كتاب الدولة المركزية في مصر للدكتور نزيه الأيوبي هو أحد المجهودات العلمية المهمة في فهم تكوين الدولة والبيروقراطية في مصر ونشأتها وعلاقتها بالمجتمع، وهو مجال دراسة لم يحظَ بكثير من الاهتمام حتى صدور هذا الكتاب ضمن مجموعة مجلدات لمركز دراسات الوحدة العربية تستهدف تحليل النظم السياسية في المنطقة العربية وعلاقتها بالمجتمعات من منظور الاقتصاد السياسي.

الدكتور نزيه الأيوبي أكاديمي مصري حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة أوكسفورد في بريطانيا. درس في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وجامعة إكستير في بريطانيا. اهتمت كتاباته وأبحاثه المنشورة بالبيروقراطية في مصر، والاقتصاد السياسي، وبنية الدول الحديثة، وأسهم بكتابيه «الدولة المركزية في مصر» و«تضخيم الدولة العربية» في تطوير مجال دراسات الشرق الأوسط في الجامعات التي درس بها.

مركزية الدولة كقاعدة عامة

يطرح الكتاب فكرة محورية مفادها أن الدولة أقوى من المجتمع في كل تطوراتها التاريخية، وأن مصر تُصنف كدولة ذات نمط شرقي تقوم فيه الدولة أو السلطة بخلق الطبقة الاجتماعية وتراكم الثروة لصالحها، بعكس النمط الأوروبي أو الرأسمالي، حيث تساهم الطبقة الاجتماعية في خلق النظام السياسي بما يناسب احتياجاتها ومصالحها.

تتحكم الدولة في مصر منذ نشأتها في الحراك الاجتماعي، وتتسلط على الفرد وتسيطر على النمو الاقتصادي. لم يستطع المجتمع المصري مطلقًا تغيير سمات هذه الدولة أو أنماط الإنتاج فيها، أو صياغة سياساتها وتصوراتها الأيديولوجية والاقتصادية وفقًا لمصالح المجتمع، بل ظل المجتمع رهيناً بتحولات السلطة السياسية، وظل الترقي الطبقي والاجتماعي مرهونًا بالارتباط بالسلطة ورضاها في المقام الأول عن أي عوامل أخرى، في كل الحقب الزمنية، ولم تكن هناك علاقة بين الحاكم والمحكوم مصاغة في عقد اجتماعي إلا في لحظات شديدة الندرة.

يرجع هذا التأصيل لعلاقة الدولة بالمجتمع، لاعتبار أن مصر مجتمع نهري أو هيدروليكي كما يسميه أيوبي في الكتاب، تستمد فيه الدولة مصدر شرعيتها وسلطتها على المجتمع بناءً على قدرتها على إدارة نظم الري وتطويرها، فلم يكن المجتمع منذ العصور الأولى قادرًا على الإدارة والتفاعل مع سلوك النهر والسيطرة الكاملة على النيل والأراضي الزراعية، بل كان الأمر يحتاج لقوة «حاكمة عمومية» – كما سماها رفاعة الطهطاوي – تؤدي هذه الوظيفة، وتحتكر ملكية الأراضي الزراعية وتغيب هذا الحق عن الفرد والمجتمع، وفقًا لما سنستعرضه في الحقب التاريخية المختلفة. 

العصر الفرعوني والعصر الإسلامي العربي

منذ توحيد القطر المصري على يد مينا ساد القانون العرفي في البلاد باعتبار الملك إلهًا يضمن للبلاد الخير والرخاء، ويجلب الأمطار البعيدة، لأن سلطته مطلقة ومعرفته كاملة. كان النظام السياسي آنذاك قائمًا على سيد واحد، يعاونه وزير أعلى ومجلس للحكم، مع تدرج إداري «هيراركي» شديد التعقيد، ونظام اقتصادي أقرب لاشتراكية الدولة، وهو ما دفع ماكس فيبر للإطلاق على الدولة الفرعونية أول نموذج تاريخي متعارف عليه للبيروقراطية.

