توصلنا في المقال السابق لكون التاريخية عند كل مفكر ممن اصطلح على تسميتهم بالتاريخيين، تمثل برنامجا خاصا من حيث تصوراته عن «التاريخ» -تعيينا وطبيعة- ومن حيث نظرته لـ «كينونة النص»، كذا من حيث منهجياته في التعامل مع القرآن ودور التسييق التاريخي في عملية القراءة وإنتاج المعنى، وحتى من حيث «عملياته المنهجية» شديدة الدقة مثل التعامل مع علوم القرآن التي تتناول علاقة القرآن بالواقع كأسباب النزول والنسخ، وقلنا أن أهمية هذه الاختلافات تأتي من كونها خلافات في «رهان المعنى» بالأساس حيث تتعلق بقدرة كل برنامج على الاقتراب من تحقيق هذا الرهان الرئيس عند التاريخانيين باختلاف برامجهم.

الحديث عن تأثير هذه الاختلافات في تحقيق رهان المعنى سنؤجله لمقال لاحق، وبدلا من هذا سنقوم هنا بمحاولة بيان أن «المعنى» ليس هو الرهان الوحيد للتاريخيين، وأن برامجهم المختلفة تصوريا ومنهجيا تحمل كذلك رهانات مختلفة. لهذه الرهانات ولعلاقتها برهان المعنى أثر في تشكيل هذه البرامج، كما لهذه البرامج أثرها في مدى تحقق هذه الرهانات، تحديدا سنتناول هنا رهان «تجاوز التلفيقية»، والذي نستطيع تبينه بكل وضوح كرهان لبعض برامج التاريخية مثل تاريخية نصر أبو زيد وتاريخية عبد المجيد الشرفي. مقالنا هنا سيقتصر على نصر، تاركين لتاريخية الشرفي مقالا تفصيليا آخر.


نصر ومعضل خطاب النهضة

إن القراءة التاريخية للقرآن باعتبارها قراءة قادرة على تحرير معنى النص القرآني من الجمود والأحادية وثبات المعنى عبر تحويل موضع النظر من الُمرسِل إلى الُمرسَل إليه وإعادة موقعته في قلب الرسالة كغاية لها «فالناس هم هدف الوحي وغايته»[1] ليست الهدف الوحيد الذي يبغي نصر تحقيقه من خلال رفع لافتة «التاريخية» كعنوان لخطابه. في الحقيقة أن «تاريخية» نصر تحضر كفكرة مركزية تضيء كل جوانب خطابه المتَّسِع بانهمامات كثيرة ومتعددة، بداية من القرآن وصولا إلي رؤيته لمعضل العلاقة بين المثقف والسياسي، مرورا بالموضوع الهام لمقالنا ألا وهو تحليلاته لخطاب النهضة «الذي صار تراثا يخضع للفهم والتفسير والتحليل، لا لإعادة إنتاجه وتسويقه على طريقة الانفتاح الاقتصادي»[2]. قراءة نصر لهذا الخطاب ممثَّلًا في أعلامه: عبده وطه حسين وزكي نجيب محمود، تتم عبر منظور تُشكِّل فكرة «التاريخية» مركزه. فهذه الفكرة هي التي تمثل في نظر نصر الطريق الذي كان تنكَّبه خطاب النهضة مرارًا وتكرارًا وهو السبب الرئيس لتأزمه وفشله؛ فمعضل هذا الخطاب فيما يؤكد نصر، في تمهيده لـ «النص، السلطة، الحقيقة»، كامن في «تغييب الوعي التاريخي».

قبول محمد عبده بتعالي النص وأزليته أدى إلى استعصاء النص على تطبيق منهجيات وأدوات حديثة عليه مع طه حسين

