خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية منتصرة، والأهم أنها خرجت بلا خسائر ضخمة مثلما كان حال أوروبا وقتها؛ لذلك ارتمت أوروبا في أحضان الولايات المتحدة كي تحصل على دعمها الاقتصادي، ولكي تحميها أيضًا من التهديدات السوفيتية. رحَّبت الولايات المتحدة بالطبع بتلك العلاقة الاعتمادية، وأسست عشرات القواعد العسكرية في العديد من الدول الأوروبية.

في العقود الأولى التي تلت الحرب كان الأوروبيون مرحبين بتلك العلاقة، رغم ظهور بعض محاولات التمرد، لكن المياه سرعان ما عادت إلى مجاريها، فمثلًا حاولت الدول الأوروبية عام 1995 إقامة علاقة بين الدول الأورومتوسطية، أي الدول المطلة على البحر المتوسط في شمال أفريقيا وغرب آسيا. فشلت تلك الشراكة سريعًا، لكنها لفتت النظر إلى إمكانية قيام تحالفات بدون الولايات المتحدة.

عادت فرنسا عام 2003 لتزعُّم محاولة جديدة للهروب من الوصاية الأمريكية برفض التدخل الأمريكي في العراق، فأعلن جاك شيراك، الرئيس الفرنسي آنذاك، ومعه جيرهارد شرودر، المستشار الألماني، معارضة الغزو الأمريكي. ودفع الاثنان جميع الدول الأوروبية لاشتراط موافقة مجلس الأمن على أي عملية عسكرية كبرى.

ثم في عام 2017 وقع 23 عضوًا في الاتحاد الأوروبي اتفاقية بيسكو الرامية لتعزيز التعاون العسكري والدفاعي بين الأوروبيين. وكانت تلك هى أبرز خطوة نحو تشكيل ذراع عسكرية تتخلص بفضلها أوروبا من التبعية العسكرية للولايات المتحدة.

لم تؤدِّ تلك المحاولات إلى نتائج ضخمة، لكنها أظهرت الرغبة الأوروبية في لعب دور أكبر في العالم. تنامت تلك الرغبة مع تولي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية الفترة الماضية وتطبيقه مبدأ أمريكا أولًا دون تمييز بين الحلفاء القدامى والجدد، الأوروبيين أو الشرقيين. وفرض العديد من العقوبات على الشركات الأوروبية، خاصة العاملة في مجال الطاقة والغاز الطبيعي، ما أثار حنق الأوروبيين أكثر فأكثر.

ماكرون عاجز أن يكون ديجول

الاتحاد السوفيتي لم يعد موجودًا، والولايات المتحدة صارت أقوى وتتعامل بمنطق أنها لا تريد ولا تحتاج دعمًا من أحد، وأوروبا تريد دورًا أكبر من دور التابع الأمين. لذلك فقد كان من البديهي أن تتباعد المسافات بين الطرفين، وأن تخرج أوروبا من عباءة الولايات المتحدة. ربما لن تصل الأمور إلى النزاع المسلح أو الحرب بالوكالة أو حتى الحرب الدبلوماسية؛ لأن العلاقات بين الطرفين معقدة ولا يمكن لأحدهما أن يغامر بتدميرها.

الولايات المتحدة تنتهج سياسة انعزالية، وترامب سرَّع وتيرة هذه السياسة فحسب. هذا جرس إنذار لنا، فالحماية الأمريكية المجانية لم تعد موجودة، وأوروبا لا بد أن تبحث عن مصالحها وأمنها.
رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، فولفجانج إشينجر.

مؤتمر ميونخ للأمن شهد كواليس إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن رغبته في تنحية الولايات المتحدة عن قيادة أوروبا، ووضع فرنسا في الصدارة، كذلك قال ماكرون إن فرنسا سوف توفر مظلة نووية لأوروبا بعيدًا عن حلف الناتو. خطاب ماكرون الانفصالي لاقى استحسانًا في ألمانيا، أهم دولة أوروبية، حيث تُظهر استطلاعات الرأي أن 57% من الألمان يتبنون وجهة نظر مناهضة للولايات المتحدة الأمريكية، بل ينظر قرابة 70% منهم إلى رأسمالية الولايات المتحدة على أنها بلا رحمة، وتقضي على النظام الاجتماعي من أجل إشباع الجشع الفردي.

كلمات ماكرون لاقت استحسانًا غير مُعلن من قادة أوروبيين يشعرون بالفزع من سيطرة الولايات المتحدة التي لا تؤمن بالدبلوماسية متعددة الأقطاب، كما وضح ذلك جليًا في فترة حكم ترامب؛ لذلك استمرت فرنسا باللعب على وتر الاستقلال عن الولايات المتحدة، لا لخدمة أوروبا، بل لإعادة إحياء أحلام فرنسا الديجولية.

وفي تلك الأحلام يكون الاتحاد الأوروبي صاحب النفوذ الأعلى من الناتو. أو على حد تعبيير أحد المسئولين الأمريكيين، فإن فرنسا تريد أن يصبح الناتو مجرد خط هاتف للإبلاغ عن الطوارئ إذا نشب حريق في أحد المقاهي. فقد أعلن شارل ديجول عام 1966 انسحابه من حلف شمال الأطلسي، الناتو، بسبب اعتراضه على الدور القوي الذي تلعبه واشنطن. وصف ديجول الأمر بأنه يدل على علاقة خاصة بين بريطانيا وواشنطن، وأن فرنسا تريد أن تلعب دورًا مستقلًّا بعيدًا عن الاثنين.