وفي العصر الإسلامي استمد الخليفة أو الوالي على مصر مشروعيته من شقين، أولهما، ديني باعتباره مسؤولًا عن الصلاة والشعائر الدينية والسلطة التشريعية، والآخر، بصفته مسؤولًا عن إدارة الجند والشرطة والقضاء وتسيير النظام. مع مهام الاقتصاد المتوارثة من العهود البيزنطية والفرعونية، وهي مهام إدارة الزراعة والري، وإنشاء السفن وتشييد المدن وجمع الخراج، وذلك عبر تنظيم مركزي من العمال يشرف عليه الوالي، الذي لا يسائله أو يحاسبه سوى الخليفة الإسلامي، ويشارك في الإدارة وجهاء المدينة متملكي الأراضي الريفية. 

العصر المملوكي والعثماني

قد يبدو أن عصر الخلافة العثمانية كان أقل مركزية بسبب تقسيمه للحكم عبر مقاطعات يشرف عليها الباب العالي لكن بالنظر في التفاصيل، فإن مهمة كل والي كانت الحفاظ والتشديد على المركزية الاقتصادية والسياسية، لجمع أكبر قدر ممكن من الإنتاج الزراعي وتوريده للخزانة، وضمان النهب المنظم لنفسه الذي يتقاسمه معهم المماليك المسيطرون أكثر على الأراضي والبيروقراطية المنفذة وفقًا لنظام الالتزام، وهو نظام إقطاعي لكن دون عقد اجتماعي مكتوب، فلا يحصل الفلاح أو المزارع سوى على قوته، في مقابل جباية عالية تُقسم وفقًا لما ذكرناه من تدرج وظيفي، وبنفس التمركز الطبقي، تواجد «الملتزمون» في القاهرة باعتبارها مصدر السلطة المركزية، وكانت هناك مقاومة شديدة لأي مراسيم تطلب منهم العودة لإقطاعياتهم. 

عهد محمد علي وصولًا للخديو إسماعيل

القلعة وجامع محمد علي، القاهرة، بعدسة المصور الألماني فيلهلم هامرشيدت (1858-1869)

سبق تنصيب محمد علي واليًا لمصر التواجد والخروج السريع للحملة الفرنسية، التي قدمت نوعًا من الصدمة الحضارية للمصريين، وإمكانية عمل نظام إداري قائم على الكفاءة والمعرفة وحسن الإدارة، وتبلور ذلك في ثورات الفلاحين المصريين، والمطالبات التي صاغها شيوخ الأزهر – المؤسسة الوحيدة في البلاد – واستخلصوا «الحجة» المشهورة من الباشا العثماني ومن كبار المماليك، كأول وثيقة في تاريخ مصر بين الحاكم والمحكوم سنة 1795، تضمنت شبه التزامات بعدم فرض ضرائب جديدة دون استشارة علماء الأزهر، ورد بعض الأموال المسلوبة.

صعد محمد علي للسلطة على أكتاف مظاهرات المصريين الساخطة على الحكم العثماني بعد نجاحه العسكري ضد الفرنسيين كقائد للفرقة الألبانية في الجيش العثماني، وتولى السلطة بناءً على تنصيب من شيوخ الأزهر بـشروطهم وموافقة الباب العالي على ذلك. 

ما لبث محمد علي أن باشر سلطته إلا وقام بتشديد القبضة المركزية وإعادة الهيكلة بإصدار الدواوين وتقسيم النظارات، وحل امتيازات الفرق العسكرية وتكوين الجيش الوطني كمؤسسة عسكرية وحيدة تحت يد رأس السلطة، وبادر بالإحلال الطبقي، بإلغاء نظام الالتزام ليتخلص من المماليك والطبقة البرجوازية العليا كضمان لعدم منازعتها له في الحكم لاحقًا، وإعطاء نفسه الفرصة في إعادة تخطيط الطبقات المجتمعية. 

