعديله المُقترح، ليُعاقب أعداءه الحاليّين، ولم يدر بخُلده أنه سيورث الأمة الأمريكية قانونا له ما بعده.


صراع محموم بين الدين والمؤسسة الأمريكية

وفقًا لـسكوت ولتر، رئيس مركز أبحاث رأس المال، أصبحت دائرة الإيرادات الداخلية «آي.آر.إس» الأمريكيّة تستخدم هذا القانون لتقويض حق المُنظمة الدينيّة في حرية التعبير، حيث يُمكن تكميم فم أي قسٍ إنجيليّ، حاخام أرثوذكسي، إمام مُسلم، أو كاهن كاثوليكي، يرغب في الحث على دعم مشروع قانون الحريّة الدينيّة.

كما جاء أيضًا على لسان جيه سيكولو، كبير مستشاري المركز الأمريكي للقانون والعدالة، فإن قانون جونسون يمنع الزعماء الدينيّين من ممارسة حقوقهم في حرية التعبير التي يحميها الدستور، عندما يتصرفون بصفتهم الرسمية، كقس أو رئيس منظمة دينية مُعفاة من الضرائب، وقد حوّل هذا القانون وكلاء مصلحة الضرائب إلى قوة شرطة تقيد حرية التعبير!

نخلص من ذلك إلى أنّ قانون جونسون صار سلاحًا في يد السلطة تُجبر به المنظمات الدينيّة كنسيّة أو إسلامية أو يهودية على الصمت، فمثلًا إذا كنت من طائفة معمدانيّة جنوبيّة تُعارض الإجهاض، فلا يُمكن أن تظهر دعمًا صريحًا لمرشحٍ ما في الكونجرس يعدُك بالعمل على تجريم الإجهاض، نظرًا لأن الكنيسة مُنظمة غير ربحيّة خاضعة لقانون جونسون. أو إذا كنت كاهنًا أو إمامًا ترى حرمة وسائل منع الحمل، التي يُجيزها قانون أوباما للرعاية الصحية، أوباما كير، فلا يُمكنك التصريح بالمُعارضة.

ولذا كان من المنطقيّ أن تظهر جماعة تُسمى جماعة الدفاع عن الحريّة، ودشنت حملة أسمتها «حملة حريّة المنبر»، تطالب فيها القساوسة بمُخالفة هذا التعديل والاحتجاج عليه؛ إذ يرون فيه مُخالفة للدستور الأمريكي الذي يقضي بأحقية الجهات المُشاركة في دعم الانتخابات أو حتى المُساهمة في هزيمة أي مُرشح في الحصول على تخفيض ضريبي، حتى لو كانت جهة مانحة ربحيّة؛ فيُمكنها أن تحصل على خصم ضريبي. بالإضافة إلى التناقض في أن القانون يُطبق على المنظمات الدينيّة، دون المجموعات الأخرى النشطة سياسيًا، مثل النقابات العمالية، والتي تميزت بدعم الديمقراطيين لفترة طويلة.


ترامب وانحيازاته المصلحية

أليس الفائز في الانتخابات هو الذي يحصل على أصواتٍ أكثر؟ لذا فما المانع من مُغازلة أي كتلة تصويتيّة مُتاحة، حتى لو كان ترامب هو نفس الشخص الذي لم يتمكن من ترديد إحدى آيات الإنجيل أثناء إلقائه كلمةً في جامعة مسيحية في ولاية فرجينيا؟ أو ترامب الذي دار بينه وبين بابا الفاتيكان فرانسيس تلاسنٌ شديدٌ، حين انتقد الأخير أثناء زيارته إلى المكسيك اقتراح ترامب – المُرشح الرئاسي آنذاك – إنشاء سورٍ بين المكسيك والولايات والمُتحدة، فأجابه ترامب بسخريته المُعتادة: «سيتمنى البابا لو أن ترامب هو الرئيس الأمريكي عندما تُهاجم داعش الفاتيكان».

صحيح أن ترامب كثيرًا ما وصف نفسه بالمسيحي الفخور، وحين قال بابا الفاتيكان إن ترامب لا يُمكن أن يكون مسيحيًا، فهو يتحدث عن بناء الجدران لا الجسور، ردّ عليه ترامب في تجمعٍ انتخابي في ولاية كارولينا الجنوبية بـ«أنه من المُخجل بشدة أن يُشكك زعيمٌ دينيّ في إيمان شخص ما. أنا فخور بكوني مسيحيًا. لا يحق لأحد – وعلى وجه الخصوص رجل دين – أن يشكك فيما يؤمن به شخص ما».

لكنّه أراد من خلال ذلك الوعد، أن يُثبت للمواطن الأمريكي أنّه جاء لتعزيز مبادئ الدولة الأمريكية، وأنّه جاء ليضع أمريكا أولًا، فلا يُمكن لدولة مثل أمريكا أن تحجر على رأي أي حد؛ وفي حفل الإفطار الوطنيّ السنوي يوم الخميس 2 فبراير/شباط 2017، ردًا على سؤال، قال في معرض إبداء رغبته في الخلاص من قانون جونسون: «إن أحدنا يتساءل كيف يُمكن أن ننسى مبدأ أن تلك الحريات هبةٌ من الرب، مثلها مثل حق العبادة».

