كانت الولايات المتحدة تسير على شعاعٍ ممتد، فشهدت انتخاب أول رئيس لها أسود البشرة من أصل أفريقي، ثم رفعت شعارات التنوع وقبول المختلفين، فسمحت بزواج المثليين، ووسعت قوانين الرعاية الصحية، ثم في منعطفٍ مهم بدا أنها تتخلى عن كل ذلك بانتخاب دونالد ترامب رئيسًا جمهوريًّا «عنصريًّا» لها. انتخاب ترامب أشعل جذوة الاشتراكية التي غطاها اليأس لسنواتٍ طويلةٍ في الدولة الرأسمالية الكبرى في العالم. يتمثل ذلك بوضوح في زيادة أعضاء الاشتراكيين الديمقراطيين من 6 آلاف إلى 47 ألفًا، أي 700% في فترة وجيزة.

استطلاعات الرأي تُظهر تلك الحقيقة أيضًا، في الفئة العمرية الواقعة بين 18 و50 عامًا يؤيد 51% منهم الاشتراكية، بينما يؤيد 45% منهم الرأسمالية. أما من فوق 50 عامًا فيؤيد 60% منهم الرأسمالية، نسبة المؤيدين للرأسمالية في تناقص طفيف لكنه مستمر. خاصةً مع الرأسمالية المتطرفة التي يمارسها ترامب حاليًا بإلغاء قانون الرعاية الصحية ومنع الهجرة، وتقديم سباق التسلح مع روسيا والصين فوق كل قضية أخرى، وأخيرًا وجود ثلاثة أرباع الثروة الأمريكية في يد 10% من سكانها. لذا يبدو الناخبون الأمريكيون، الشباب خاصةً، في حاجة لمن يُعادل هذا التأثير الترامبي، واقتنع الاشتراكيون الجُدد والقدامى أنهم وجدوا ضالتهم في بيرني ساندرز.

بعد وفاة فيدل كاسترو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطعًا مصورًا يُظهر ساندرز على أنه أصبح زعيم يسار العالم، ويمكنه الآن أن يحكم كوبا إذا أراد. خاصةً أن الفيديو عرض صورةً له مع تشي جيفارا وفيدل كاسترو في إحدى المظاهرات في كوبا. ليس ساندرز زعيم ثورةٍ مسلحة مثل كاسترو لكنَّه الاشتراكي اليساري الأكثر شعبية بين مختلف الشباب الأمريكيين.


من هو؟

صاحب أطول مدة خدمة في الكونجرس الأمريكي. تبعًا للتصنيف الحزبي هو مستقل، وتبعًا للأفكار السياسيَّة فيصف نفسه بالديمقراطي الاشتراكي. يميل ساندرز في نموذج الحُكم إلى دول مثل السويد والدنمارك والنرويج. بدأ ساندرز كفاحه مبكرًا، ربما من لحظة ميلاده. فهو ابن يهودي بولندي هاجر إلى الولايات المُتحدة بعد أن نالت محارق الهولوكست والديه. وتتقاسم والدته الأصل اليهودي مع والده، لكن أهلها استطاعوا الفرار إلى الولايات المتحدة في الوقت المناسب.

من الميلاد إلى الجامعة كان النشاط هو السمة المميزة لساندرز، إذ شارك أثناء دراسته الجامعية في حملات عديدة لمكافحة التمييز العنصري. كما كان ركنًا بارزًا في رابطة الاشتراكيين الشباب. لم يتقيد نشاطه بجامعته في شيكاغو، بل سافر إلى العاصمة واشنطن عام 1963 للمشاركة في مسيرة العمل والحرية.

استقال ساندرز من حزب «اتحاد الحرية» عام 1979، جاءت استقالته بعد خسارته كمُترشح للكونجرس عن الحزب. عام 1981 بدأ ممارسة مهامه كمحافظ لـ «برلينغتون». المهمة لم تكن سهلةً، إذ اصطدم مبكرًا برجال الأعمال وأصحاب رأس المال الذي أرادوا تحويل ضفاف بحيرة «شامبلين» إلى أبراج سكنية وفنادق سياحية ومكاتب تجارية. أما ساندرز فأطلق شعاره «برلينغتون ليست للبيع»، وخاض معركة للإبقاء على ضفاف البحيرة كمتنفس للسكان على اختلاف مستوياتهم الاقتصادية. وهو ما آل إليه حال البحيرة حاليًا، مساحات عامة خضراء، وحدائق، ومركز للعلوم، وطريق مُخصص للدراجات.