ورغم الملامح العلمانية والقومية لدولة محمد علي من تكوين جيش من المصريين يُتاح فيه الترقي العسكري، وإنشاء مدارس غير مستمدة من الطابع الديني، والابتعاث الخارجي للعلوم التطبيقية، وبدأ مشاريع تحديث في بنية الري والزراعة، وكتابة وحصر الإنتاج الزراعي، لكن الطابع المركزي ظلت ملامحه قوية بإلزام الفلاحين بزراعة القطن لأغراض التصدير بدلاً من الزراعات الغذائية، وبالرغم من التحديث في الصناعة وإدخال عدد من الصناعات الأوروبية، لكن ارتبط بذلك منع الحرف الخاصة.

وألغى طوائف الغزل والنسيج وأجبر عمالها على الانضمام لمصانعه بالقوة، ومعاقبة من يوجد في منزله «نول» للنسيج بالتعذيب الأليم، ويحتفظ لنفسه في الحق في نقل العمال من مدينة لأخرى. 

أعاد محمد علي بنفسه توزيع الأراضي والإقطاعيات معفاة من الضرائب كعطايا وهبات، وخلق طبقة جديدة من الملاك والقائمين على الجباية. التحول الرأسمالي الذي أراده محمد علي ولكن بنفس النمط «الشرقي» للدولة، أفرز طبقة الملاك الجدد من أسرة الوالي محمد علي، ومن صفوة الفنيين الأجانب من الأرمن والشراكسة والأتراك والمماليك، الذين أصبحو كبار الملاك بنفوذهم داخل السلطة المركزية التي أسسها محمد علي، وحافظو على تقاليد الملكية المتواجدة في القاهرة والمزج بين الوظائف الإدارية العليا وميزات الرأسمالية الجديدة، وأعاد الأتراك والشراكسة السيطرة على الرتب العليا داخل الجيش المصري، واستمر السواد الأعظم من المصريين في حالة «العبودية المعممة» بين العمل بالسخرة، والتعرض للعقاب على إهماله في الزراعة، واستعباد السود، كمظهر قديم يعاد تطبيقه.

وبضعف سلطة محمد علي في نهايات حكمه وزيادة توافد التجار الإنجليز والأوروبيون، بدأت الدولة تتنازل عن بعض الصناعات الاحتكارية لكن ليس لصالح الرأسمالية أو البرجوازية الصغيرة في بداية حكمه، ولكن لصالح البرجوازية الأوروبية، والتجار الأجانب.

انفتح الباشا على النظام الرأسمالي العالمي، دون أن يكون للاقتصاد المصري مقومات الصمود أمام المنافسة، واستمر هذا النمط في الزيادة خاصة بعد الاحتلال الإنجليزي، الذي أعاد صياغة جهاز الدولة بالاشتراك مع الخديوي ممثل السلطة الشرعية لأسرة محمد علي، فأصبح الخديو يعين أصحاب المناصب العليا من أصحاب الأصول التركية، ويشرف الإنجليز على إدارة الأجهزة التنفيذية بشكل مباشر. 

الاحتلال والحقبة الليبرالية حتى ثورة يوليو

لم يحتج اللورد كرومر لمعجزات لبسط نفوذ إنجلترا على مصر، فببساطة حينما يفرض الاحتلال أو أي نظام سياسي سطوته على الجهاز البيروقراطي المركزي فهو يحتل الدولة المصرية. فقط دعم الاحتلال الإنجليزي الاتجاهات القائمة بالفعل في المجتمع، لم يكن يستهدف الإنجليز في مصر سوى تنمية الموارد الزراعية للحصول على أقصى عائد مادي ممكن، وصب الاحتلال في بدايته مجهوداته في السيطرة على وزارتي المالية والأشغال العمومية لهذا الغرض، قبل التوسع في السيطرة على باقي الوزارات مثل: الحربية والعدل والداخلية، وبمرور الوقت وتضخم المستشارين الإنجليز في المناصب العليا داخل البيروقراطية المصرية سيطر الاحتلال أكثر على النقل والمواصلات والدفاع والزراعة لتأمين المصالح، دون أي اهتمام يذكر بتطوير التعليم أو الثقافة أو الصحة كمسؤولية تقع على دولة الاحتلال.