أوروبا عاجزة عن الانفصال

رغم ما تثيره تلك التصريحات من الاستياء المتبادل، فإن الساسة الأمريكيين لم يلتفتوا لها كثيرًا، فهم على يقين بأن أوروبا لا تستطيع التخلي عن الولايات المتحدة لأسباب عدة، منها أن أوروبا نفسها لا تزال منقسمةً على نفسها، خصوصًا مع اشتعال أزمة البريكست وتداعياته. فمثلًا أكبر دولتين في أوروبا ألمانيا وفرنسا، تتخذان موقفًا متناقضًا من التعامل مع أمر الطلاق من الولايات المتحدة.

ففرنسا ماكرون تصدر العديد من المبادرات الصريحة الداعمة للتقارب مع روسيا بعيدًا عن الولايات المتحدة، بينما ألمانيا ترفض هذا النهج المتوتر وتتبنى منهجية أكثر هدوءًا.

كذلك فإن اقتصاد أوروبا لا يتعافى، بل ينتقل من سيئ لأسوأ، وقدراتها العسكرية تُعتبر أقل بكثير من قدرات الولايات المتحدة العسكرية، كما أن اليسار الأوروبي لا يستطيع التنبؤ بإمكانية بقائه على رأس السلطة في بلاده، فاليمين صاعد بقوة في مختلف الدول الأوروبية، وفيها فرنسا التي سيكافح فيها ماكرون كفاحًا مريرًا كي يبقى على رأس السلطة في الانتخابات القادمة، وهي احتمالية تضعف بمرور الوقت.

أضف إلى ما سبق أن الأمريكيين أنفسهم يدركون أنه حتى لو أعلنت أوروبا ضمنيًّا أو رسميًّا خروجها من العباءة الأمريكية وتدشين معسكر خاص بهم، فإن الحلفاء الآخرين لن ينضموا إليه ويتخلوا عن المعسكر الأمريكي، فشركاء أوروبا بالكامل يتمتعون بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة – ويحاولون الحفاظ عليها – ربما هي أفضل من علاقاتهم مع أوروبا.

 لذا يتوقع الخبراء الأمريكيون أنه حتى لو خرجت أوروبا عن طوع الولايات المتحدة، فإنها ستخرج في قضايا منفردة، كل قضية على حدة، بدلًا من أن تعلن تبنيها موقفًا استراتيجيًّا مستقلًّا بالكامل.

 لكن ما يبدو أن الأمريكيين يغفلونه أن هناك العديد من القوى الأخرى التي تحاول خطب ود أوروبا وجذبها بعيدًا عن الولايات المتحدة، وأبرزها بالطبع الصين وروسيا، وكلا الدولتين قادرتان على توفير بدائل جيدة وزهيدة الثمن لكل منتج تخسره أوروبا بابتعادها عن الولايات المتحدة. وألمانيا بالفعل منذ سنوات تعتمد اقتصاديًّا على الصين ومنتجاتها، ما يدفعها لتبني مواقف أقرب للحياد في العديد من القضايا الأمنية والسياسية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين.

فتِّش عن الدولار

لعل ما يجعل الولايات المتحدة مستمرة في سياسة ليِّ الذراع وتكوين تحالفات جديدة كالتي قام بها جو بايدن مؤخرًا دون اكتراث برد فعل أوروبا، هو الدولار. ولعل أيضًا ما يجعل أوروبا شديدة التردد في إعلان الغضب من التصرفات الأمريكية أحادية الجانب، هو الدولار. الدولار الأمريكي عملة الاحتياط الرئيسية في العالم، والأكثر استخدامًا في المعاملات التجارية العابرة للحدود؛ لذا فأبرز التحديات أمام أوروبا هو تحدي الوصول لصيغ حقيقية وقابلة للتطبيق لاستبدال النظام المالي الأمريكي.

ساهمت الولايات المتحدة في دفع أوروبا بشأن هذه المسألة إلى حافة الهاوية، حيث تبحث العواصم في جميع أنحاء أوروبا عن بدائل، وعند مرحلةٍ ما، ستؤتي بعض تلك البدائل ثمارها.
جون سميث، الرئيس المستقيل من قسم العقوبات في وزارة الخزانة الأمريكية.

والولايات المتحدة تدفع أوروبا يومًا بعد يوم نحو تلك الخطوة، حتى إن البنك المركزي الأوروبي قد أعلن أن مخاوف دول العالم من التوترات التجارية التي تخوضها الولايات المتحدة قد عزز من مكانة اليورو كعملة للتجارة الدولية. وبدأ العديد من البنوك المركزية إعلان تخفيض التعامل بالدولار خوفًا من الإجراءات الأحادية الأمريكية التي قد تؤثر على قيمة الدولار.

الأعراف، أو فالق، أو جبال الأطلسي، الفاصلة بين الصفائح التكتونية بين أوروبا وأمريكا الشمالية من الناحية الجولوجية يتباعد بعضها عن بعض بمسافة سنتيمترات قليلة كل عام. يمضي هذا التباعد ببطء لكن بشكل مؤكد، وبسنتميرات قليلة جدًّا كل عام، لكن العلماء يؤكدون أن التباعد سوف يتراكم مع الوقت ليُشكل تأثيرًا ملحوظًا على جولوجيا العالم.

ومثل ذلك الفالق تكون أوروبا مع الولايات المتحدة، فبعد أن كانت الحليف الذي لا غنى عنه باتت الولايات المتحدة حليفًا أقل قربًا، لكنها سرعان ما سوف تصبح عدوًّا بعد أن زالت القشرة الدبلوماسية اللامعة عن الازدراء المتبادل بين الطرفين، لكن أوروبا تنتظر اللحظة المناسبة لإعلان ذلك ريثما تمتلك زمام أمرها عسكريًّا واقتصاديًّا، فسوف تخرج من عباءة الولايات المتحدة دبلوماسيًّا كذلك.