اندلعت الحرائق في غابات الأمازون، لتنطلق بعدها حملة تفاعل على منصات التواصل الاجتماعي، محذرة من احتراق رئة الأرض، انتشرت كذلك العديد من القراءات التي تُحمل النظام البرازيلي الحالي أسباب تفاقم تلك المشكلة.

مع الاحتباس الحراري الذي تتسبب فيه الدول الصناعية الكبرى، ساعد النظام السياسي الحالي بالبرازيل في تفاقم أزمة الحرائق، وتعامله مع الملف بانتهازية قد تؤدي لتدمير التنوع البيولوجي في الغابات وصولًا لتأثير الحرائق على غلاف الأرض الجوي.

ماذا عن مصر؟ هل تسبب النظام السياسي في أمر مشابه وهدد حياة الكائنات الحية والبشر فيها من خلال سياسات كان ينظر لها في بادئ الأمر على أنها قومية كما البرازيل؟

الواقع يجيبنا: أي نعم، فالنظام السياسي منذ محمد علي قام بتدمير الحياة البيئية في مصر، لكن الأخطر هو تلك التحولات التي حدثت في عهد الدولة الناصرية وحتى اليوم، مشاريع قومية تتحول إلى عبء وكابوس مرعب، عن أمراض وأوبئة لم تستطع الدولة مواجهتها، بل كانت سببًا في وجودها، والأكبر أنها قد تسببت في انهيار المجتمع من داخله، حتى بلغت تهديد سواحل مصر جميعها بالغرق، في واجهة نتائج الاحتباس الحراري بذوبان الثليج.

مصر هبة النيل! ذلك النهر الذي كان وجوده قرين ظهور الدولة المركزية في مصر، فقد كانت شرعية الدولة المصرية دائمًا وأبدًا تستمد من قدرة الدولة على تنظيم الري، والتعامل مع ظاهرتي الجفاف والفيضان التي حدثت بشكل متوالٍ على مر العصور، فقد كانت الدولة التي استطاعت تخفيف وطأة تلك الأزمات، وإيصال المياه وتنظيم الغذاء في مواسم الجفاف، هي التي تمتلك الشرعية دائمًا، إذن ماذا لو كانت الدولة قد تسببت في تفاقم معاناة الشعب المصري بدلًا من تخفيفها؟

«يا حلو يا أسمر»

غنى عبد الحليم «يا حلو يا أسمر»، لذلك النيل الذي تحول كما العادة إلى مشروع قومي للدولة المصرية الوليدة، دولة يوليو التي نشأت على يد الضباط الأحرار. استلهمت مشروع السد العالي من ملفات ودراسات أجريت في عهد الملك فؤاد لحجز مياه النيل في مواسم الفيضان واستخدامها في مواسم الجفاف، واستصلاح 100 ألف فدان جديدة في الصحراء بسبب حجز المياه. كان الفيضان يؤرق حياة المصريين ويحيلها نكدًا، فالمحصول الزراعي الذي يهلك، والبيوت التي تُهجر، والموت الذي يخيم أيضًا في المجاعة التي تلحق بجفاف النيل.

 عمد محمد علي إلى بناء سدود في أسوان 1843، إلا أنها لم تفِ بالغرض ففكر مليًا بنقل مجرى النيل إلى منخفض الفيوم، واستغلال الطبيعة كخزان مائي، ولحقه حفيده إسماعيل ثم عباس حلمي الذي أنشأ سدًا آخر قريبًا من نفس المنطقة، كلها لم تفِ بالغرض. فكر الإنجليز بالسد وأجرى الملك فؤاد دراسات في الثلاثينيات من القرن الماضي لإقامته، إلا أن حالة مصر الاقتصادية حالت دون تنفيذه.

جاءت دولة يوليو محملة بآمال البسطاء، وطموحات إصلاح ما أفسدته السنون في حكم الملوك، الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها. اليوم الذي تعود فيه العزة لأهل الوطن، واختلطت أفكار التنمية السياسية والاقتصادية بالثورة. جسد الدولة الذي سيخفف آلام الناس، دولة الرفاه العسكرية. طرحت الدولة مشروع السد في نهاية عام 1952، لتتقدم مصر إلى البنك الدولي الناشئ بعد الحرب العالمية لتمويل المشروع.

السد العالي-أسوان
عاصم سيد / / CC BY-SA 3.0

بالإضافة للولايات المتحدة وبريطانيا، اللتين وافقتا على القرض بشروط والتزامات، تشير السردية الرسمية إلى رفض مصر التبعية وعدم الإقرار بجميع الشروط، مما استوجب عقابًا جماعيًا من معسكر الكتلة الغربية بقيادت أمريكا وعدم تمويل السد.