لكن لم يعنِ هذا أن السيطرة المركزية على الاقتصاد استمرت بنفس نمط محمد علي. أدرجت مصر داخل الأسواق العالمية وتضخم عدد المستثمرين الأجانب من الجماعات الشامية واليونانية استفادة من مناخ حرية التجارة وطرح البضائع في السوق المصري، وشجع الاحتلال على الملكية الخاصة وظهور الأحزاب السياسية المتنافسة بالبلاد، بل وعدم الممانعة في إصدار الوثيقة السياسية الثانية «دستور 1923» وفقًا لتقرير لجنة ميلنر الذي أتاح للخديو إسماعيل التحول للملكية الدستورية وإعطاء المجتمع المصري هذا الحق، بعد اندفاع البرجوازية الصغيرة والفلاحين والمثقفين للمطالبة بحق تقرير المصير والمطالبة بالاستقلال في ثورة 1919. 

عبرت ثورة 19 عن تطورين في المجتمع المصري، أولهما، مفهوم المواطنة المصرية ووحدة المصير بين المسلمين والمسيحيين وفقًا لمصالح مشتركة، وهذا ما نجح في تمريره الوفد المصري الذي أسس الجماعة الوطنية المصرية، وتجلى ذلك الشعور العام باندماج الوفد المصري من المسلمين والمسيحيين، ورفض فكرة الكوتة للمسيحيين باعتبارهم أقلية، ورفض المسيحيون استخدامهم في شق صف ثورة 19 بتعيين رئيس وزراء مسيحي تعرض لمحاولة اغتيال على يد شاب قبطي، وغيره من المشاهد بالغة الدلالة والتأثير. 

أما التطور الآخر، فكان محاولة البرجوازية المصرية التصارع مع الاحتلال الإنجليزي لاستلام سلطة الدولة المصرية، سياسيًا عبر حزب الوفد واقتصاديًا عبر مجموعة بنك مصر والرأسماليين المصريين، مع إخفاق أهداف الثورة بعدم صعود الوفد للحكم إلا بناءً على شروط الإنجليز، وتحالف بنك مصر مع الرأسمالية الأجنبية والمتمصرة وخضوعها للسوق العالمي.

صاحبت الحقبة الليبرالية نمو كبير للرأسمالية الصناعية المرتبطة بالاقتصاد العالمي، ولذلك كانت ميول هذه الطبقة محافظة ارتبطت بأحزاب الأحرار الدستوريين والسعديين، وبمرور الوقت تحول حزب الوفد الذي نشأ كتحالف سياسي بين المثقفين، وصغار الملاك، والبرجوازية الصغيرة، والفلاحين والتجار، إلى حزب للبرجوازية الكبيرة والنخب الرأسمالية، وتهجن الوفد في وعد مخلوف للجماهير، وأصبح فقط حزبًا ذا قاعدة انتخابية كبيرة يجيد ألاعيب السياسة، ويوزع المناصب والهبات على معارف قياداته، لكن دون منجز واضح على مستوى القضية الوطنية، وعرف انشقاقات عديدة.

وعلى المستوى الاقتصادي ورغم تراكم الثروات الهائلة للنخبة الرأسمالية المتمركزة في القاهرة أصحاب «الملكيات الغائبة» بآلاف الأفدنة في الأرياف، زادت حدة الفقر بشكل كبير بسبب النظام الإقطاعي الاستغلالي في الأرياف، وهاجر الكثير من الفلاحين للقاهرة بحثًا عن الترقي الاقتصادي والاجتماعي المفقود، وبغض النظر عن المدبر والمستفيد من حريق القاهرة الشهير، لكن كان النازحون للقاهرة من الأقاليم مشاركين فيه بقوة غضبًا وسخطًا على التهميش الاقتصادي.

