للحرب أجيالٌ أربعة. اعتمد الجيل الأول على البنادق فقط، مما استدعى حشد أكبر عددٍ من الجنود، وصفّهم في مجموعات كثيفة الأعداد؛ لتنتج نيرانًا كثيفة. جاء الجيل الثاني ليضع كثافة النيران فوق كثافة البشر. فلم تكن الكثافة البشرية بأهمية إنتاج نيران كثيفة عبر خطط عملياتية، وتحركات عسكرية مدروسة. اعتمد الأول والثاني على استنزاف العدو بأكبر قدرٍ ممكن، إلى أن جاء الجيل الثالث ليعتمد على الحرب الخاطفة عبر المناورات والضربات المُوجعة بدلًا من الاستنزاف.الجيل الرابع جاء ليُذيب الفرق بين الحرب والسلام. لا وجودَ فيه لجبهات قتالٍ مُعينة. ولا فرق بين مدنيّ وعسكريّ. الضربات تتم في عمق دولة الخصم. ليس في العمق المادي والعسكري فقط، ولكن في العمق الثقافي والبناء المُجتمعي. جرى تجنيد التقنية، وترويض فيروسات الحاسوب ليكونا سلاحًا فتّاكًا في هذا المجال. أضحت وسائل الإعلام، ونشرات الأخبار أشد تدميرًا من فرقِ عسكرية كاملة. واحتل مصطلح «الحرب النفسية» مكانةً أعظم من أي وقتٍ مضى.

في حروب الجيل الرابع، ليس شرطًا أن يتم الإعلان عن الجهة التي تخوض الحرب. مما يعني إرباكًا للمجتمع الدولي بخصوص إدانة المسئول. ولا وضوح للجهة التي ينبغي أن يتم التفاوض معها بشأن الهدنة أو الاستسلام. أضف إلى ذلك، الرعب الذي يبثه وجود قوات غير نظامية في نفوس السكان، فلا يعرف السكان هيئتهم، ولا هدفهم، ولا أخلاقهم الحربية.

يومًا بعد آخر تتضاءل الحاجة إلى عدد الجنود الكبير، يقل الداعي إلى وجود مئات الألوف في صفوف الاحتياط، وتزيد الحاجة إلى قوات رشيقة، سريعة الحركة، عظيمة الأثر، تُنفذ ما يُطلب إلى النهاية. كذلك تتجه الصناعات العسكرية نحو كل ما خف وزنه وعظم أثره، بدلًا من مما ثقل وزنه وقلّ تأثيره، كالدبابات مثلًا.


روسيا التي سبقت

ما سبق، وعاه القيصر الروسيّ بوتين، المُتهم الأول بأن أسلوبه الحربيّ جاء من القرن الـ 19، ولن يتطور أبدًا. ففي عام 2008 حين غزا جورجيا استغرق أشهرًا من أجل بناء الكباري والسكك الحديدية من أجل نقل آلياته العسكرية، وحشد جنوده. لكن حين نوى غزو شبه جزيرة القرم في 2014 انتهج أسلوبًا أكثر مناسبةً للحروب المستقبلية. شنّ حربًا مفاجئة وسريعة. نفذّتها قوات ترتدي ملابس عسكرية غير واضحة المعالم، يستطيعون خوض حرب شوارع، لا يتقيدون كثيرًا بالقوانين والأعراف الدولية للحروب.والجنديّ المجهول في غزو القرم كان «التقنية». وسائل الإعلام الروسية تسوق المبررات للتدخل الروسيّ. وتُظهر روسيا بمظهر المُخلّص لا القاتل. فـ650 ألف أوكراني طلبوا اللجوء لروسيا، وفق الإعلام الروسي. وفي ظل انقطاع وسائل الاتصال بين مراكز القيادة والمشرعين في القرم، بسبب هجوم إلكتروني قام به مبرمجو بوتين، أصبحت الروايات الروسية هى الحقيقة الوحيدة لما يحدث في القرم. فلم يعرف المجتمع الدولي بغزو القرم إلا حين انتهى الغزو.التنافس المحموم بين الولايات المُتحدة وروسيا لم ينتهِ يومًا. ولئن كان جوربتشوف قد أعلن قبل ما يناهز العقود الثلاثة وقف التنافس التسليحي مع الأمريكان، فإن القيصر الجديد أعاد لبلاده ما تأخر عنه غيرها. ولم يتقيد بمجالات دون غيرها. ليس من الواضح أيّ الدولتين بدأ أولًا، لكن كما طوّرت روسيا مفهوم الحرب في عقيدتها العسكرية. رغبت الولايات المُتحدة بفعل المثل، لذا وَضعت خططًا كثيرة تتمحور حول خفض عدد الجنود من 520 ألفًا إلى 450 ألفًا فقط بحلول 2019. وخفض قوات الحرس الوطني من 355 إلى 335 ألفًا، وتقليل عدد القوات الاحتياطية من 205 آلاف إلى 195 ألفا. وطال الترشيد أسلحة «المارينز» كذلك؛ فسيتم تقليصها إلى 182 ألفًا من أصل 192 ألفًا. ولم تسلم القوات الجوية؛ فسيتم استبعاد 4 أجنحة جوية بالكامل تدريجيًا، مع تقليص عدد الطائرات، وتقليل ساعات الطيران، وإلغاء برامج تدريب، مشروعات تسلح، وبعض القواعد العسكرية. وبالطبع لن ينجو المدنيون العاملون في وزارة الدفاع، البالغ عددهم 800 ألف، من عمليات التقليص تلك.