ساحل بحيرة شامبلين

الولايات المُتحدة لن تكون اشتراكيةً أبدًا.
الرئيس الأمريكي- دونالد ترامب

لساندرز معارك أخرى أقل شهرةً من معركته السابقة. منها أنَّه استطاع أن يجذب فريقًا لكرة القدم الأمريكية ليلعب باسم برلينغتون، دون أن يؤثر ذلك على ميزانية محافظته في شيء. كما انتصر لعشاق الرياضة برفع قضية على المحطات الإذاعية المحلية لتُجبر على خفض رسوم الاشتراك فيها، وفاز بها ساندرز. هذه المعارك على جبهات مُتعددة تُظهر جانبًا أدبيًّا وإنسانيًّا في ساندرز لم يظهر في عمله كمحافظ، لكن يمكن رؤيته في عمله كاتبًا ومُدرسًا. أما التدريس فكان للعلوم السياسية في جامعة هارفارد بعد انتهاء عمله كمحافظ عام 1989.

اقرأ أيضًا:العرب و«ساندرز»: التباسات السياسي والأيديولوجي

أما الكتابة فكانت لدى مجتمع الشخصيات التاريخية الأمريكية. أثناء عمله هذا أخرج ساندرز فيلمًا وثائقيًّا عن «يوجين فيكتور دبس»، رئيس اتحاد العمال الأمريكي وأهم المؤسسين لمنظمة العمال الصناعيين حول العالم. كما كان يوجين مُرشح الحزب الاشتراكي الأمريكي لرئاسة الولايات المتحدة عدة مرات.


العراق والكونجرس

حين شغر منصب ممثل فيرمونت في الانتخابات العامة نظرًا لقرار جيم جيفردز، عضو الكونجرس آنذاك، بترشيح نفسه لمجلس الشيوخ، تقدَّم ساندرز لمجلس النواب تحت رايته المستقلة دائمًا. خسر ساندرز في انتخابات عام 1988، لكنه نجح بعد عامين في الفوز بالمقعد. ليحقق رقمًا قياسيًّا كأول مرشح مستقل يفوز منذ 40 عامًا.

في سنواته الأولى ساند جميعة السلاح الأمريكية وصوَّت لإيقاف الدعاوى المرفوعة ضدها وضد شركات الأسلحة. ثم في عام 2001، بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، صوَّت لصالح استخدام القوة العسكرية ضد الإرهابيين. لكن كان موقفه مختلفًا بعد عامين. تُعد حرب العراق نقطةً مفصليةً في مسيرة مُعظم، إن لم يكن كل، السياسيين الأمريكيين. ويُشكل موقفهم منها وقت حدوثها دلالةً قويةً على توجهاتهم السياسية. ويُظهر تراجعهم عن رأيهم بشأنها سمةً مميزةً في قدرتهم على تحويل مواقفهم لما يجذب حولهم أكبر عدد من المؤيدين، أما ساندرز فكان ضدها على طول الخط، منذ البداية وحتى النهاية. ساندرز – بشكل عام – لا يرى حقًّا للولايات المتحدة في التدخل بالحرب على أي دولة لفرض قوانينها الخاصة، كما يرفض تقييد حريات الداخل الأمريكي تحت أي اسم.

يريد ساندرز للداخل الأمريكي أن يكون مشمولًا بالكامل تحت مظلة التأمين الصحي. ذاهبًا بذلك إلى ما هو أبعد وأكثر شمولًا من مظلة برنامج أوباما للرعاية الصحية «أوباماكير». كما نادى أكثر من مرة بإلغاء كل رسوم الدراسة في أي جامعة أمريكية. ساندرز يريد زيادةً في كل المعاشات التقاعدية، ويريد حرية المرأة في قرار الإجهاض.

ومرةً أخرى حين تقاعد جيم جيفردز عن منصبه في مجلس الشيوخ عام 2007 تقدَّم لها ساندرز، وفاز بها. ثم أُُعيد انتخابه في 2012 بفارق كبير في الأصوات. لم يكن فوزه مفاجئًا، فالاستطلاعات دائمًا ما أشارت إلى ارتفاع نسبة مؤيديه، فالرجل دائمًا ما كان من أشهر أعضاء مجلس الشيوخ.