مثّل السد في هذه اللحظة مشروعًا ضد التبعية، كما أريد له أن يكون مشروع مصر القومي، فخاضت مصر بسببه معارك جديدة، في تأميم قناة السويس التي استوجبت العدوان الثلاثي، ومن قبلها الأسلحة التشيكية بسبب رفض الولايات المتحدة تسليح مصر، والاعتراف بالصين الشعبية، التي جعلت عهد ناصر في حكم المغضوب عليه من الغرب.

وحل الاتحاد السوفييتي مكان أمريكا، وصار السد مشروعًا في تحدي الإمبريالية الغربية. بدأ العمل فيه عام 1960، تحالفت السودان مع مصر المستفيدتين من السد، لينقلب الموقف في دول حوض النيل في عدائها لمصر والوقوف مع القوى الدولية مثل إثيوبيا.

كان السد يستهدف أربع نتائج إيجابية، مع الهدف السياسي كشرعية للنظام الجديد يحشد الشعب والدولة خلفه:

  1. السيطرة على الفيضانات وضخ المياه المحجوزة في موسم الجفاف، وبذلك تصبح الزراعة مستدامة طوال العام، وتقليل التكلفة التي توجبها تلك الكوارث على الدولة والناس.
  2. إنتاج 53% من احتياج مصر من الكهرباء.
  3. الحفاظ على مياه النيل من الهدر، وإنشاء مشاريع قومية كالاستزراع بدلًا من تبددها في البحر.
  4. استصلاح 100 ألف فدان زراعي جديدة في الصحراء.

الزراعة والاقتصاد والسكان

ماذا لو علمنا أن تلك الدراسات لم تراعِ الأخطار التي يسببها إنشاء السدود، ولم توجد آليات للتعامل معها. في وثائق الكونجرس الأمريكي توجد دراسات الجدوى التي أجراها البنك الدولي للسد، والتي تنبئ بأن مصر لن يحدث بها طفرة اقتصادية بسبب السد، بل ستتراجع كل إمكاناتها التي ستعيق فيما بعد تسديد ديونها[1]، ففي تلك الدراسة توقع البنك أن ميزة مصر الزراعية ستتراجع بشكل ملحوظ جدًا وذلك بسبب:

  1. تراجع خصوبة التربة بسبب انحسار الطمي خلف السد في بحيرة ناصر، حيث تصل كمية الطمي في بحيرة ناصر إلى 6 مليار متر مكعب عام 2013، الذي كان يجدد الحياة في تربة الدلتا باستمرار، سيؤدي ذلك إلى تراجع المحصول الزراعي.
  2. سيؤدي انخفاض خصوبة التربة إلى استخدام مكثف للأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية الكثيفة مما سيجعل الزراعة أقل جودة من ناحية، ومن ناحية أخرى سيتسبب في تراجع بيع الغذاء المصري عالميًا.
  3. ستنخفض الأراضي المزروعة في دلتا النيل، كما سترتفع نسبة الملوحة في البحيرات الداخلية ما سيؤدي إلى تراجع الاستزراع السمكي عمومًا في مصر، ويحيلها إلى دولة مستوردة له.
الرئيس المصري جمال عبدالناصر جوار الرئيس الأمريكي أيزنهاور 1960م

جاء قرار الولايات المتحدة وبريطانيا للحفاظ على أموالهم، فلا يستثمر أحدهما في مشروع مرجح فشله، لذا فرضت شروط أخرى كضمانة لأموالهم، التي رفضتها مصر باعتبارها شروط إخضاع.

افتُتح السد في يناير/ كانون الأول 1971، وجاء الهدهد بالخبر اليقين، فمشكلات السد في ملف الزراعة كانت واقعية جدًا: تراجع الاستزراع السمكي في الشمال لمدة عقد كامل، تراجع عدد صيادي مصر وتفاقمت مشكلتهم الاجتماعية، بل منهم من اتجه للإجرام والسرقة.

 ارتفعت نسبة المواد الكيميائية في الاستخدام الزراعي، حتى حوّل الصرف الزراعي بحيرة قارون من عذبة إلى مالحة[2]، لتقارب نسبة ملوحة البحر الأبيض المتوسط. ارتفاع نسبة الملوحة أثرت على التنوع البيولوجي السمكي في البحيرة، وانخفضت أنواعها حتى بلغت ثلاثة أنواع فقط، وانخفض الصيد فيها من 13 طنًا يوميًا عام 1977، إلى 6 طن يوميًا عام 1991، ثم إلى 5 طن سنويًا عام 2019. موت الأسماك بسبب ارتفاع نسبة الأملاح والبكتيريا والطفيليات من جراء الصرف الزراعي من الأسمدة والصرف الصحي الذي يصب في البحيرة، ومع ارتفاع نسبة التبخير بسبب الاحتباس الحراري.