يوليو 1952: رأسمالية الدولة الوطنية وتطور النظام البيروقراطي

كان محمد علي حذرًا من البرجوازية الوطنية، وكان عبدالناصر حذرًا من الجماهير الشعبية. كلاهما حاول تحديث الدولة والاقتصاد، كلاهما أراد امتصاص الفائض من الريف بهدف التعجيل من التصنيع، المشروعان متشابهان من حيث الرغبة في التحديث والثقة المطلقة في التقانة، لكن دون إدخال تغيير ثوري على العلاقات الانتاجية والاجتماعية. حاول محمد علي بناء رأسمالية دون رأسماليين، وحاول عبدالناصر بناء اشتراكية دون اشتراكيين.

تتصف مرحلة 23 يوليو وما بعدها بمحاولة «التمصير» و«القومية التنموية» فلم تكن أهداف الحركة في بدايتها بين الضباط مختلفي الأيديولوجيا سوى تطهير الجيش والدولة، ولم تكن هناك أي تصورات حقيقية عما هو أبعد من ذلك، فلم يكن هناك عداء للرأسمالية أو تصورات عن مجتمع اشتراكي، ولم يكن هناك هدف واضح من قانون «الإصلاح الزراعي» سوى الحد من نفوذ البرجوازية الكبيرة وكبار ملاك الأراضي والطبقة السياسية المرتبطة بالحقبة الليبرالية، وإكساب الثورة تأييدًا اجتماعيًا، وإنفاذ البيروقراطية في السيطرة على الأراضي.

لم يكن ثمة دفاع حقيقي للفلاحين والعمال عن مصالحهم الخاصة بأنفسهم، وما كان إعدام العاملين «خميس» و«البقري» وقمع اعتصام عمال كفر الدوار إلا ترسيخًا لهذه الفكرة، التي استمرت مع تنظيمات العمال فيما بعد.

ظل النظام الناصري مهادنًا للرأسمالية حتى قوانين التأميم في بداية الستينيات، بعد عزوف الرأسمالية عن المشاركة في عملية التنمية والتصنيع التي رغب بها عبدالناصر، وتوضح كشوف «الحراسات» والمصادرة أغلبية من الرأسمالية «المتمصرة» والأجنبية، مما يؤكد دقة وصف النظام السياسي برأسمالية الدولة.

وظهر معها قطاع عام قوي نجحت فيه الصناعة المحلية من تلبية الاحتياجات بنسبة 84.5% من السلع الاستهلاكية و31% من الطلب على السلع الرأسمالية، مقابل 74% و12% على الترتيب قبل قيام الثورة. وأصبحت الصناعة تمثل 22% من الناتج القومي، وتوفر 11% من فرص العمل، وزاد متوسط دخل الأفراد بنسبة 2% سنويًا مقابل 0.1% قبل الثورة. كما ارتفعت معدلات النمو لمتوسط 5.5%، مع نمط اقتصادي يسمح باستفادة العمال من أرباح الشركات، وعلى العكس فلم تنجح السياسات الزراعية من تحسين وتطوير علاقات العمل والإنتاج في الريف، وعلى المستوى الطبقي لم يحدث سوى إحلال للبرجوازية القديمة وظهور ما سماه ليونارد بايندر بـ«الشريحة الثانية» من أعيان الريف.

على الجانب السياسي ومع حسم السلطة في 1954 لصالح نظرية «المستبد العادل» وإنهاء فكرة التعددية والديمقراطية، اقتصرت أمور السياسة على مناقشة التطبيقات الفنية والإدارية للسياسات العامة التي يصيغها هرم السلطة «عبدالناصر» والتي يقتصر النقاش فيها على الاتجاهات والقرارات الكبرى فقط مع رفاقه من الظباط الأحرار، بينما المشاركة الشعبية اقتصرت على التنظيمات الواحدة التي لم تكن تعبر عن توجه أيديولوجي، فقط تعبئة وحشد للجماهير وسيطرة على البيروقراطية وإدماج الترقي في التنظيمات أو البيروقراطية بناء على الثقة، مع اعتماد كامل على البيروقراطية الإدارية والعسكرية والأمنية، وصعود كبير للمكون العسكري داخل البيروقراطية تطبيقًا لمفاهيم الضبط والنظام، رغم أن الأغلبية كانت لطبقة المهندسين والفنيين لكن تضخمت نسب العسكريين في الإدارات والقطاع العام بشكل كبير.