هذا المعضل معضل «تغييب الوعي بالتاريخ» هو معضل منهجي عام لا يقتصر فحسب على تعامل هذا الخطاب مع القرآن، إذ يرتفع لحد كونه آلية من آليات خطاب النهضة في التعامل مع كل الأفكار، إذ ينزعها عن سياقاتها، لكنه فحسب يجد أكبر تجلٍ له في التعامل مع القرآن. فالطريقة التي يتمثل العقل بها القرآن في خطاب النهضة «تَنْتُج عن» كما «تُعيد إنتاج» و «تكريس» تغييب الوعي التاريخي في مجمل تعاملات الخطاب مع كل الأفكار بنزعها الدائم عن سياقها: قرآن، تراث، العلم الغربي المنتزع كتقنيات من سياقه المعرفي؛ لذا فإن تجاوز هذا المعضل في التعامل مع القرآن تحديدا يعني تجاوز التفكير بـ «الأصل» وبـ «النص» كآلة من آليات هذه الخطاب وإرساء المنزع التاريخي كبديل عنها. هذا التجاوز وفقا لنصر لم يتم في أي من مراحل هذا الخطاب، لذا يستمر هذا المعضل من عبده لزكي نجيب محمود كنتاج طبيعي لتفويت فرصة الحسم بتاريخية القرآن. ورغم أن «لو» أداة شرط غير تاريخية، فلا مناص أمامنا من استخدامها لنقول: ربما لو حسم عبده الإشكالية باختيار «الخلق» كما احتار «العدل»، لتمكَّن طه حسين من تجاوز التردد بين الاعتداد بالمرجعية التاريخية لنص القرآني وبين إنكار هذه المرجعية، ولربما استطاع أن يتجاوز الوضع الثنائي الازدواجي إلى تركيبة إبداعية على مستوى المنهج وعلى مستوى النتائج[3].

تفويت الحسم في تاريخية القرآن كاستمرار لتجاهل المنزع التاريخي وتكريس له، هو الذي يفسر عند نصر كل السمات المحايثة لخطاب النهضة والمعبرة عن أزمته، مثل كونه خطابًا تلفيقيًا وانتقائيًا وذرائعيًا. فهذه السمات تنتج عن هذا التفويت نفسه وتعيد تأكيده. فنتيجة غياب الوعي التاريخي، قَبِل عبده بأزلية القرآن فأنتج «تلفيقا» بين العقائد الأشعرية والمعتزلية دون وعي بالسياقات التاريخية للتراث، ثم إن هذا القبول كرَّس تعالي النص وأزليته بحيث استعصى هذا الأخير على تطبيق منهجيات وأدوات حديثة عليه مع طه حسين الذي يراه نصر قد حرك معادلة النهضة التوفيقية قليلا بحيث لم يعد همه إيجاد أفكار من التراث مماثلة للأفكار الغربية، بل تحول الغرب عنده لأداة منهجية لفهم التراث.

استمرار تكريس أزلية النص وصيانة التراث من عمل المناهج الحديثة أدَّى لظهور تلفيقيات أعمق يمثلها خطاب زكي نجيب محمود الذي أُقصي فيه الدين في خانة الوجدان والأصالة.

لكن تعالي النص القرآني المكرَّس عبر عبده نتج عنه إيقاف لاشتغال هذه الأدوات باطِّراد على القرآن، مما أدى في نظر نصر لـ «تجاوارت» في خطاب العميد:منهجية تتعلق بالجمع بين منهجية ديكارت الحديثة ومنهج علم الحديث التقليدي عند ابن سلام الجمحي في التعامل مع الشعر والقرآن، وفكرية أدَّت فيما يرى نصر لانحسام مشروع العميد لصالح التراث والإسلاميات وترك المعاصرة. عدم الحسم واستمرار تكريس أزلية النص وصيانة التراث من عمل المناهج الحديثة عليه أدَّى لظهور تلفيقيات من مستوى أعمق يمثلها خطاب زكي نجيب محمود حيث أُقصي فيه الدين في الأخير في خانة الوجدان والأصالة، ووُضِع في مقابل العلم والعقل والمعاصرة، ليتأكد كون «التراث منطقة محرمة تتأبى على التحليل العلمي»[4]، الذي يمثل الحل لكل مشكلاتنا في ذات الوقت وفقا لزكي نجيب محمود!

والخروج من هذه التلفيقيات وكل ما يحايثها من بنى التجاور المنهجية والتي تؤدي إما لتساكن الأفكار والمنهجيات وتجاورها، أو انحسامها لصالح القديم والموروث، لا يمكن أن يتم وفقًا لنصر، إلا عبر استعادة الوعي التاريخي من بوابة النص نفسه، أي بالقول بتاريخية القرآن.

