في عام 2013، وأنا أقرأ رواية «بيت الأرواح» المكتوبة عام 1982 واصفة تشيلي 1970، شعرت أن «إيزابيل الليندي» ترصد مصر ذلك العام وليس تشيلي، وهي تتحدث عن طوابير السيارات أمام محطات البنزين، وطوابير البشر أمام المواد الغذائية، والنقص الحاد في الخدمات، واحتكار السلع، وخطة اليمين في تشيلي لضرب سلطة الرئيس المنتخب وقتها «سلفادور الليندي».

أراجع ذلك الجزء وتطوراته من الرواية الآن، وأدهش وأنا أرى «الحاجة زينب» – التي تبرعت بذهبها لصندوق تحيا مصر – فبعد الانقلاب العسكري في تشيلي 1973، والذي تلاه انتهاء السوق السوداء:

ذهبت النساء في غبطة الأيام الأولى كي يتبرعن بحليّهن في الثكنات من أجل إعادة بناء الوطن.. وامتلأت البلاد بأناس يرتدون البزة وآلات الحرب والأعلام والأناشيد والاستعراضات، لأن العسكريين لم يكونوا يجهلون إلى أية درجة يظمأ الشعب للطقوس والرموز.

أدركت أن التشيليين يسبقوننا عدة خطوات، سياسيًا واجتماعيًا، ولربما تسير مصر بعض الخطوات المماثلة: المظاهرات، الثورة، الائتلاف الشعبي، ووصول أول رئيس منتخب ديمقراطيًا للحكم –وإن بعصر الليمون- الانقلاب العسكري بعد بلبة الشارع التشيلي، وأخيرًا عهد من الديكتاتورية وانتهاكات الدولة والاختفاءات القسرية، ثم قفزتهم اللاحقة إلى الديمقراطية والتنمية والتطور، أنالنا الله الوصول إليهم.

ولّد لدي هذا فضولًا تجاههم وتجاه تجاربهم الفنية، خاصة مع كونها معبرة عن الثقافة التشيلية والتطورات الاجتماعية والسياسية هناك، لذلك كان الحرص على حضور عرض تشيلي هذا العام في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر: «قفص واحد، طائر اثنان» أو «المرأة الدجاجة»، خاصة بعد العرض المسرحي المميز لتشيلي بالمهرجان العام الماضي 2016 «القبو – Bunker». لنجد عرض هذا العام مخيبًا للآمال، وفجوة كبيرة بينه وبين عرض العام الماضي.


«المرأة الدجاجة»

العرض مبني على قصة حقيقية، لأم حبست ابنتها المتأخرة ذهنيًا داخل عشة دجاج مدة عشرين عامًا، وأصبحت الفتاة وقصتها رمزًا لضحايا الديكتاتور «بينوشيه» في تشيلي.

يقيم العرض أوجه الشبه بين هذه الأم التي حبست ابنتها داخل عشة الدجاج، والنظام الديكتاتوري السابق الذي اعتمد على القمع والتعذيب والإخفاء القسري للمعارضين. فقد شهدت تشيلي اضطرابًا شديدًا توج عام 1973 بالانقلاب الذي أطاح بالحكومة اليسارية لسلفادور الليندي، ووضع ديكتاتورية عسكرية يمينية مدة 17 عامًا، خلفت آلافًا من القتلى والمفقودين برئاسة الديكتاتور «أوغستو بينوشيه».

كان عرض «المرأة الدجاجة» استاتيكيًا تمامًا، حيث نرى حركة الجسد الملطخ بالتراب والطين للفتاة المحبوسة في عشة الفراخ معبرة عن المعاناة، وموازية لرقص امرأتين رقصة فلكولورية تشيلية تدعى «الكويكا»، التي أصبحت في عصر الديكتاتورية رقصة النساء الوحيدات، اللاتي اختفى أزواجهن أو أبناؤهن وأحباؤهن قسريًا دون أن يعرفن شيئًا عنهم.

صورة من العرض المسرحي «المرأة الدجاجة»

قُدم العرض لأول مرة عام 1996، وأعيد العمل عليه في 2016 ضمن برنامج «تراث الرقصات» الذي أقامته «دائرة الرقص بمجلس الثقافة والفنون» بتشيلي. ويهجو العرض العهد البائد الديكتاتوري –الذي انتهى بالطبع- وقد قدمته «فيكي لارين» الممثلة والمخرجة، محيية سفير تشيلي في مصر، والذي كان موجودًا بالمسرح، قائلة إنه ممثل للعصر الديمقراطي الذي يعيشون فيه الآن.

سواء بالنظر إلى سنة تقديمه لأول مرة، أو في إعادة تقديمه هذا العام، فبماذا قد يذكرنا هذا بغير أفلام «الكرنكة» المصرية؟ تلك التي بدأها فيلم «الكرنك» لـ«علي بدرخان» –إنتاج 1975- وكان بداية لسلسلة أفلام في عهد «السادات» تهجو القمع والدولة البوليسية في عهد «عبد الناصر»، مدعية شجاعة زائفة وهي تواجه نظامًا انتهت دولته بالفعل. ثم ماذا يفعل عرض من إنتاج 1996 في مهرجان للمسرح التجريبي والمعاصر؟


«عشة الدجاج» بنظرة مصرية

تشيلي اليوم واحدة من الدول الأكثر استقرارًا وازدهارًا في أمريكا الجنوبية، وتعد من أفضل دول أمريكا اللاتينية في التصنيف العالمي للتنمية البشرية، والقدرة التنافسية، ونصيب الفرد من الدخل، وحالة السلم، والحرية الاقتصادية، وانخفاض الفساد، كما أنها تحتل مرتبة عالية إقليميًا في التطور الديمقراطي.