اقرأ أيضًا:الشرق الأوسط الجديد بعيون «بيرني ساندرز»: من العدو؟

أما ميلاد فكرة ساندرز الرئيس فكان في 10 سبتمبر/ أيلول 2010، ألقى ساندرز خطابًا تاريخيًّا لمدة ثماني ساعات ونصف الساعة، يُعارض فيه قانون تخفيض الضرائب وإعادة تأمين البطالة. بعد هذا الخطاب وجد ساندرز نفسه يقرأ عريضةً موقعةً من آلاف المواطنين يدعونه للترشح في انتخابات الرئاسة عام 2012. لم يستجب ساندرز للدعوات المُتكررة إلا بتصريح عام 2014 أنه مستعد للترشح في انتخابات الرئاسة عام 2016، لكن دون أن يُعلن انطلاق حملته الانتخابية. وبعد عام نقلت إذاعة فيرمونت الرسمية إعلانًا رسميًّا عن ترشحه في انتخابات عام 2016. الحملة جذبت أعدادًا مهولةً تفاجأ لها ساندرز نفسه، واستطاع أن يكتسح هيلاري كلينتون في العديد من الولايات المهمة، لكن المفاجأة النهائية أنه خسر أمامها خلال الانتخابات التمهيدية الديمقراطية، قبل أن تخسر الأخيرة أمام ترامب فى الانتخابات العامة.


لسنا فنزويلا

اللحظة التي يتولى فيها رئيس اشتراكي الحكم لن تكون هذه هى أمريكا التي نعرفها. إذا كنتم تريدون دولةً اشتراكيةً فانظروا إلى فنزويلا.
مايك بنس، نائب دونالد ترامب الرئيس الحالي

هذه الكلمات الواضحة تُظهر رأي الرئيس الحالي ونائبه في مسعى ساندرز. المقولة توضح التحدي الهائل الذي يواجه ساندرز في معركته الانتخابية القادمة، الفصل التام بين نظرياته وخططه وبين واقع فنزويلا البائس. ربما قد ينجح ساندرز في مناظرة حوارية مع ترامب حول مفاهيم الاشتراكية وأهدافها العليا، لكنه بحاجة إلى إقناع الديمقراطيين عبر تقديم أجندة عمل قابلة للتطبيق على أرض الواقع، هذه الأجندة يُراد لها أن تجيب على سؤال بسيط؛ كيف يضمن ساندرز ألا تكون الولايات المُتحدة هي فنزويلا الجديدة!

مهمة ساندرز ليست صعبةً على المستوى النخبوي فحسب، بل على الشعبي كذلك.استطلاعات الرأي الأخيرة تقول إن 18% فقط من الناخبين الأمريكيين يتبنون موقفًا إيجابيًّا تجاه الاشتراكية، بينما 25% منهم متحمسون أو متقبلون لتجربة رئيس اشتراكي، تمامًا كما كانوا مرتاحين أو متحمسين لتولي ترامب السلطة.

هذه النسب لا يمكن التعويل عليها، إذ تثبت أن الاشتراكية كأيديولوجيا ما زالت غائبةً عن وعي الشعب الأمريكي. الحاضر بقوة في وعيهم أن الاشتراكية تساوي فنزويلا. لذا لا يبدو زعيم الأقلية في الكونجرس، كيفن مكارثي، مبالغًا حين صرَّح بأن الشعب الأمريكي لن يرى الانتخابات القادمة انتخاباتٍ بين ديمقراطي وجمهوري، بل بين السوق الحرة والاشتراكية. وهذا الإطار الذي يتبناه الجمهوريون يحاول بث الرعب في نفوس الناخبين.