نثق في الرب

مجندة من الجيش الأمريكي

جملة مطبوعةٌ على العملة الأهم في العالم. تبدو عقيدةً يُؤمن بها الجيش الأمريكي. فالمُتتبع يجد أن تقليص الأعداد هي عادة الجيش على مدار تاريخه. ولكن ذلك لم يمنع الولايات المُتحدة يومًا من أن تكون وأن تبقى القوة الأعظم.

في 1950 كان قوام الجيش الأمريكي كاملًا، بجنوده في الداخل والخارج وبمختلف أفرعه، هو 2.9 مليون جندي، ثم انخفض عام 1975 بعد حرب فيتنام إلى 2.1 مليون جندي، ومع نهاية الحرب الباردة صار 1.4 مليون، واليوم أصبح 1.3 مليون فقط.

كذلك قلت سفن البحرية الأمريكية من 1000 سفينة عام 1955 إلى 560 سفينة عام 1975، ثم إلى 270 اليوم. كذلك انخفضت أعداد الطائرات المُقاتلة من 4400 عام 1985 إلى 2500 مقاتلة عام 2000 ثم صار اليوم 2000 مقاتلة فقط. ورغم انخفاض الأعداد في القوات إلا أن الأرقام زادت بشدة في باب الصيانة والتطوير. من 50 ألف دولار للآلة الواحدة عام 1955 إلى 266 ألف دولار اليوم.إذن، فالجيش الأمريكي واضحٌ في مذهبه منذ البداية. قوةٌ أصغر، بكفاءةٍ أعلى. وهذه الأرقام تعني أن الجيش الأمريكي سيصبح في أقل حالاته منذ الحرب العالمية الثانية. وإذا أخذنا في الاعتبار التوصيات المُرفقة مع خطط التقشف وتقليص الأعداد تلك، بأن يزداد الاهتمام بالحرب التكنولوجية، نجد أنّه يمكن للجيش الأمريكي أن يظل قوة عظمى، وأن يحقق انتصارات واسعة، لكن في الحروب الخاطفة. ما يعني أن الجيش لن يحتمل اجتياح دولة أخرى لفترة طويلة كحال العراق وأفغانستان. يثير ذلك خوفًا داخليًا من أن تهديدات الولايات المُتحدة بشأن استخدام القوة العسكرية لن تُؤخذ على محمل الجد بعد ذلك. لكن حتى إن حدث ذلك، فحلفاء الولايات المُتحدة الأثرياء يمكنهم أن يتصدروا هم المشهد بدلًا عنها.دائمًا ما تجعلنا الولايات المُتحدة مُتشككين في صدقها. وكذلك، يحق لنا أن نشك في أنّها تفعل ذلك من أجل التطوير ومواكبة المستقبل فحسب. ألا يمكننا أن نربط بين ما تكبدته من خسائر على الأقل في آخر حربين -أفغانستان والعراق- وبين خطتها الهادفة إلى تقليل الإنفاق العسكري.فلا بد للدولة التي عانت من أزمة مالية عاتية، ولم تتوقف عن رفع موازنتها العسكرية مُضطرةً في أغلب الأحيان من أن تعيد التفكير في مفهوم الحرب لديها. فمن أجل الإبقاء على جيوشها بالخارج ارتفعت الموازنة من 360 مليارًا عام 1999 إلى 537 مليارًا عام 2011، ثم إلى 660 مليارًا في 2017. إضافةً إلى 1.3 تريليون دولار كبند خاص لحرب العراق وأفغانستان، مما يجعل التكلفة الإجمالية للحربين 3 تريليونات دولار.

الأقرب إذن أنّ تلك الخطط جاءت لتراعي الوضع المالي المُتجه إلى التقشف عسكريًا لصالح الإنفاق الداخلي. خاصةً مع قلة الداعي إلى كل هذا الزخم العسكري. لم تعد هناك حرب عالمية ثانية، ولا تلوح أمامنا نيةٌ عالمية لقيام حرب جديدة. وهذا الهدوء ليس هدوءًا كالذي شهده العالم أثناء الحرب الباردة، بل استقرار حقيقيّ رسخه عزوف القوى العظمى عن الحرب كخيارٍ حقيقيّ لحل الخلافات. كذلك التكنولوجيا المُتقدمة جعلت قياس القوة العسكرية بعدد الجيش ضربًا من السذاجة.