فبالإضافة لكون القول بتاريخية القرآن يتجاوز الجذر المعرفي للتلفيق بتجاوز تغييب السياق التاريخي، فإنه يحقق تجاوز تلفيقيات خطاب النهضة وثنائياته بطريقتين:

الأولى هي ما تعنيه هذه التاريخية من إخضاع النص للمناهج العلمية المعاصرة والحديثة مما يعني التخلص من هذا السور المبني بين الدين والعلم الذي يحوِّل الدين لإيديولوجي، والعلم لمحض أدوات وتقنيات معزولة عن أساسها المعرفي، بحيث يفتح الباب لتطبيق هذه الأدوات وحمولتها المعرفية والفلسفية على النص الديني نفسه، وكسر التحريمات التي كرسها خطاب النهضة من عبده لزكي نجيب محمود حول التراث والقرآن.

وهذه الخطوة تمهدللخطوة الثانية لتجاوز التلفيق والانشطار والمتمثلة في إدخال الإنسان المسلم المعاصر في قلب الرسالة نفسها بحيث تصبح هذه الرسالة متجهة إليه ولتحقيق مصلحته ومعبِّرة عن مشاغله وقادرة على التناغم مع القيم التي يطمح إليها.

وفقا لنصر فإن التلفيقية تنتهي تماما بإرجاع تصورات وتشريعات القرآن لسياقها التاريخي.

يقوم «التسييق التاريخي» بإرجاع تصورات وتشريعات القرآن لسياقها التاريخي ونزع كل غُلالات التلفيق والتلوين عن مفاهيم القرآن لكشف «معانيها» المرتبطة بنظامها اللغوي المتنزله فيه، وعبر قراءة المسلم المعاصر للقرآن تنكشف «المغازي القرآنية» من داخل النص وهي مغازٍ توافق تماما متطلبات المسلم المعاصر بكونها تمثل قيم «العقلانية» و «الحرية» و «الفردية»!

وفقا لنصر فإن التلفيقية تنتهي تماما بإجراء كهذا وينتهي انشطار الخطابات العربية بين كل هذه الثنائيات المنتمية لمعادلة خطاب النهضة الأثيرة كما ينتهي اغتراب المسلم المعاصر في عصره عن نصه أو في نصه عن عصره!

أما في ظننا فالأمر ليس على هذا الشكل، بل العكس تماما، فما نراه هو أن تاريخية نصر كبرنامج محدد من تصورات ومنهجيات لم تفعل سوى إنتاج «تلفيقيات جديدة» على كل المستويات، بدءا من التلفيق بين النص والقيم الحديثة في استمرار مع التلفيقيات القديمة و«التلوينات» التي يمُجُّها نصر كثيرًا، وصولا لتلفيقيات على مستوى البرنامج وتصوراته وإجراءاته المنهجية نفسها، بحيث يجمع بين تقنيات متناقضة وتجاورات تُأْذِن بالانفجار، كما تأذن باستعادة لما قام برنامج التاريخية النصري نفسه لرفضه في الأساس!


تلفيقيات جديدة

كما قلنا في المقال السابق فإن نصر أبو زيد وبسبب تصوره للتاريخ من حيث تعيينه «التاريخ الجاهلي وتاريخ الدعوة»، ومن حيث طبيعته كتاريخ لا يحمل أي قدر من الثبات، يرفض تصور أن للقرآن كينونة خاصة كما يرفض كذلك الحديث عن وحدة للقرآن كما تبيّن في خلافه مع أركون حول وحدة النص والألسنية الدينية. وهذا الأمر شديد الاتساق: فتحوُّل القرآن لمجموعة خطابات لا يوجد مركز دلالي لتوحيدها[5] هو النتاج الطبيعي لتصور نصر للـ «تاريخ» كتاريخ ضيِّق ومتشذر وخالٍ من أي ثبات حكائي أو رمزي يعطيه كينونة واستقلالا ووحدة في مواجهة التغيرات الجاهلية، و«حضور وحركة» عبر الزمان.

