في المسلسل الأمريكي الشهير «هاوس أوف كاردز» يقول فرانك آندروود «كيفن سبايسي» أثناء الاحتفال بتنصيب الرئيس الأمريكي، إن الناس بعد مائة عام من تلكم اللحظة سوف يشاهدون ذلك المقطع مرةً أخرى. لا ليسترجعوا الاحتفال، بل ليروا الشخص المُصفق الواقف خارج الصورة آنذاك، لكنه أصبح بعد ذلك في مركزها بحصوله على منصب الرئيس بعد سلسلة من التحالفات والأعمال الشريفة وغير الشريفة.

ربما قد نكون الآن أمام حالة صعود مماثلة، فعلى حافة الصورة منذ 14 عامًا، وافق الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» على زواج ابنته إسراء من «بيرات البيرق». كان بيرات وقتها شابًا ثريًا يُعرف عنه حماسه للفكرة الإسلامية التي نادت بها أحزاب السعادة ثم العدالة والتنمية. وسليل البيرق المالكة لمجموعة «شاليك» القابضة، وابن الصحفي والسياسي صادق البيرق، الصديق الشخصي لأردوغان.شغل بيرات، الذي قد يُنطق اسمه بالعربية «براءات»، مناصب عدة في الاقتصاد والسياسة. فما بين عامي 2007 و2013 كان المدير التنفيذي لشركة شاليك. وقبل توليه منصب المدير كان يعمل مديرًا لشئونها المالية في الولايات المتحدة أثناء دراسته هناك في بدايات الألفية الثانية، واستطاع أن ينجو بشركته من الأزمة الاقتصادية التي عصفت بتركيا في 2001. في أواخر 2013 بدأ الكتابة بانتظام كمحلل اقتصادي في جريدة صباح التركية ذائعة الصيت.

الجريدة التي تواترت الأخبار أن بيرت اشتراها إضافةً إلى جانب قناة «A- Habe» وكليهما مؤيد لأردوغان. ثم شهد عام 2015 انعطافة سياسية كبيرة في حياة الرجل. بدأت بدخوله البرلمان التركي ممثلًا عن دائرة إسطنبول في يونيو/ حزيران، بعدها صار عضوًا في اللجنة المركزية للحزب في سبتمبر/ أيلول، ثم تم تعيينه وزيرًا للطاقة والثروة المعدنية في حكومة أحمد داود أوغلو في نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام.

وأخيرًا في يوليو/ تموز 2018 خطا بيرات خطوةً نحو مركز الصورة بتعيينه وزيرًا للمالية في أول حكومة في عهد الرئيس أردوغان بالصلاحيات الجديدة. ثم تلا ذلك تعيينه في مجلس الشورى العسكري.


الصهر المنقذ

التغير الدرامي في مسيرة الرجل حدث مع اقتراب ليل الخامس عشر من يوليو/ تموز 2016. العالم يترقب نتائج خروج الجيش التركي للشوارع في محاولة انقلاب على الرئيس أردوغان. يختنق أردوغان بنقص اختياراته لكن تأتي قبلة الحياة من بيرات البيرق، إذ إن أردوغان صرّح بأن «صهره» هو أول من أبلغه ببوادر محاولة الانقلاب، مما منحه دقائق استباقيةً للتصرف. في البداية لم يُسمِ أردوغان أي صهرٍ يقصد، دارت الإشاعات أن ضياء إلغن، زوج سمية شقيقة أردوغان الصغرى، هو المقصود. لكن تواجد البيرق بجانب أردوغان منذ اللحظات الأولى للانقلاب، وحتى الظهور في المؤتمر الصحفي في مطار إسطنبول رجح لدى الشارع التركي أن يكون هو المقصود.ظلت التكهنات حتى أثبتها بيرت في 23 يوليو/ تموز 2016، أنه هو من أبلغ أردوغان بالانقلاب لكنه بدوره تلقى الخبر من إلغن. ومنذ تلك اللحظة لم يعد بيرات البيرق مجرد صهر عادي لأردوغان، ولا حتى صديق مُخلص، بل صار يُعرف في وسائل الإعلام المختلفة بأحد مراكز القوى في مؤسسة أردوغان للحكم.


