أمام أسماء كُتَّاب الروايات والكتب التي كان ينتهي منها «عُمر سليمان»، اعتاد أن يتسمر، متخيلًا اسمه مكان تلك الأسماء منذ صغره، غير عابئ بالرحلة الشاقة التي خاضوها ليصل إنتاجهم إلى القُراء، حتى وجد نفسه في خضمها متحملًا صعابًا لا حصر لها، ليتسنى له نشر أولى رواياته من على كرسيه المتحرك في منزله الكائن بمحافظة الإسكندرية.

قبل ثلاثة عقود، تأكد لدى أسرة سليمان الخبر المشئوم، وبات عليهم مواجهة الواقع المُر، الذي يفرض عليهم رؤية صغيرهم غير قادرٍ على الحركة من مكانه وملازمة المنزل؛ إذ حاول الصغير التشاغل عن مرضه بطرق عدة، لم يستهوِه منها سوى قراءة القصص والمجالات «كان والدي دايمًا ييشتريلي مجالات ميكي وسمير»، التي يستغرق في قراءتها ساعات طِوالًا، متنقلًا من مغامرة إلى أخرى، متقمصًا دور أبطالها «كنت معظم الوقت عايش في الخيال».

من عام إلى آخر، ترسخ وجود «عمر» في المنزل، حيث تلقى تعليمه الأزهري بمساعدة والديه اللذين لم يقصرا تعليمه على المواد الدراسية، وإنما أرادا توسيع مداركه بالقراءة التي تناسب عمره «لما بدأت في مرحلة المراهقة، قرأت روايات الجيب، لأحمد خالد توفيق، ونبيل فاروق». عالم جديد دخله الصبي المراهق، فتملكته دهشة كبرى، جعلته يتعمق في قراءاته يومًا تلو الآخر «لحد ما قررت أكتب أول قصة، وكنت متحمس قوي»، فما إن فرغ منها، عرضها على والديه «عجبتهم جدًّا، ومن يومها متوقفتش عن الكتابة».

صعوبات.. صعوبات

بسبب صعوبة تنقله، ووجوب مرافقة أحدهم له، قضى «عمر» معظم وقته في منزله بين قراءاته وكتاباته، دون أن يعرض إنتاجه على كُتاب آخرين اعتادوا التردد على مكتبة الإسكندرية «كان بيحصل هناك ندوات لكُتاب وروائيين، فكنت ساعات أقدر أروح وساعات مقدرش»، حتى حانت اللحظة التي عثر فيها على عالمه الخاص «أول ما الإنترنت دخل مصر، بدأت أدور على منتديات ثقافية، وأنشر فيها قصصي ومؤلفاتي»، فشرع يتلقى آراءً مختلفة عما تنتجه يداه.

مُستعينًا بالانتقادات والآراء التي تلقاها على مؤلفاته، تمكن الكاتب الذي أصبح في الأربعين من عمره، من المشاركة في مجموعة قصصية حملت عنوان «زوجة تقليد»، بالتعاون مع بعض الكُتاب الشباب العرب، وذلك عام 2008 «كانت تجربتي الأولى في النشر الإلكتروني»، لتتوالى تجاربه في عالم الأدب الإلكتروني «شاركت في مجموعة قصصية اسمها «شبابيك على شارعنا» بقصة واحدة».

الروائي عُمر سليمان

واصل الكاتب الأربعيني محاولاته حتى قيام ثورة يناير؛ وانفتاح المجال الثقافي بشكل أكبر، فاتخذ قراره بخوض تجربة التأليف منفردًا «بدأت بتأليف أولى رواياتي وقعدت فيها كام سنة»، نظرًا لصعوبة العيش، واضطراره للقبول بالعمل في بعض الوظائف البعيدة عن الكتابة «كان لازم أكون مستقبلي وأشتغل»، حتى عاد إلى استكمال روايته «أرض رشيدة» التي صدرت عام 2014 «أخدت وقت كبير لحد ما لقيت دار نشر تنشرها».