على الجانب الآخر يبدو ساندرز هادئًا أمام هذه الهجمات المُتكررة، ويرى أنها لا تستحق الخوف منها. حُجته في ذلك أن الجمهوريين استخدموا النبرة نفسها سابقًا مع الرئيس السابق باراك أوباما دون أن يمنع ذلك انتخابه مرتين. لكن ما لا يراه ساندرز أن هجمات الجمهوريين لم تُضعف أوباما لأنه ليس اشتراكيًّا من الأساس. أوباما قام بمساعدة «وول ستريت» و«جينرال موتورز»، لكنه لم يقم بتأميمهما، وأطلق «أوباما كير» الذي وسع مظلة التأمين الصحي، لكنه لم يلغِ شركات التأمين الخاصة. ما جعل مهمة إقناع الناخبين أنه اشتراكي أمر صعب، على النقيض من حالة ساندرز الذي عرَّف نفسه بها من البداية.


ما يطلبه الناخبون؟

ولاية برلنغتون

لا ينفي ساندرز عن نفسه الاشتراكية، لكن ينفي اقتداءه بفنزويلا أو كوبا، إلا أن حرص ساندرز الشديد على عدم وصف الرئيس الفنزويلي الحالي نيكولاس مادورو بـ «الديكتاتور» كما تجري العادة في الإعلام الأمريكي يضع علامات استفهام في عقل الناخب الأمريكي حول ساندرز وعلاقته بفنزويلا، لاسيما أن مادورو أيَّد ساندرز عام 2016.

أما ساندرز فوصف الاقتصاد الفنزويلي بالكارثة، كما انتقده بشدة لقيامه بهجمات عنيفة ضد المجتمع المدني. يدعو ساندرز لإجراء انتخابات جديدة حرة في فنزويلا تحت إشراف دولي. بهذا الحل الوسط يحتفظ ساندرز لمادورو ببعض الشرعية، ولا يُحرض على انتقال السلطة لخليفته الرأسمالي خوان غايدو، لكن شخصًا مثل ترامب يستمتع بسياسة الأرض المحروقة لن يترك وسطية ساندرز تنجو دون أن يحاصره أمام الناخبين بالمطالبة بموقف واضح فيما يتعلق بفنزويلا.

ساندرز يُسهل المهمة على ترامب كثيرًا بتصريحاته غير المُرتبة؛ فبعد فترة وجيزة من تصريحه بأنه لا يقتدي بكوبا، عاد ساندرز للثناء على التقدم التي شهدته كوبا في عهد فيدل كاسترو. ولم يتراجع عن كلماته عام 1985 التي مدح فيها كاسترو الذي غيَّر المجتمع تمامًا – على حد تعبيره – وفي 2016 حين طفت تلك الكلمات إلى السطح مرةً أخرى، اكتفى بالتعبير عن «أمله» أن تصبح كوبا أفضل وأكثر ديمقراطية، دون أن يُعبر عن «أسفه» لما آل إليه حالها، كما أراد الناخبون.

لمواجهة ترامب على ساندرز أن يتخذ خطواتٍ يراها الناخبون والمُحللون بسيطةً وغير مُكلفة. تتمركز جميعها حول التحدث بصراحة عن فنزويلا. على ساندرز أن يُلقى خطابًا تفصيليًّا يوضح فيه أخطاء مادورو، وما هى سياسة ساندرز لتلافي تلك الأخطاء. في الخطاب عليه أن يسخر من اعتماد فنزويلا الدائم على النفط، ومن اقتصادها المُتهالك. بالطبع لا بد من استخدام وصف ديكتاتور عند الحديث عن مادورو. ربما ليس ساندرز بالحاجة إلى الوقوف مع ترامب في خندقٍ واحد بالاعتراف بغايدو أو بالدعوة للتدخل العسكري الأمريكي فيها، لكنه مُطالب بسحب الشرعية عن مادورو.

هناك طلب لا يطلبه الناخبون لكن يفرضه الواقع وجماعات الضغط؛ تأييد إسرائيل. ساندرز يقاطع مؤتمرات الشبكات اليهودية في الولايات المتحدة اعتراضًا على طريقة إسرائيل في التعامل مع الشعب الفلسطيني المُعتمدة على تجاهل تقديم حلول حقيقية للقضية كما يراها ساندرز، مثل تقسيم الدولتين. على الجانب الآخر يمنح دونالد ترامب إسرائيل ونتنياهو اعترافاتٍ سياسية تاريخية كالاعتراف – مؤخرًا – بسيادة إسرائيل على الجولان، لذا فمعرفة من ستدعم إسرائيل وجماعات الضغط في الانتخابات القادمة ليست أمرًا صعبًا.