أعلن المجلس المركزي الفلسطيني وقف كل أشكال التنسيق الأمني مع إسرائيل، وتعليق الاعتراف بالدولة العبرية حتى تعترف بدورها بدولة فلسطين.

هذا الاعتراف أُريد له الظهور في شكل ساخن، وكأنما يُلقي أبو مازن وأتباعه بالقنبلة التي ستُغيِّر من مجرى القضية.

متى بدأ التنسيق الأمني؟

في عام 1993م بعث الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات برسالة إلى إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل -حينها- خلال المباحثات غير المباشرة لاتفاق أوسلو، تعهَّد عرفات في رسالته بأن منظمة التحرير الفلسطيينية «ستكون مُلزمة بملاحقة الإرهابيين وكل أعمال العنف ضد إسرائيل»، وحين جرى توقيع الاتفاق بيت الجانبين نصَّت المادة العاشرة منه على «إقامة تنسيق أمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين».

وكنتيجة مُباشرة للاتفاق تسلَّمت السُّلطة الفلسطينية زمام الأمور في غزة والضفة، وبموجب هذه المسئولية نشأت مجموعة مختلفة من الأجهزة المحلية والتشريعية والأمنية، بعض هذه الأجهزة الأمنية اعتنت بتطبيق مهمة «التنسيق الأمني» بأقصى جودة ممكنة؛ أملًا في عدم إعطاء الإسرائيليين فرصة لعدم تنفيذ الاتفاق.

ورغم المسار العسير لتنفيذ اتفاقية أوسلو -بجميع مشتملاتها- على أرض الواقع، فإن الهوس الأمني ظلَّ -وسيظل- مُسيطرًا على العقلية الإسرائيلية، فجرى بحثه مُجددًا مع الجانب الفلسطيني، وفي عام 1995م وقَّع الجانبان اتفاقية طابا التي عُنيت بتفاصيل إعادة انتشار القوات العسكرية في فلسطين، نصَّ هذا الاتفاق على أن السُّلطة الفلسطينية مسئولة عن «منع ومحاربة جميع أعمال العنف في مناطق سُلطتها، كما أنها تلتزم بعدم ملاحقة مَن عملوا مع إسرائيل على مدى السنوات الماضية».

بعدها وقَّع الطرفان بروتوكولين أمنيين اعتنيا بوضع تعريفات محدَّدة لـ «الإرهابي»، أولهما عام 1997م، والذي نصَّ على أنه «كل مَن يُمارس أو يروِّج أو يقتني أو يُصنِّع أو يستورد أو يستعمل أي نوع من السلاح ضد إسرائيل أو الإسرائيليين مدنيين أو غير مدنيين، كما أن السُّلطة الفلسطينية مُلزمة بملاحقة جميع الأعمال غير المشروعة التي تمسُّ الأمن الإسرائيلي.

وفي أكتوبر عام 1998م أقرَّ الجانبان اتفاقية أمنية اعتنت بـ”تجريم أي استيراد أو تصنيع أو بيع أو حيازة أو امتلاك للأسلحة غير الشرطية»، وألزمت الطرف الإسرائيلي بإطلاع الجانب الفلسطيني عبر لجنة التنسيق الأمنية المشتركة على جميع نتائج التحقيقات التي يُجريها مع المشتبه بهم من «الإرهابيين» الذين يعتقلهم، كما ستتبادل لجان التنسيق الأمني الفلسطينية والإسرائيلية المشتركة جميع المعلومات اللازمة، وفيها اعتقال المشتبه برغبتهم في إيذاء إسرائيل.

لم ترد أمريكا أن تفلت قواعد تلك العمليات من يدها فعيَّنت منسقًا أمنيًّا يُعنى بالربط الاستخباراتي بين السُّلطة الفلسطينية وإسرائيل، وهو «ضابط الاتصال» الذي اعتنى بلعب حلقة الوصل بين الطرفين لفترة طويلة، بعضها تمثَّل في قيادة عمليات أمنية مشتركة للقبض على نشاط المقاومة الفلسطينية.

ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف التنسيق الأمني بين الجانبين، ولم تتوقف شكاوى قيادات فصائل المقاومة الفلسطينية بشأن استخدام هذا التنسيق لتصفية كوادرها، واعتبار إسرائيل المستفيد الأكبر من ذلك التنسيق.

  ليست المرة الأولى

بداية من عام 2015 تكرَّرت تهديدات المجلس المركزي بـ «وقف التنسيق» بسبب الانتهاكات الإسرائيلية الفلسطينية المستمرة للاتفاقيات الموقَّعة مع السُّلطة، وهو ذات الأمر الذي سيتكرر لاحقًا بصفة دورية في أعوام 2016 و2017 و2018.

هذا المعنى عبَّر عنه عطا الشراري عضو المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي قال في تصريحات تليفزيونية إنها ثالث مرة يُتَّخذ فيها مثل هذا القرار.

وكان من اللافت أن نفس اللقاء التليفزيوني استضاف حسن الدعجة أستاذ العلوم السياسية الذي أكد أن السُّلطة لا تملك وقف التنسيق مع قوى الاحتلال «سواء بإرادتها أو عدمها»، وأن هذا القرار الفضفاض هو مجرد وسيلة شعبوية لامتصاص غضب الرأي العام الفلسطيني عقب اغتيال الشبان الثلاثة في نابلس.