رحلة شاقة أخرى تكبدها خريج جامعة الأزهر، في عالم النشر بالغ الصعوبة، لا سيما في أولى تجاربه في التأليف «فيه دور نشر بتفرض شروط تعجيزية، وبيطلبوا فلوس كبيرة للنشر»، إلى أن توسعت معارفه في هذا العالم، فبات على علم بقواعده «نشرت رواية «الحب المفقود.. المغتربة» في 2016، ورواية «سيزورون» في 2020»، لرغبته في توصيل كلماته إلى القراء.

النور مكانه في القلوب

للرغبة نفسها، عاهدت «إسراء البرعي» حالها على نشر مجموعتها القصصية الأولى، قبل أن تُنهي سنتها الأخيرة بكلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة دمياط، فما إن فعلت، أخذت تفتش عن طريقة لإيصال ما كتبته يديها، دون أيِّ خبرة مسبقة في هذا المجال «كتبت في جروبات على الفيس بوك وبقيت أسأل الناس»، حتى اهتدت بعد عناء البحث إلى إحدى دور النشر المعنية بنشر مؤلفات الشباب، غير أن مفاجأة كبرى كانت في انتظار مسئول تلك الدار «عرضت عليهم المجموعة، ووافقوا على النشر، ويوم ما روحت أكتب العقد، تفاجئوا بإني كفيفة».

في الثامنة من عمرها، فقدت إسراء بصرها، فخاضت طريقًا صعبة بدأتها باغترابها في محافظة أخرى بعيدة عن أهلها، لترتاد إحدى مدارس المكفوفين؛ أخذت تعتمد على نفسها للمرة الأولى في سن صغيرة، فانتابها إحساس ثقيل «مكنتش متعودة على الوحدة»، حاولت التحايل عليها بكتابة ما يجول في خاطرها من أفكار، وما تشعر بها من مشاعر مختلطة لم تقوَ على الإفصاح عنها «أول ما بدأت أكتب حسيت إني بقيت أحسن»، فواصلت تلك الطريقة.

خجل شديد أصاب الفتاة العشرينية، ما إن اتخذت قرارها بعرض ما كتبته على أسرتها للمرة الأولى، هالها إعجابهم به، ومن ثم واصلت طريقها حتى اعترضتها عقبة أوقفتها «كان لازم أتعلم الكتابة على الكمبيوتر، فبدأت أدور على طريقة»، إلى أن التحقت بدورة لتعليم استخدام الكمبيوتر للمكفوفين على مدى ستة أشهر «أول ما عرفت أكتب على الكمبيوتر حسيت إني شوفت من جديد».

من مسابقة إلى سواها، نافست «إسراء» في الكتابة، احتلت المراكز الأولى، حظيت كتاباتها بإشادة أساتذتها، بحثت عن طرق جديدة لتطوير ذاتها حتى بات إنتاجها مُلفتًا لكل مَن حولها «فكرت إنه لازم أكتب شيء جاد، ويكون عليه اسمي ويظهر لكل الناس»، فشرعت بذلك، متخطية حواجز عدة نصبت في طريقها، عدا حاجز بعينه يُصيبها بضيق شديد كلما تذكرته «نظرة الشفقة اللي بحسها من البعض تجاهي، أو اللي بيقيموا شغلي بناء على إني مكفوفة مش إني بكتب حلو».

قبل أن تخضع ابنة مدينة دمياط لامتحان نهاية العام في السنة النهائية بالجامعة تلقت اتصالًا هاتفيًّا يخبرها بالموافقة على نشر مجموعتها القصصية «خواطر قلم»، التي عُرضت في معرض الكتاب الماضي في دورته الـ52، فغامرتها سعادة كبرى عززت ثقتها بإمكانياتها، ودفعتها لاستكمال مشوارها في الكتابة، فانكبت على مشروع جديد، فرغت منه منذ أشهر معدودات، ليعرض في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يُقام اليوم الأربعاء في دورته الـ53.  