نفس القضية تكررت في بحيرة المنزلة شمالي مصر، بارتفاع المواد الكيميائية المتسربة من الصرف الزراعي والصحي والصناعي عبر مصرف بحر البقر الممتد من القاهرة حتى البحيرة، ما أثر على التنوع البيولوجي هنالك سواء من انخفاض احتياطي وتنوع الأسماك بالبحيرة إلى 20%، مع وجود مسببات السرطان والفشل الكلوي فيها، بسبب ارتفاع الرصاص والفسفور والأمونيا[3].

أدى انخفاض منسوب المياه – المُتحكم فيه – إلى ارتفاع تسرب المواد السمية إلى الطبقات القريبة من السطح في دلتا النيل، من خلال الصرف الصحي والمبيدات والأسمدة لترتفع معه العديد من الأمراض، نظرًا لاعتماد المياه الجوفية كمصدر للشرب في الدلتا، ولو أن للنيل فيضانه لخفف من وطأة تلوث المياه الجوفية القريبة من السطح.

فيلم وثائقي – عن بحيرة المنزلة

كان للسد أثر على مشكلة العمران في مصر، لأن عدم وجود الفيضانات مع النمو السكاني جعل التمدد السكاني باتجاه الوسط، كالدهون التي تحاصر القلب، بدلًا من اللجوء للأطراف خوفًا من فيضان النيل، مع إمكانية التوصل للمياه الجوفية في الأطراف، من خلال الفيضان وتغذيته للخزان في تلك المناطق، انحصرت المياه من الوسط، متيحةً للناس تدمير الدلتا والزحف العمراني إلى وسطها، فانعكاس الدولة على العمران كان عشوائيًا وتدميريًا للحياة الزراعية.

استُبدل شريان المياه والرقعة الخضراء بمد بشري وكتل إسمنتية كئيبة، وبلغت مصر الحد في العجز عن سد احتياجاتها من الغذاء بسبب تراجع مساحة الأرض الزراعية.

«إدي ظهرك للترعة»

يظهر محمد رضا في إعلان مع ممثل لدور فلاح، يلقنه درسًا عن الوقاية من البلهارسيا، بأن يعطي للقنوات المائية «الترعة» ظهره. في دراسة مشتركة بين الولايات المتحدة ومصر عام 1981، وُجدت علاقة بين انتشار البلهارسيا وبين السد العالي، فبسبب نظام الري وانخفاض تيارات المياه انتشر مرض البلهارسيا في ربوع القطر المصري، الذي كلف الدولة الكثير من الأموال لمواجهته، كما أودى بمئات الأرواح.

تربط العديد من الدراسات بين الاستخدام المفرط للأسمدة والمبيدات وأمراض السرطان وأمراض الدم، فقد تسبب السد في انخفاض المعادن في التربة، مع عدم تجدد التربة بالطمي المحمل بالعناصر الغنية، مما اضطر المزارعين للإفراط في استخدام المواد الكيميائية، وارتفعت نسب المواد التي تسبب السرطانات في المواد الغذائية، وهو ما يفسر ارتفاع نسب أمراض السرطانات في القطر المصري.

تتسرب تلك المواد إلى المياه الجوفية، وكذلك تتغذى عليها الأسماك في المزارع، وخصوصًا في بحيرات المنزلة وقارون والاستزراع السمكي على فروع النيل، بسبب الصرف الزراعي الذي يصب في تلك البحيرات، بالإضافة إلى مشكلات الصرف الصحي التي تسبب أمراضًا مثل فيروس سي، الذي من الممكن مواجهته بتحسين شبكة الصرف الصحي باعتبار الصرف أحد الأسباب الرئيسية لانتقاله. تفاقم مشكلة الصرف الصحي، لعدم تجدد الأرض المصرية بمياه الطوفان التي تخفف من ارتفاع نسب بعض المواد السامة.

القيامة: زلازل الجنوب وغرق الشمال

ينقسم الوضع التكتوني لمصر إلى قسمين: أحدهما غير مستقر وهو الشمال، الأكثر عرضة للزلازل، والجنوب الأكثر استقرارًا. أحال السد الجنوب أكثر عرضة للاضطراب وعدم الاستقرار، بارتفاع نسبة التهديد بالزلازل[4]، وذلك بسبب الحمل الثقيل الذي يسببه السد في بحيرة ناصر، سواء من الطمي أو كميات المياه الضخمة التي وصلت في بعض الأحيان إلى 148 مليار متر مكعب من المياه، وسعة الخزان من الطمي 31 مليار متر مكعب. يؤدي ذلك إلى اخلال اتزان القشرة على متكور موري «Asthenosphere»، ما قد يسبب هزات عنيفة تضرب الجنوب.