ومنذ عدة أيام، تعرَّض 3 نشطاء في المقاومة الفلسطينية للاغتيال داخل مدينة نابلس على يد قوة أمنية إسرائيلية خاصة نفذت العملية بدقة ثم رحلت، وهو ما أكَّد وجود تنسيق أمني مسبق بخط سير النشطاء الثلاثة، ما أعاد للأذهان عشرات الحالات التي تعاونت فيها السُّلطة أمنيًّا مع إسرائيل لاصطياد قادة المقاومة في الضفة وقطاع غزة.

وكانت آخر مرة أعلنت فيها السُّلطة الفلسطينية «قرار التجميد» كانت في أواخر 2020م احتجاجًا على خطة ترامب للسلام، المعروفة بصفقة القرن، لكنها سرعان ما تراجعت عن ذلك القرار في نوفمبر من نفس العام.

لم تمر الخطة وبذلت دول أوروبية مساعي خفية لم يُكشف النقاب عن تفاصيلها، لكنها أفضت في النهاية إلى استئناف السُّلطة عمليات التنسيق مع تل أبيب بعدما أعلنت على لسان حسين الشيخ وزير الشئون المدنية أن إسرائيل أبدت استعداداتها للالتزام الكامل بالاتفاقات الموقَّعة بين الطرفين!

وعادةً ما يُستخدم المجلس المركزي الفلسطيني لاتِّخاذ مثل هذا القرار، وهو هيئة رسمية لكن قراراتها ليست إلزامية وإن كانت ذات صفة معنوية قوية لكونه محسوبًا على السُّلطة الفلسطينية رسميًّا.

يجتمع المجلس المركزي مرة كل شهرين على الأقل، بدعوة من رئيسه، ويترأس جلسات المجلس ويديرها رئيس المجلس الوطني، ويقدم تقريرًا عن أعماله إلى المجلس الوطني عند انعقاده، ويعقد المجلس الوطني جلسات طارئة بناءً على طلب من أعضاء اللجنة التنفيذية وتتخذ قرارات المجلس بأكثرية أصوات الحاضرين، لكنها تبقى اقتراحات ودعوات لن تدخل حيِّز التنفيذ لو لم تتبنَّها السُّلطة رسميًّا.

وهو نفس ما عبَّر عنه المُحلل الإسرائيلي «أليؤور ليفي»، في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، والذي وصف القرار بأنه «شيك بدون رصيد»، معتبرًا أن صلاحية تنفيذ هذا القرار الوحيدة بيد الرئيس عباس فقط، وطالما أنه لم يُقرِّر بشكلٍ رسمي إيقاف التعاون مع إسرائيل، فسيجري التنسيق كما هو معتاد رغمًا عن المجلس المركزي وقراراته.

هل يفعلها عباس؟

خلال الفترة الأخيرة، التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس ببيني غانتس وزير الحرب الإسرائيلي مرتين، آخرههما في نهاية عام 2021 داخل منزله داخل مستوطنة «روش هاعين»، حيث ناقشا «مختلف القضايا الأمنية»، وأعلن مكتب غانتس الاهتمام المشترك بتعزيز التنسيق الأمني، والحفاظ على الاستقرار الأمني، ومنع الإرهاب والعنف»، على حد تعبيره.

لاحقًا تبيَّن أن الصفقة شملت حصول الفلسطينيين على 32 مليون دولار من أموال الضرائب المُجمَّدة، بينما تعهَّد عباس باستكمال التنسيق الأمني مع إسرائيل بأي شكل!

لموقفٍ كهذا وغيره الكثير، لا يُمكنني المبالغة بالقول إن أحدًا لم يتعامل مع هذا القرار بأي جدية، ليس فقط في الإعلام العبري الذي استخفَّ بالقرار واعتبره نشأ من عدم، وإنما في الداخل الفلسطيني أيضًا.

أعلنت حركة حماس أن هذا القرار «شكلي وفارق ويتم العمل بنقيضه على أرض الواقع»، كما كشفت عن رفضها التام لهيئة المجلس المركزي بالكلية قائلة إن «الرفض الشعبي والفصائلي الواسع لتعيينات المجلس المركزي دليل أنها لا تنسجم مع تطلعات شعبنا ولا تمثل إلا الفريق المتنفذ في السلطة، وشعبنا الفلسطيني بكل مكوناته لن يمنحها أي شرعية».

بل الأكثر من ذلك أن حماس احتضنت قبل انعقاد المجلس المركزي مؤتمرًا شكك في شرعية تلك المؤسسة برمتها، وأكد أن «اختطاف المؤسسات الفلسطينية بأيدي فئة التنسيق الأمني يمثِّل خطورة على القضية الفلسطينية».

ليختصر قرار «تجميد التنسيق» الأخير كثيرًا من المأزق الذي تعيشه القضية الفلسطينية اليوم؛ فلا المؤسسة التي اتخذته كاملة الشرعية محل إجماعٍ وطني، ولا القرار نفسه مضمون تنفيذه حسبما يعتقد الفلسطينيون أنفسهم وليس الإسرائيليين وحسب.