 لم يكن هناك تنظيم سياسي له استقلاليته بعيدًا عن الدولة، واندمجت الوظيفة السياسية داخل أجهزة الأمن، التي أصبحت الطبقة العليا في الدولة سياسيًا واقتصاديًا، بجانب طبقة كبار المديرين داخل الأجهزة التنفيذية – من مهندسين واقتصاديين شكلوا النسبة الأكبر وعسكريين يتزايد نفوذهم مع الوقت – التي تضخمت بشكل كبير ارتباطًا بتضخم الجهاز الإداري للدولة كليًا، لكن ذلك لم يمنع هذه الطبقة من المشاركة في عملية الانفتاح الاقتصادي فيما بعد والتنكر للسياسات الاشتراكية التي ساهموا في تنفيذها، وهي نتيجة حتمية لتغييب وإبعاد السياسة التي يكرهها البيروقراطيون (من العسكريين أو الفنيين).

ولا توجد علامات على «برقطة» السياسة، ومحدودية المشاركة الشعبية، أكبر من الاتحاد الاشتراكي العربي، وهو محاولة التنظيم الذي تلى هيئة التحرير والاتحاد القومي، وبرغم صدور الميثاق سنة 1962 – كأول وثيقة سياسية في تاريخ الدولة المصرية يقرر الحكام إيضاح برنامجهم وتصورهم في السياسة والاقتصاد ودور المواطنين في ذلك – لم يكن الاتحاد الاشتراكي (نظام الحزب الواحد) الذي وصلت عضويته لـ6 ملايين شخص، تنظيمًا سياسيًا بالمعنى الحرفي، فقد ظلت السلطة الحقيقية بداخله في يد عدد محدود من الأشخاص المنتقلين من الجهاز البيروقراطي للاتحاد الاشتراكي – من بين 131 وزيرًا تولوا وظائفهم من 52 لـ68 لم يكن سوى وزيرين فقط تولوا وظائف في التنظيم السياسي قبل أن يتولوا الوزراة – وهناك 83 شخصًا ترقوا في قيادة الاتحاد الاشتراكي بناء على عملهم الوزاري أو بعده. 

فضلًا عن عدم أحقية مناقشة الاتجاهات الكبرى للسياسة داخل الاتحاد الاشتراكي، فلم يكن تنظيمًا حزبيًا حتى بفكرة التنظيم الحزبي الواحد الذي يؤسس لفكرة أو حركة في المجتمع ثم يتولى بها السلطة، بل على العكس هو تنظيم تتم إدارته من مكاتب البيروقراطية وأجهزة الأمن، وكانت الدوافع لعضويته هي الترقي في الوظائف ومضاعفة النفوذ.

ولم يكن ببعيد عن ذلك محاولة إنشاء التنظيم الطليعي السري، لتكوين تنظيم أيديولوجي صغير يعمل لصالح عبدالناصر ويفرض نفوذه بالكامل داخل أجهزة الدولة في وقت الصراع مع عبدالحكيم عامر، ومحاولة تطعيم هذا التنظيم بالشيوعيين  في قيادته مقابل حلهم لتنظيماتهم الأصلية، وبتطور العلاقات والمناورات داخل التنظيم الطليعي او الاتحاد الاشتراكي فقدت أيضًا هذه المحاولات معناها لتحولها إلى صراعات شللية على النفوذ داخل الدولة.