أردوغان الثاني

أردوغان بشق الأنفس يصبح رئيسًا لتركيا بعد انتخابات 24 يونيو/ حزيران 2018 بعد التعديلات الجديدة. نسبة فوزه تمنحه حق التمتع بالصلاحيات الجديدة الواسعة للرئيس هذه المرة، لكنها لا تُبشر أنه بإمكانه التمتع بها طويلًا. لذا من المنطقي أن يبدأ البحث عن خليفة، أو يبدأ تصديره للشعب إذا كان موجودًا بالفعل. وبيرات البيرق أقرب ما يكون لأن يخلف «الخليفة».بيرات أحد الصقور في القصر التركي، يتبنى اتجاهًا متشددًا تجاه معارضيه، يتقاطع مع أهواء أردوغان في أحايين كثيرة. إذ إن بيرات هو من أمر بوضع وزير الداخلية سليمان صويلو تحت المراقبة، كما يُعتقد أنه من حث أردوغان على اتخاذ إجراءات شديدة الصرامة بالحبس والعزل لكل معتنقٍ لأفكار فتح الله كولن بعد الانقلاب. هذه الصرامة قد يكون تبريرها إقناع بيرات لأردوغان أنّ اتخاذه لهذه الإجراءات الصارمة سيمنع الاتحاد الأوروبي من اتخاذ إجراءات تصعيدية ضده.قد تبدو فكرة أن بيرات هو من يقف خلف هذه الإجراءات وغيرها أمرًا مستبعدًا خاصةً مع ما يبديه أردوغان من استقلاليةٍ في قراره. لكن ظهور بيرات إلى جانب الرئيس في كافة الاجتماعات حتى ما كان منها خارج اختصاصه هو أمر يثير الشك. كذلك يثبت رد الفعل الحاسم للرئاسة التركية ضد صحيفة «دي فيلت» الألمانية في تركيا بعد نشرها لتقرير يتحدث عن تأثير بيرات في السياسة التركية أن بيرات ليس شخصًا عاديًا يمكن أن يخضع للمساءلة.


الولد أولى بأبيه

من القرائن التي ترجح أن الخليفة المنتظر قد يكون هو بيرات، أن الخليفة لن يكون بالتأكيد أحد أبناء أردوغان. الابن الأكبر، أحمد، يتجنب الظهور في المناسبات العامة وغائب عن الساحة السياسية.أما الأصغر بلال، فاسمه مذكور في تقارير إخبارية نشرتها صحف فرنسية وإيطالية في مايو/ آيار 2017 عن اشتراكه في عملية غسيل أموال عبر تملك ناقلة بترول يصل ثمنها إلى 26 مليون دولار. التقارير تحدثت أن العائلة جنت 30 مليون يورو منذ 2008 حتى عام 2015. وحين انتقل بلال إلى إيطاليا للحصول على الدكتوراه من هناك فتحت السلطات معه تحقيقًا رسميًا.أما الفرد الوحيد الذي يمتلك كل المقومات المطلوبة، فهي سمية. عضو لجنة السياسات في العدالة والتنمية، والمسئولة عن تنظيم لقاءات والدها، والحاصلة على بكالوريوس العلوم السياسية من الولايات المتحدة. كما أنها أتقنت اللغة العربية ورافقت والدها في العديد من زياراته الخارجية. لكن العائق أمامها أنها امرأة، وهو أمرٌ قد لا تقبله ابتداءً عقلية أردوغان المحافظة، فضلًا عن تقبل بقية الساسة والشعب التركي له.


بيرات البيرق يمد داعش بالنفط

بيرات البيرق، صهر الرئيس التركي ووزير المالية الجديد.