لكن المعضل هنا هو أن هذه النظرة للتاريخ وما يتبعها من تصور لكينونة النص ولوحدته لن تستطيع جعل القرآن حاملا للقيم العصرية التي ينادي نصر بها (العقلانية والحرية) كمقاصد قرآنية جديدة[6]، وبالتالي سيفقد النص أي صلة بهذه القيم لينتهي الحال به أن «يجاورها» كما في خطابات العميد وزكي نجيب محمود. وربما كان من الممكن بالنسبة لنصر الذي يرفض التلفيقية وإقحام القيم العصرية على النص وتجاهل سياقه التاريخي أن يرضى بنتيجة كهذه كي يحقق بالفعل رهان تجاوز التلفيقية، لكن هذا في حقيقة الأمر لا يمكن، لأكثر من سبب:

أولها كون تصور كهذا عن نص متشذر ومرتهن لسياقه التاريخي دون حركة سيجعل برنامج نصر يخفق في تحقيق رهانه الأصلي «رهان المعنى المتحرك الذي ينتجه القارئ بالتفاعل مع النص» في مقابل جمود المعنى الذي يتهم به نصر قراءات خصومه. لذا فقد كان على نصر تحريك هذا النص وعدم تركه مرتهنًا لتاريخ الجاهلية قصير المدة وتاريخ الدعوة، ولا يمكن تحقيق هذا إلا عبر تجاوز تشذر النص للحديث عن «كُلِّيَّات ما» للقرآن، من هنا جاء الحديث عن العدل والعقلانية والحرية كقيم كلية للنص أو «مغازي» أو «مقاصد للوحي» تعطيه ثبات في مواجهة التغير الجاهلي وتمثل مبدأً لحركة النص فيه وأفقًا له، وتُحقِّق رهان المعنى المتحرك في التاريخ المنتَج عبر القارئ.

السبب الثاني الذي حتم على نصر عدم الوقوف عند لحظة نفي الكُلِّيَّة والوحدة هي أن نقد نصر ليس موجهًا فحسب لمن يستنطقوا القرآن حداثيًّا متجاهلين سياقه التاريخي أو «معانيه» عبر تلوينه، بل موجها وبصورة أكبر لمن يستنطقوه حاكميًّا وفي مواجهة القيم الحديثة. وإذا كان التسييق التاريخي ورفض استخراج المفاهيم الحديثة من النص كافيا للتخلص من تلفيقية المشاريع «الحداثية» فإنه غير كافٍ للتخلص من خصوم نصر الإسلاميين. إذن لم يكن أمام نصر سوى إضافة خطوة لاحقة على هذا «التسييق التاريخي» وهي دمج القيم الحديثة في النص نفسه كـ «مغازٍ» له أو «مقاصد للوحي»، مما أنتج ما يمكن اعتباره «تلفيقية مضاعفة» أو «تلوينية جديدة».

مع نصر، لم تعد هذه «العقلانية» بمعناها الحديث المحدَّد كمقابل للأسطورة «كخرافة»، «معنىً» مباشرًا للنص، بل أصبحت هذه العقلانية «مغزىً»، مقصدًا للوحي.

فإذا كانت «العقلانية» في تلفيقية النهضة ومقارناتها ومقارباتها مساوية لحديث القرآن عن العقل والتدبر، وكان حديث القرآن عن الشياطين «كمفهوم توحيدي» حديثًا عن القوى النفسية «كمفهوم علمي حديث»، فإن الأمر لم يتغير مع نصر، كل ما في الأمر أنه تأخر لخطوة. فمع نصر، لم تعد هذه «العقلانية» بمعناها الحديث المحدد كمقابل للأسطورة «كخرافة»، «معنىً» مباشرًا للنص، بل أصبحت هذه العقلانية «مغزىً»، مقصدًا للوحي، قولًا إلهيًّا مخبئًا داخل طيَّات النص، وعلى التاريخاني العصري «استخراجه» عبر اختراق «المعنى» المرتبط بالسياق اللغوي للتنزيل.

يتضح هذا لو نظرنا إلي تعامل نصر مع ذكر القرآن للجن والشياطين والسحر وعلاقة هذا بالعقلانية. في «مفهوم النص» يوضح نصر أن ذكر القرآن للجن والشياطين وتحجيم قدرتها ثم أنسنة الجن، هدفه وفقًا للسياق التاريخي الكاشف عن «معنى» النص هو: بلورة مفهوم الوحي الإسلامي وفصله عن الكهانة كمفهوم جاهلي مثَّل أساسًا ثقافيًّا لظاهرة الوحي نفسها. وهذا فهم يبتعد بالفعل عن أي تلفيق أو إسقاط، بحيث يفهم التحويلات الدلالية التي قام بها القرآن في قضية الجن والشياطين باعتبارها في «مصلحة الإسلام» [مفهوم النص، ص 40] كي ينقل الثقافة الجاهلية من «الكهانة» لـ «الوحي» مفهومه الرئيس. لكن هذا الفهم ليس هو الفهم المكتمل الذي يكوِّنه نصر عن تعامل القرآن مع الجن و الشياطين، فلا زال علينا كشف «المغزى» أو المقصد. هذا المغزى وفقا لنصر في «نقد الخطاب الديني» هو التخلص من التصورات الأسطورية؛ بتعبيره: «نقل الثقافة من مرحلة الأسطورة لبوابات العقل» [نقد الخطاب، ص213]. فهذا العقل -ذو المعنى المحدَّد بالعقل الحديث- وإقراره ،والذي لم يعد «معنى» للنص كما في تلفيقيات النهضة الإسقاطية، لم يغب عن النص مع نصر بل أضحى هو «مغزى» الوحي ومقصده!