وبسبب الطبقة البيروقراطية العليا من المديرين التكنوقراط، وبسبب بنية الاتحاد الاشتراكي، لم يجد السادات صعوبة تذكر من الإطاحة بقيادات النظام الناصري وإعادة تموضع السلطة نحو شخصه، أو بتحويل النمط الاقتصادي في المجتمع للانفتاح وتحرير السوق وتصفية القطاع العام، لم تكن هناك جذور حقيقية تمنع هذا التحول من الحصول بمجرد قرار فوقي. 

الانفتاح

الرئيس المصري الراحل «محمد أنور السادات»

مع تولي أنور السادات الحكم وللعوامل التي ذكرناها، ولرغبته في تكوين طبقة من المؤيدين حوله، ضغطت النخبة التكنوقراطية والرأسمالية القديمة للاعتماد على القطاع الخاص، ولبى السادات النداء بقوانين الاستثمار والانضمام لاتفاقيات الاستثمار الاجنبي، والإعلان عن سياسة «الانفتاح» بعد نهاية حرب أكتوبر. 

ظهر الانفتاح في صيغة تحالف بين، رأسمالية تقليدية متواجدة من قبل الثورة، وبرجوازية الدولة البيروقراطية بما فيها الجناح ذو الأصل العسكري من كبار المديرين ورؤساء مجالس الشركات والسفراء، وثالثهم الرأسمالية الجديدة التجارية ذات الطابع الاستيرادي.

ساهم في إنعاش هذا التحالف قرارات تصفية الحراسات، وتشجيع الزراعات التصديرية غير التقليدية، وإقرار حق الأفراد في فتح التوكيلات للشركات الأجنبية. وبرزت عائلات رأسمالية بعينها حول السلطة كأكبر المستفيدين من الانفتاح الاقتصادي، وعمليات التجارة الخارجية وشركات المقاولات، إلى جانب «رأسمالية طفيلية» وهي الطبقة التي اعتمدت على تربحها من الأنشطة الريعية، وبعض الممارسات الفاسدة مثل: السمسرة، والاحتكار، والتهريب، والسوق السوداء، وتجارة المخدرات والتي ازدهرت الزراعة المرتبطة بها في وجه قبلي نتيجة ربحيتها العالية، بالإضافة لنمط غسيل الأموال عبر قنوات داخل أجهزة الدولة.

بشكل عام، أنتجت فترة الانفتاح في السبعينيات والثمانينيات برجوازية دولة محافظة على تماسكها النسبي وسيطرتها على أجهزة الدولة لصالح التخلص من الاشتراكية، ارتبطت بها رأسمالية تقليدية ورأسمالية طفيلية، أسهمت في تراكم الثروات لديهم جميعًا استفادةً من مواقعهم المؤمنة بالسلطة وجهاز الدولة البيروقراطي والأمني.

ورغم محاولات التمايز والاستقلال النسبي بين الدولة التي تريد الحفاظ على القطاع الخاص والتخلص من الأعباء الاشتراكية لكن دون الارتباط بمصالح الرأسمالية الطفيلية، وبين بيروقراطية عليا متشابكة المصالح مع الفئات الرأسمالية، ورغم هذا الصراع أو التنافس فالناتج النهائي أن الطبقات الجماهيرية الواسعة من الطبقات الوسطى والعمال والفلاحين أظهرو سخطًا وتمردًا مشتركًا تجاه هذا النمط الاقتصادي في شكل المواجهة مع مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية مباشرة، سواء في مظاهرات 1977 أو انتفاضة الأمن المركزي 1986.

وأخيرًا، رأينا كيف تبلورت الدولة بمفاهيمها المختلفة في مصر عبر منظور تاريخي، ومنظور التحول الرأسمالي والتنمية الاقتصادية والسياسية، ومؤدى ذلك أن ظاهرة الدولة في مصر قوية نسبيًا، وأن جهازها البيروقراطي ضخم وقوي وصعب التحلل، ليس بالضرورة متوحش وذو كفاءة خارقة، لكنه يضمن السيطرة على المجتمع، ولم ينجح المجتمع حتى الآن في بناء المؤسسات السياسية والتمثيلية لتصبح حلقة وصل حقيقي بين الدولة والمجتمع.