خواطر قلم

«مجموعة قصصية جديدة اسمها صياد القلوب»، وضعت بها جُل تجاربها وحكايات المقربين ممن حولها، بالإضافة إلى مشاعرها التي لا تحسن الحديث عنها إلا على الورق، لكنها فوجئت برفض دار النشر التي تعاملت معها للمرة الأولى «قالوا إنهم مش هينشروا مجموعات قصصية الدورة دي»، فكان عليها البحث مجددًا عن أخرى تقبل إنتاجها، حتى توصلت إلى «دار مختلفة لكن المرة دي نظير مبلغ معين»، فانصاعت، لرغبتها في توصيل كلماتها لقُراء يشبهون أفكارها.

بعيدًا عن العالم

نظير نفس المبلغ من المال، اضطرت الكاتبة «تهاني هدهد»، لدفعه لإحدى دور النشر، نظير نشر روايتها الثانية «ورفعت الراية البيضاء»، بعدما انتهت منها عام 2019؛ حيث بدأت طريقًا طويلة في البحث عن دور النشر لنشر روايتها «الموضوع كان صعب عليَّ جدًّا»، وذلك لصعوبة تنقلها من مدينتها دمنهور بمحافظة البحيرة، للعاصمة بالقاهرة.

لم تختلف العقبات التي واجهتها الكاتبة «تهاني» عن «إسراء، وعمر» كثيرًا، سوى أنها بدأت مشوارها في عالم الكتابة منذ وقت دراستها بكلية الآداب في عام 1994، ليظهر أول عمل لها بعدها بعامين «كانت رواية اسمها بعيدًا عن العالم»، فظلت حبيسة الأدراج حتى 2013، إذ شاركت بمسابقة «التمكين الثقافي لذوي الاحتياجات الخاصة»، إحدى فعاليات المؤتمر العلمي السنوي للتمكين الثقافي لذوي الاحتياجات الخاصة، والذي تنظمه الإدارة المركزية للشئون الثقافية بهيئة قصور الثقافة والذي انطلق منذ 2009.

 

ودرج المؤتمر على مدى دوراته الـ12 على مناقشة التحديات الجديدة التي تواجه ذوي الاحتياجات الخاصة وأسرهم، ودور المؤسسات الحكومية والأهلية في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والطبي، و«توظيف تكنولوجيا التحول الرقمي في خدمة قضايا ذوي الاحتياجات الخاصة لا سيما في ظل تداعيات جائحة كورونا»، بالإضافة إلى «دور وسائل الإعلام المختلفة في التوعية بمخاطر الجائحة والوقاية منها والتخفيف من آثارها»، وتقديم «نماذج من التجارب والخبرات المحلية والإقليمية والعالمية».

«رغم إني فزت بالمركز الثاني في المسابقة على مستوى المحافظات، لكن ظلت الرواية في مكانها»، إحباط شديد تملك الكاتبة الأربعينية، لإحساسها بتأخرها عن الطريق التي أرادت أن تسير فيها منذ التحاقها بالجامعة «بسب إعاقتي مكنتش بقدر أتابع مع دور النشر وأسافر للقاهرة»، لكنها لم تتوقف؛ إذ انكبت على مشروعها الثاني، بينما استمرت في محاولات خجولة لنشر روايتها الأولى إلى أن تمكنت من ذلك في 2018 «وقتها حسيت إني كاتبة وروائية حقيقية».

تدرك «تهاني هدهد» مدى اختلافها، لذا تصر على مواصلة طريقها الذي تعي أنه لن يكن يسيرًا أبدًا، وذلك في ظل الشروط التي تزداد يومًا عن الآخر، لنيل فرصة نشر إنتاجها الأدبي «خصوصًا موضوع الدعاية للروايات محتاج جهد كبير وإمكانيات مش عندي»، غير أنها تحاول جاهدة لتوصيل كلماتها لأكبر عدد من القُراء، ليتعرفوا عليها من خلال كلماتها.