لم يتجاوز نصر التلفيقية الطامحة لقراءة القيم الحديثة من على صفحة النص، بل أعطاها رداءً علميًّا بعدِّها مغازٍ له.

مما يعني أن نصر لم يتجاوز هذه التلفيقية الطامحة لقراءة القيم الحديثة من على صفحة النص، بل أعطاها رداءً علميًّا بعدِّها مغازٍ له وفقا لمنهجية هيرش في التفريق بين «معنى» النص و «مغزى» النص، لكن هذه المغازي ظلت هي نفس مفاهيم خطاب التنوير العربي المسقطة على النص من خارجه، مما يعني أننا أمام «طلاء» أو «تلوين» للتلفيقية القديمة لا أمام تجاوز لها نحو «قراءة علمية» كما يكرر نصر كثيرا.

هذه «التلفيقية» أو «التلوينية الجديدة» بين النص و الأفكار الأثيرة للتنوير العربي، تجعل برنامج نصر يبتلع ذاته، ينفجر داخليا ومن تلقاء نفسه، هذا لأن اعتبار قيم محددة مطلوبة هي مغازي للنص و كليات فيه ومقاصد للوحي لا يعني سوى الرجوع للنقطة التي بدأ نصر خطابه و برنامجه للتاريخية بالتخلص منها، أي ارتباط النص بالله كمحدد لفهمه، حيث تتعلق عملية تحصيل المعاني بوجوده في أفق القاريء، حيث القراءة هي عملية تحصيل لمعاني أزلية مفارقة سابقة على وجود النص ومتعالية على تشكله التاريخي، فنصر بدأ خطابه بنفي كل هذا، بالتأكيد على كونه يتعامل مع القرآن بعد تموضعه بشريًّا و كنص ثقافي لا نحتاج في برنامج قرائته إلى استحضار إلهيته، فالمعاني والدلالات تنتج عبر تفاعل القارئ مع النص في سياقه التاريخي دون سؤال عن مرجعية هذه النصوص المتعالية لأنها لا تُشكِّل جزءًا من عملية القراءة. لكنه هنا يعود فيتجاوز كل هذا ليتحدث عن «كليات» للنص تُعتبر «مغازٍ» له وتمثل «حقيقته» التي يتم تكشفها عبر نزع سياق التاريخ عن وجه «مقاصد الوحي»[7] -الوحي لا النص-، مما يعني أن الله الذي كان قد أُقصي يعود للحضور كـ «مؤلف نموذجي» للنص بتعبير إيكو، يُمسك بدلالات النص/الوحي ومقاصده ويُعَدُّ استحضار خطته في الكتابة محدِّدًا هامًّا في عملية القراءة التي تقتصر على مهمة تحصيل هذه المقاصد. بهذا لا يعود القارئ جزءًا من الرسالة ومُنتِجًا للمعنى، بل مجرد «قارئ نموذجي» يبحث داخل النص عن معانٍ قائمة سلفًا في «مقصد الوحي» أو عقل الله قائل النص، مبثوثة في النص عبر خطة ما! مما يقرب نصر تماما من مخالفيه الباحثين عن معاني القرآن «الأزلية» في المعنى القائم بنفس الله، والذين يتعاملون مع الله «كمؤلف لنص في أرقى مستويات البناء»[8]!

أما عن «المعنى» في قراءة نصر فإنه يعود ليصبح مرة أخرى واحدًا محدَّدًا، فالقرآن يتحدث عن العقلانية لا عن الحاكمية، عن العقل لا عن الخرافة.