هل تموت أمريكا؟

تثير تلك الخطط أيضًا قلق المُؤمنين بالإله الأمريكي حامي حمى الديمقراطية في العالم، إذ يصيبهم الرعب من أن الولايات المُتحدة ستصبح عاجزةً عن النفير من أجل حماية حقوق الإنسان في دولةٍ ما، أو من أجل إرساء الديمقراطية في دولة أخرى. وهو خوف له اعتباره؛ فمع الخفض المُتوقع لن تصبح الولايات المُتحدة قادرة على خوض حربيّن في آن واحد. كما يمكن لهذا الجيش الصغير الرشيق أن يُثير شهوة الأعداء في مهاجمته.والمشكلة ليست في العدو فقط، بل في الجندي الأمريكي أيضًا. جنود قليلون بإمكانات قليلة في حالة تأهب مستمر لمجابهة عدو كالصين أو كوريا الشمالية أو روسيا مثلًا، حيث أعداده ضخمة، أسلحته متطورة، بعقول برمجية مُحترفة. هذا الخوف صاغه القائد السابق لسلاح الجو الأمريكي «توماس ماكنزي» بقوله إن خفض القوات من شأنه تسريع القضاء على التفرد العسكري الأمريكي.لكن لغير الأمريكي المهتم فقط بالإجابة على سؤال هل تموت أمريكا؟ فالأخبار الحزينة أن شمس الهيمنة الأمريكية لا تبدو مائلةً للأفول. فالخطط السابقة تُعتبر تحولًا تكتيكيًا في التخطيط، لا تعني انسحابًا من منصب أستاذ العالم. إنما محاولة لتفكيك منظومة وبناء أخرى. فلنهدم منظومة القوة الخشنة المعتمدة على القوة والتهديدات. لننشئ منظومةً جديدة ذكية، باطنها الخشونة، وظاهرها القوة الناعمة. بمعنى، فلنهدد باستخدام قوتنا العسكرية الضاربة، ولنجعل وسائل إعلامنا، وقنواتنا الدبلوماسية تتكفل باحتواء خصومنا، دون أن نضطر إلى التنفيذ. ولو اضطرت الولايات المُتحدة إلى الحرب مرةً فستفعل. فالدولة التي قامت بأكثر من 250 تدخلاً عسكريًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في مختلف بلدان العالم، لا يمكن أن تغير عقيدتها بهذه السرعة.


ترامب: حيث لا ثابت غير الجنون

طوال فترة حكم «أوباما» كانت استراتيجيات خفض الإنفاق العسكري هى الغالبة. وكان من المتوقع أن تستمر بعض الخطط إلى 2019. لكن ترامب في خطابه الأول أعلن عن

زيادة قدرها 54 مليار دولار في الإنفاق العسكري. زيادة هي الأكبر في تاريخ وزارة الدفاع الأمريكية. المُلفت في زيادة ترامب ليس ضخامة الرقم بل غياب الهدف. حين زاد «كارتر» الإنفاق كان من أجل عمليات موسعة في الخليج العربي. وحين فعلها «ريجان» كان من أجل التنافس مع الاتحاد السوفيتي. وحين فعلها «جورج بوش» كان لحربي العراق وأفغانستان. أما «ترامب» فوضع الميزانية الآن، وسوف يبحث عن الاستراتيجية لاحقًا.الاستراتيجية يمكن استقراؤها من تغريداته، الرجل يدعو إلى تحدي الصين وإيران بشكل أكثر جدية، ويشدد على ضرورة تطوير البرنامج النووي الأمريكي أكثر فأكثر. وطالب بإضافة 100 مقاتلة جديدة إلى أسطول المقاتلات الأمريكية. وبإنفاق 400 بليون دولار على إنتاج طائرات من طراز «إف-35». وبزيادة سفن وغواصات البحرية الأمريكية من 275 إلى 350 دفعةً واحدة.

حدسي الأساسي كان الرغبة في الخروج، وكعادتي أحب الاستماع إلى حدسي. لكن كما سمعت أن القرارات تختلف حين تجلس خلف المكتب

الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»

هكذا رد ترامب على التناقض بين ما دعا إليه في 2013 من الخروج العاجل من أفغانستان، وبين ما أمر به من إرسال 4 آلاف جندي إضافي إليها في 2017. ويبدو أن الجيش الأمريكي سيتحمل كثيرًا من القرارات المفاجأة، غير المدروسة في الفترة الأخيرة.المُحزن هنا تلاشي الحُلم بأن تقلل الولايات المُتحدة دس أنفها في قضايا غيرها. فيَد ترامب السخيّة في الإنفاق العسكري تسعى لبناء جيش لا يُقهر عددًا وعُدة. مما يمثل ضربةً عنيفةً للتنبؤات والتحليلات التي تحدثت كثيرًا حول قرب انهيار الجيش الأمريكي، أو على الأقل عدم قدرته على خوض حرب طويلة، وعدم قدرته على الخروج من أراضيه، والتحول من جيش هجوميّ إلى جيش دفاعيّ قانع بالبقاء في ثكناته. ويبدو أن أمام العالم عامةً، والشرق الأوسط خاصةً، عقدًا إضافيًا من الخضوع لهيمنة المقاتل الأمريكي الشرس.