لا يمر أسبوع تقريبًا بدون أن نسمع أن إنجازًا جديدًا يخص تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، كبرمجية الذكاء الاصطناعي من جوجل والقادرة على إجراء حوارات فلسفية وفنية وكروية مع البشر، وأيضًا انتصار البرنامج الذي طورته جوجل تحت مسمى AlphaGo على بطل العالم في لعبة Go في 4 جولات من أصل خمس، وهو الانتصار الذي كان يمثل تحديًا أمام علماء الذكاء الاصطناعي، وكان أكثر المتفائلين يقولون أنه لن يحدث قبل 10 سنوات أخرى. وكذلك نجاح قصة قصيرة كتبتها برمجية ذكاء اصطناعي يابانية في اجتياز المرحلة الأولى من تصفيات مسابقة أدبية شهرية، حيث خدعت الأدباء المحكمين والذين لم يدركوا أن القصة هي نتاج تفكير برنامج حاسوبي سوى بعد انتهاء المسابقة. ولم ننس بعدُ ما حدث عندما أطلقت ميكروسوفت برمجية ذكاء اصطناعي مبرمجة لكي تتعلم وتتطور من خلال تفاعلها مع البشر على تويتر. وبعد أقل من يوم وأكثر من 90 ألف تويتة أصبح البرنامج نازيًا كارهًا للبشرية وللحركات النسوية ويطالب بحرق كل اليهود على الأرض، وهذا حتى قامت ميكروسوفت بإيقاف التجربة وحذف التويتات المسيئة والاعتذار عنها في بيان تالٍ.

http://gty.im/91523134

تلك التجارب تدفع كثيرًا من البشر للخوف، وفي رأيي ليس الخوف هنا مبنيًّا على أساس تجريبي قدر ما هو منطلق من عدم الثقة، والأمر كما أراه لا يدعو للثقة بالفعل. فأنا -مثلًا- لن أثق قطعًا في أن تقوم دولة نووية بتسليم شفرة أسلحتها النووية لبرمجية ذكية من إنتاج ميكروسوفت بعد ما حدث في تويتر، وخبر كهذا لن يجعلني أنام متوقعًا قيام حرب نووية في أي لحظة بسبب غباء برمجية ذكية قررت في لحظة أن البشر يستحقون الحرق. وكذلك نرى ما قدمته أفلام الخيال العلمي كسلسلة terminator والتي قدمت نظام ذكاء اصطناعي يسمى skynet استطاع في لحظة الخروج عن سيطرة البشر ومن ثم إعلان الحرب على البشر بعد أن استطاع السيطرة على كل الأنظمة الإلكترونية. ويذكرنا هذا دائمًا بشركتي جوجل وفيسبوك، واللذين يسيطران فعليًّا على الإنترنت حاليًا، حيث لا يستطيع أي إنسان غير محترف حاليًا استخدام الإنترنت بدون استخدام أحد خدماتهم وبدون أن تمر بياناته الشخصية على مخدماتهم؛ لذلك فشعار جوجل هي سكاي نت المستقبل أصبح شعارًا مشهورًا. دفعت هذه المخاوف مجموعة من كبار العلماء ورجال الأعمال على رأسهم ستيفين هوكنج Stephen Hawking، وإلون ماسك Elon Musk ، وستيف وازنياك Steve Wozniak أحد مؤسسي شركة أبل، وفرانك ويلكزك Frank Wilczek أستاذ الفيزياء في MIT والحائز على جائزة نوبل، ونعوم تشومسكي Noam Chomsky المفكر والفيلسوف الأمريكي وآلاف غيرهم، إلى كتابة خطاب مفتوح يطالب عدم تطوير أي تقنيات ذكية بهدف عسكري أو بقدرات حربية تمكنها من التحرك واتخاذ القرارات دون سيطرة بشرية. فهل الأمر يستحق بالفعل كل تلك المخاوف؟، هل سيسيطر الذكاء الاصطناعي على البشر؟.


كيف بدأ الأمر منذ الأساطير اليونانية؟

كان ألن نيويل أول من أطلق مصطلح الذكاء الاصطناعي Artificial intelligence على هذا المجال من البحث الحوسبي عام 1956. وتعتبر حقبة الخمسينات فترة ميلاد علوم الذكاء الاصطناعي الحوسبي كما نعرفه اليوم، لكن ورود فكرة وجود (أو خلق) آلية ذاتية على ذهن البشر حدث في فترة أقدم من ذلك كثيرًا؛ أقدم مما نتخيل.

http://gty.im/544336399

في الميثولوجيا اليونانية القديمة، تحكي إحدى الأساطير عن هيفيستوس Hephaestus ابن زيوس ملك الآلهة وهيرا ملكته، وكان قبيح الهيئة؛ فألقي من السماء للأرض ليصبح إله الحديد والنار والبراكين والحدادة والصناعة. ومن ضمن ما تحكيه الأسطورة عن هيفيستوس تقول إنه استطاع صناعة تماثيل ذهبية وفضية قادرة على الحركة والدفاع عن قصور الآلهة وقتل الأعداء. كان هذا التمثال المصنوع المتحرك هو أول تخيل لآلية قادرة على (الفعل) بذاتها، ذكرها هوميروس في قصائده. كما تحكي الأساطير اليونانية أيضًا عن تالوس؛ عملاق نحاسي صنعه هيفيستوس -وربما دايدالوس Daedalus- بناءً على طلب الإله زيوس ليحمي يوروبا الموجودة على جزيرة كريت. كان تالوس يجوب شطآن الجزيرة ثلاث مرات يوميّا ليحميها من القراصنة والغزاة. ألا يذكرك هذا بالآليات الذكية العملاقة في أفلام Terminator؟. وهناك دلائل أيضًا على وجود مثل هذه الأفكار عن المصنوعات الذكية وربما محاولات لبنائها أيضًا في الحضارة الفرعونية والصينية القديمة.