إننا هنا أمام تركيب متنافر حتى على مستوى المنهج وطريقة القراءة وإنتاج المعنى، فنصر يجمع بين تقنية نصَّانية حديثة هي تقنية هيرش في التفريق بين معنى النص ومغزاه من جهة، وبين حديث عن مقصد لقائل النص ينتمي لكل التراث الذي يرفضه –بالطبع هيرش يتحدث بالأساس عن مقصد للنص لا لقائله-، تراث المعاني الأزلية المفارقة القائمة بنفس الله والسابقة على القرآن وتاريخ تشكله كنص ثقافي، مما يذكرنا بنقده لجمع حسين بين ديكارت والجمحي، ويمكِّننا من توجيه نفس النقد بالتجاور المنهجي لخطابه هو!

أما عن «المعنى» في قراءة نصر فإنه يعود ليصبح مرة أخرى واحدًا محدَّدًا فالقرآن يتحدث عن العقلانية لا عن الحاكمية، عن العبادية لا عن العبودية، عن العقل لا عن الخرافة، مما يعني أن نصر، وفي محاولة كسب رهان «المعنى المتحرك» عبر قيمه الثلاثة «المقاصد الجديدة» هذه، ضحَّى برِهان «المعنى المتعدد» ليشارك خصومه في ما ينتقدهم عليه من واحدية المعنى وامتلاك حقيقة المقصد الإلهي. وللمفارقة، فهذه التضحية لم تؤت نفعها حتى؛ فحتى «حركة النص» التي يتوفر عليها خطاب نصر هي حركة موقوفة بتحقيقه للقيم المطلوبة، مما يعيدنا بعد «استخراجها» من النص للسكون والجمود مرة أخرى!

هذه التلفيقيات النصرية لا يمكن الخروج منها من داخل خطاب نصر نفسه، حيث أنها تتبوأ هناك في تصوره عن التاريخ والذي لا يمكنه في ظل رهانات خطاب نصر عن تحريك المعنى وعن شرعنة القيم الحديثة في مواجهة رافضيها من خصومه وإدخال المسلم المعاصر للمعاصرة عبر نصه – أن يُنتِج إلا كل هذه الصور من التلفيقية، أي أن يعلن عن فشل تحقيق رهان تجاوز التلفيقية نفسه.


التركيبية المبدعة

لقد كان نصر يطمح لتجاوز التلفيقية التي طبعت الفكر العربي منذ عصر النهضة التي تنتهي إلى التجاور والتساكن ثم إلى العودة إلى قبول وإعادة إنتاج وتكريس ما رفضته تحديدا، بالانطلاق نحو تركيبية مبدعة بين كل هذه الثنائيات، لكن هذه «التركيبية المبدعة» لم يكن لها لتتحقق في خطاب نصر حيث أن أحد عناصر هذا التركيب -القرآن- فقد كينونته ووحدته، ولا يمكن البدء في طريق تركيب مبدع إلا بعد هذه الخطوة خطوة استعادة كينونة النص ووحدته هو الخاصة لا المقحمة عليه بتحويل آمال التنوير العربي لمقاصد للنص، وهذا الأمر يتطلب استعادة لمفهوم التاريخ وإخراجه من ضيقه وشذريته وفقدانه لأي ثبات، بالانفتاح على تاريخ رمزي وحكائي يوفر للنص كينونة وحركة نابعة منه تستطيع توفير أفق للحوار أو لتلاحم آفاق القاريء –بكل همومه وإشكالاته وانشطاراته وآماله- والنص كما يعبر جادمر.

إن ما حاولنا قوله في هذا المقال ممكن تلخصيه في جملة واحدة، إننا حتى «لو» وافقنا نصر على كون «تاريخية» القرآن طريق لتجاوز تلفيقيات خطاب النهضة والانطلاق نحو تركيب أكثر إبداعا، فإن «تاريخية نصر» كبرنامج له تصوراته ومنهجياته لا تستطيع تحقيق هذا التجاوز.


[1] مفهوم النص، نصر أبو زيد، ص64.

[2] النص،السلطة، الحقيقة، نصر أبو زيد، ص53.

[3] نفسه،ص34.

[4] نفسه، ص42.

[5] الخطاب والتأويل، نصر أبو زيد، ص120.

[6] نفسه، ص201.

[7] نقد الخطاب الديني، نصر أبو زيد،ص 224.

[8] التجديد والتحريم والتأويل، نصر أبو زيد، ص212.