صورة من الفضاء لبحيرة ناصر ثاني أكبر بحيرة صناعية في العالم- 2002

أما حكاية الدلتا في الشمال فهي الأخطر، والتي تدق ناقوس الخطر من حين لآخر. فخلال القرن الحالي ستذوب كميات كبيرة من الجليد في القطبين، بسبب الاحتباس الحراري، وعلى غرار حرائق غابات الأمازون، الناجمة عن الجفاف الذي تسببت فيه ظاهرة الاحتباس الحراري، ومشكلات النظام السياسي هناك، فإن دلتا مصر معرضة للغرق وخصوصًا رشيد.

غاب الطمي ولم يعد النيل أسمر ولا حلوًا، السر أن الطمي المحمل في الفيضانات العملاقة عبر النيل، يلقي بحمولته في البحر مكونًا حائط صد من عمليات النحر والتآكل التي تحدث بسبب المد والجزر، ناهيك عن أهميته في تخفيف حدة ارتفاع منسوب مياه البحر. وتعتبر أهم الظواهر التي قد حدثت بسبب السد، هي ملوحة المياه الجوفية في الشمال بسبب تآكل تلك السواحل خلال الـ 50 عامًا الماضية، كما تتعرض دلتا النيل لهجمات من الرياح تؤدي إلى تعرية التربة بسبب عدم وجود الطمي بشكل دائم.

صورة تظهر الدلتا مكسوة بالخضرة عام 1965

ستغرق رشيد ودمياط والإسكندرية مسببةً كارثة إنسانية، قد تكون الأسوأ في تاريخ مصر الحديث، مع المشكلات الاجتماعية بسبب انتقال السكان من الشمال إلى الجنوب، والضغط على مصادر الماء والغذاء، مما قد يسبب انتشارًا للمجاعات والأوبئة. لم يكن السد سببًا في ارتفاع منسوب المياه، لكنه سيفاقم من تلك الأزمة بشكل كبير.

صورة توضح حرائق قش الرز في الدلتا عام 2014 وتظهر تراجع المساحات الخضراء

أدى السد أيضًا إلى تدمير قرى بأكملها لسكان النوبة، محدثًا تهجيرًا قسريًا لآلاف الأسر، من دون أن تكون للدولة المصرية خطة مدروسة لحل مشكلاتهم، ليحملوا غربتهم داخل الوطن. حاولت الدولة تقديم حلول إلا أنها اتسمت بالعجز والشح حتى يومنا هذا[5]، كذلك غمرت بحيرة ناصر مواقع أثرية ضخمة، لم تضع الدولة حلولًا لها قبل نقل مجرى النهر.

بعد 48 عامًا يمثل إنتاج الكهرباء عبر السد 4.7% من احتياج الكهرباء في مصر، وقد تسبب بمشكلات في شكل العمران والديموغرافيا والتوزيع السكاني، وانخفضت معدلات الزراعة، وتناقصت الرقعة الزراعية، ولم يُحدث طفرة اقتصادية على قدر الأعباء التي تسبب بها وما يزال. فهل كان مشروع السد قوميًا حقًا، أم كان مجرد مشروع سياسي ناصري انتهى بهزيمة؟

على كلٍ، لم يكن أحد ليرغب أن يحيى 7 سنوات عجاف، ولا أن يغمر الطوفان بيته، ربما هذه الحسنة الوحيدة للسد، لكنها تتضاءل أمام الكوارث الصحية، وغرق السواحل المصرية، وضعف التنمية السياسية والاقتصادية، ومشكلات بيئية بتراجع التنوع الحيوي، في بحيرات هامة في مصر ودلتا النيل. فمشكلة الدولة المصرية أنها لم تتوقع بجدية تلك المشكلات، ولم تطرح حلولًا لها قبل حدوثها، واهتمت في المقابل بالأثر السياسي وحسب.

المراجع
  1.  Bent Hansen, The political Economy of Poverty, Equity and Growth (Egypt and Turkey) 1991.
  2. وزارة البيئة،نتائج الرحلة الحقلية الأولى أغسطس 2015، لبرنامج الرصد البيئي للبحيرات المصرية “بحيرة قارون”
  3. وزارة البيئة،نتائج الرحلة الحقلية الأولى أغسطس 2012، لبرنامج الرصد البيئي للبحيرات المصرية “بحيرة المنزلة”
  4. Ismail Awad, Earthquake Hazard for Aswan High Dam Area, EGU General Assembly 2016.
  5. Thayer Scudder, Aswan High Dam Resettlement of Egyptian Nubians,2016.