وبقفزة طويلة للأمام في نهر الزمن وصولًا للحضارة الإسلامية، وتحديدًا لكتابات جابر بن حيان، نجد أنه تحدث في كتبه عن (التكوين) وهو محاولة جعل الجماد عاقلًا، أو خلق كيان عاقل باستخدام علم الخيمياء، لكن لا يوجد دليل أنه حاول القيام بهذا. ثم للأمام حتى الآن، سنجد أن فكرة كيان آلي أو مُصنّع يملك ذكاءً وقادر على الحياة وممارسة مهام مختلفة واتخاذ قرارات -حتى لو كانت سيئة- كانت فكرة متكررة في الأدب والثقافة الغربية بشكل عام.

تاريخ الذكاء الاصطناعي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ علم المنطق وكذلك الفلسفة، فالذكاء الاصطناعي يفترض قدرة الآلية على التفكير واتخاذ القرار بنفس منهج وطريقة العقل البشري، وهو الشيء الذي أمضى الفلاسفة عقودًا في محاولات لفهمه ووضع خطوط عامة له. بداية من أفلاطون فأرسطو وإقليدس حتى ويليم الأوكامي، وكذلك الكثير من العلماء العرب كالخوارزمي، وكذلك رينيه ديكارت وتوماس هوبز والذي كان يؤمن أن المنطق ما هو إلا عملية حسابية، وكذلك غوتفريد لايبنتس الذي يعتقد أن أي خلاف فكري أو فلسفي بين شخصين يمكن حله والوصول للصواب باستخدام محاسب ماهر يقوم بتبسيط الأمر حسابيًّا وتقديم الحل. وحقيقة التاريخ تقول إن محاولات فهم منطق تفكير الإنسان نادرًا ما انفصلت عن محاولات فهم الكون، وكذلك هندسة الأشياء؛ الفيزياء والرياضيات.


القرن العشرين؛ بين الصفر والواحد

جورج بول

في منتصف القرن التاسع عشر، قدم العالم جورج بول نظريته الخاصة في المنطق الجبري، والتي أطلق عليها لاحقًا الجبر البولياني في كتابيه The Mathematical Analysis of Logic و The Laws of Thought، وهي النظرية التي تعتمد على قيمتين فقط (الصفر والواحد) لتمثيل أي متغيرات في أي عملية رياضية، واعتُبرت بعد ذلك الأساس لعلوم الحاسب والنواة التي نشأ عليها عصر المعلومات الحالي.

لا يمكن وضع/ابتكار وسيلة عامة لحلّ أسئلة نظريّة الاحتمالات من دون أن تعترف الوسيلة صراحة: ليس فقط بالأسس العدديّة الخاصّة للعلم، وإنما أيضًا بالقواعد الكونيّة للفكر، والتي تمثّل الأساس لجميع فروع المنطق والتي تتخذ هيئة رياضيّة بغضّ النظر عن جوهرها.
جورج بول

بناءً على المنطق الجبري لجوتلوب فريجه قام الفيلسوف الشهير برتراند راسل ومعه ألفريد نورث وايتهيد بكتابة (أسس الرياضيات Principia Mathematica)، وهو الذي شجع الفيلسوف وعالم الرياضيات الألماني دافيد هيلبرت على محاولة حل التحدي المطروح وقتها: هل يمكن تعميم المنطق الرياضي على جميع أنواع المشاكل؟، فيما يعرف ببرنامج هيلبرت. ويتطلب الحل النجاح في جعل لغة الرياضيات موحدة وبقواعد بديهية ثابتة يتبعها الجميع أثناء تطبيق المعادلات الرياضية، بحيث تتضمن كل الحقائق الرياضية، مع عدم وجود أي تعارض أو تضارب بينها، وكذلك إمكانية تطبيق أي معادلة رياضية على معضلة حقيقية والوصول للحل الصائب دون الحاجة لوضع افتراضات مثالية مغايرة للواقع، مع إيجاد لوغاريتمات واضحة تبين صحة أو خطأ جميع البيانات الرياضية. انطلاقًا من هذا التحدي قام كورت جودل باستخدام مبرهنات عدم الاكتمال Gödel’s incompleteness proof، وكذلك آلان تورنج وألونزو تشرشت، بإثبات أن برنامج هيلبرت -أو يمكن أن نسميه معضلة هيربرت- غير قابل للتطبيق. لكنهم أدركوا أن أي معضلة تخضع للمنطق الرياضي يمكن تمثيلها بشكل آلي باستخدام القيمتين (الصفر والواحد). قدم تورنج نظريته التي تؤكد ذلك (آلة تورنج Turing machine)، وهي نموذج نظري لآلية قادرة على معالجة أي بيانات باستخدام النظام الثنائي. قاد عمل تورنج البداية الحقيقية لعالم الحاسوب، كما قام عمله بعد ذلك بوضع حجر الأساس لتقنيات الذكاء الاصطناعي أيضًا -والتي ارتبط تطورها منذ البداية بتطور علوم الحاسب الآلي-، وهو ما سنتحدث عنه في المقال القادم: آلان تورنج، واختباره الشهير (اختبار تورنج Turing Test).

المراجع
  1. 1
  2. 2
  3. 3
  4. 4
  5. 5