دائمًا ما تكون رحلة صعود السياسين مزيجًا من الخير والشر، والمُعلن وغير المُعلن، وبيرات ليس استثناءً. إذ نشر موقع ويكليكس أكثر من 58 ألف رسالة بريد إلكتروني من بريد بيرات تمتد من أبريل/ نيسان 2000 إلى 23 سبتمبر/ أيلول 2016. الرسائل كانت بينه وبين العديد من النخب التركية الحاكمة، بجانب مجموعة من رجال الأعمال وأفراد عائلة أردوغان الآخرين.كشفت الرسائل عن أحاديث أثارها بيرات حول ضرورة السيطرة على الإعلام التركي ووسائل التواصل الاجتماعي بما يخدم مصلحة حزب العدالة والتنمية. فعلى سبيل المثال جاء في الرسائل ما يُفيد أنه تم توظيف أشخاص على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» عقب مظاهرات متنزه جيزي عام 2013. كما ورد أن الحزب قد كلّف فريقين للدعاية له عبر التواجد على مختلف صفحات التواصل الاجتماعي.وفي رسالة بتاريخ 11 كانون الثاني/ يناير 2016 ظهر مدى التأثير الذي مارسه بيرات على مجموعة إيبيك، أكبر مجموعة إعلامية في تركيا، إما أن تضع الدولة يدها عليها أو أن تُباع لمؤسسة إعلامية قريبة من الدولة. الرسائل لم تتوقف عند هذا الحد، بل وصلت إلى الربط بين بيرات وبين داعش. ففي 2011 أصدرت الحكومة التركية قرارًا بمنع تصدير أو استيراد النفط عبر السكك الحديدية أو الطرق البرية، لكن ظلت شركة «باور ترانس» غير مشمولة بهذا القرار. جاء الربط عبر وجود مناقشات طويلة بين بيرات وبين بتول يلماز، مدير الموارد البشرية في شركة شاليك.منها 32 قرارًا أصدرها بيرات حول العاملين بشركة باور ترانس ورواتبهم. الشركة التي اتهمتها الصحف العالمية في 2011، ثم الصحف التركية في 2014 و2015، بأنها كان تقدم لتركيا نفطًا تنتجه داعش، كما كانت تمد داعش بالنفط التركي.

يقف في وجه الرئيس!

أردوغان صرح لبلومبرج في مايو/ آيار 2018 بأن
البنك المركزي التركي مستقل، لكن لا يمكنه أن يتجاهل الإشارات التي يبعثها رئيس السلطة التنفيذية. وتعهد أنه فور استكمال التحول للنظام الرئاسي سيتولى المسؤولية كرئيس لا ينازعه أحد فيما يتعلق بالخطوات المتخذة والقرارات المتعلقة بهذه المسائل، فعلى الجميع أن يعطي صورة لرئيس مؤثر في السياسات النقدية.

لذا فإن الأيام القادمة هي الاختبار الحقيقي لبيرات هل سيكون مجرد ذراع لوالد زوجته ورئيسه المحبوب أم سينهج نهج سابقيه من وزراء المالية الذين اجتهدوا في تحجيم القبضة «الأردوغانية» على البنك المركزي. هذا السؤال وعدم اليقين حول إجابته من المستثمرين أدى إلى جعل الليرة التركية تخسر أكثر من 3% أمام الدولار الأمريكي يوم تعيينه فقط.

خاصةً وأنّه إذا حاولنا إعداد قائمة بالذين عارضوا أردوغان أثناء وجودهم في مناصب رسمية وظلوا محتفظين بمناصبهم فستكون قائمةً قصيرةً للغاية، بل ربما ستكون قائمةً بلا اسمٍ واحدٍ فيها. ويتبقى التساؤل هل سيجعلنا بيرات البيرق نعيد مشاهدة خطاب تنصيب أردوغان رئيسًا في 2018 لكي نراه، أي بيرات، مبتسمًا في الحشود الواقفة ينظر بثقةٍ إلى مستقبلٍ كنا نتكهن به، وكان هو يعلمه علم اليقين!