وقد نجح في الوفاء بعده بإعلان قراره التنفيذيّ يوم الخميس وسط حشدٍ من كبار رجال الدين وقادة المُنظمات الدينيّة، قائلًا: «إن إدارتي تتخذ اليوم خطواتٍ تاريخيّة لحماية الحريّة الدينيّة في الولايات المُتحدة». وأضاف: «لن نسمح باستهداف المؤمنين أو التنمر بهم أو إسكاتهم بعد الآن».


تبعات القرار وثغراته

ليندون جونسون

يُمكن القول إنّ تلك الخطوة تُعد تحديًا واضحًا لعلمانية الولايات المُتحدة، التي اعتمدت دائمًا على الموازنات المالية والمصالح المُشتركة، ولم يكن لأي جهة دينيةٍ فيها أي دور. وسيفتح ذلك القرار الباب أمام المُنظمات الدينيّة للتعبير عن الأمور التي تراها خاطئة أو مُخالفةً لمُعتقداتها. صحيح أن الصورة لم تظهر كاملةً كما سنوضح في الفقرة التالية، إلا أنّه على أقل تقدير سوف يحمي حق المُنظمات الدينيّة في التعبير عن رأيها، ويقيها من مخاطر وجود حكومة فيدراليةٍ غير عادلة.

ولا تبدو الكنائس أو المُنظمات الدينية عازمةً على التدخل الصريح في الحياة السياسية، أو إنشاء أحزابٍ على هذا الأساس، ومن ذلك إجابة بابا الفاتيكان على سؤال أحد الصحفيين بخصوص إنشاء حزب سياسي: «لابد أن حضرتك من القرن الماضي، لا نريد أن نتدخل في السياسة الداخلية». حتى أن بعض الكنائس قابلت القرار برفضٍ شديدٍ، مُؤكدةً أن الإبقاء على تعديل جونسون هو ضرورةٌ؛ حيث سيؤدي إلغاؤه إلى الإساءة إلى المنظمات غير الربحية بدخولها مجال السياسة، وسوف يُزيد من استخدام الأموال القذرة لربح المعارك السياسيّة عبر المُنظمات الدينيّة. ولقي القرارُ معارضةَ شديدةً من مجلس العلاقات الأمريكيّة الإسلاميّة.

وقال مدير العلاقات الحكومية روبرت ماكاو: «إن تدمير فصل الكنيسة عن الدولة، وهو المبدأ التأسيسي الذي بُنيت عليه دولتنا ودستورنا وديمقراطيتنا، سيكون بداية نهاية الحريات الدينية التي نعتز بها جميعًا».

وبينما رحبّت به طائفة لاتفاقها معه، رحبت به طائفةٌ أخرى لأنّه لا يُغير من الأمر شيئا.

الطائفة الأولي: حيث صرح جودي هايس في لجنة الرقابة الداخلية والإصلاح الحكومي بأنّ القرار جاء ليمحو الآثار المُروعة التي كان يُمثلها قانون جونسون. وكذلك رئيس لجنة الطرق والوسائل المنزلية كيفن برادي، الذي قال إنه سيُدخل تعديلاتٍ على الجزء الضريبيّ من القانون في مشروع الإصلاحات التي تُعدها لجنته.

الطائفة الثانية: الاتحاد الأمريكي الذي كان قدّ صرّح في وقت سابق، حين سرت الشائعات حول صدور القانون قبل صدوره رسميًا والتي نشرتها صحيفة ذا نيشن، بأنّهم سيقاضون الإدارة الأمريكيّة، ولكنّهم تراجعوا بعد ذلك حين صدر القرار رسميًا؛ فوفقًا لتصريحات روبت فايمسان مُدير الاتحاد فإن القانون لا يُغيّر من القانون الحالي شيئًا، بل كل ما هنالك أنّه سيجعل من عمليات استخدام الأموال القذرة في العمليات السياسيّة أمرًا مشروعًا وعلنيًا. وكذلك وصفه المُدير التنفيذي لمنظمة «آكلو» أنطويني روميرو بـ «أنّه صورة فوتوغرافيّة لا تُغير من الأمر شيئا، إنّه فقط يهدد نواحي الصحة الإنجابيّة».

كانت التسريبات التي سبقت صدور القرار ، والتي لاقت ترحيبًا شديدًا من المُحافظين، تتحدث عن السماح لتلك الهيئات الدينيّة بمُعارضة قوانين المثليّة الجنسية أو حقوق المثليين، وتسمح لهم برفض تقديم الخدمات لهم.

وخلاصةُ القول إنّه من الواضح أن ترامب جاء بأجندة لا تعتمد على تسيير الأعمال حتى انتهاء مُدته الرئاسية، بل جاء بخطةٍ تهدف إلى عدم الركون إلى الوضع الراهن، وإعادة صناعة واقع يوجد في خيال ترامب، ولم يستطع أحدٌ تبيّن معالمه حتى الآن.