لو قلنا إنه بالرغم من تجاوز الواقع التشيلي الحالي لما قد يثيره العرض بكثير، فإن العرض ربما يكون معاصرًا للأحداث في مصر بشكل ما، مع استخدام الدولة المصرية للديكتاتورية والعنف من حين لآخر، لكن ومع ذلك، لم ينجح العرض في التماس الحقيقي مع القضية، ولا حتى مع قصة الفتاة المحبوسة التي كان لها أن تولد دراما عظيمة إن تم العمل عليها، فقط اكتفى بذلك المجاز المباشر بين الحكم الديكتاتوري، والفتاة المحبوسة في عشة دجاج، مغلفًا بتهويمات الرقص التعبيري، دون أي تطوير، أو الخطو لمدى أبعد، سواء فنيًا أو فكريًا.


«القبو»

على الجانب الآخر، كان عرض «القبو – Bunker» العام الماضي لفرقة «كيوربوليمايت» عرضًا مميزًا، يعتمد على مسرح الجسد «physical theater»، وهو المسرح الذي يعمل على حكي القصة من خلال حركة الممثلين، وإيصال المشاعر من خلال الجسد.

شعرنا بالفضول، وبُهرنا بالأداء الرائع للممثلين الشباب ذوي الأعمار المتقاربة، وقد تحولوا أمامنا إلى أب وأم، وأبناء طائعين، هاربين من موبقات وشرور المجتمع، عازلين أنفسهم داخل قبو ليعيشوا حياتهم بكل نظام وترتيب وأخلاق عالية، حيث يحرص كل منهم على الالتزام بدوره المحدد داخل الأسرة، وبغسل أسنانه وتناول الطعام والنوم في أوقات محددة.

خطوة وراء أخرى، نرى هذه المثالية وهي تتفسخ، ونرى الشرور والموبقات وهي تخرج من دواخلهم، يحاولون السيطرة عليها بالادعاء حينًا، والقمع حينًا، وينزلقون إلى التوتر والكآبة حينًا آخر، حتى تقتل الأم في النهاية أحد أبنائها، حفاظًا على تماسك العالم الزائف الذي كونوه في القبو! وتتحول الفتاة تدريجيًا إلى نسخة من الأم متبنية دورها.

صورة من عرض «القبو – Bunker»

كان عرضًا صادقًا قادرًا على كشف زيف المثاليات والعالم الكامل، والكبت الذي يؤدي إلى ما هو أخطر من الإشباع الصحي للرغبات. وكان وما زال فريق عمل عرض «Bunker» شبابًا معايشًا لنبض اللحظة، منغمسًا في الجدل المجتمعي بفنية عالية، مصطدمًا بالقيم القديمة مجادلًا معها، صادمًا مثالياتنا القديمة الساذجة، هادمًا رونق «المدينة الفاضلة»، متفاعلًا بعمق وهدوء وحرفية فنية عالية مع موضوعه، مستثيرًا مشاعرنا وأفكارنا، دون صخب، أو مباشرة وخطابية.

في أحد المقالات النقدية عن عرض «القبو»، عندما قُدِّم بتشيلي في 2014، قال الناقد التشيلي «ميلفن مولينا»: «يدعونا العرض للتفكير في علاقتنا بالآخرين، والمجتمع الذي نبنيه. يتدرج العرض من إظهار أسرة تبدو عادية، أب وأم وأبناؤهم الثلاثة يقررون مغادرة العالم، وكل اتصال مع المجتمع، إلى أن يقرر أحد الأبناء قرارًا يسبب الفوضى في النظام البطريركي لهذه الأسرة، ويشعر الأبوان بذلك ويبدآن في ممارسة سلطاتهما القمعية».

تذكر الناقدة التشيلية «ماربيل مييرز» في موقع «نقاد المسرح» التشيلي، أن العرض «شجاع وقوي ويتعرض للحقائق المؤلمة»، وأنه ربما يكون مستوحى من الحادثة التي حدثت في مارس 2012، من القتل الوحشي للشاب المثلي «دانيال زاموديو»، كما أنها إدانة للكبار الذين يطلبون من أبنائهم التصرف كما لو كانوا يعرفون كل شيء، دون أي سماح بالفشل، ولميراث الخوف التاريخي والوراثي.

أجدني أصطدم معهم بالمرآة ثانية، لأرى قبو فكرة الخلافة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي المثالي الذي مازال ينادي به البعض، قبو الديكتاتور المستنير والحاكم العادل المنفرد بالسلطة، قبو الأبوية الحكيمة المتحكمة، بل قبو الديمقراطية في مجتمع جاهل لا يمارسها أصلًا في حياته اليومية، فتتحول إلى حكم مستبد للأغلبية.

لم تكن الميزة الأساسية لعرض «القبو» –إنتاج 2013- فقط في القصة المختلفة المنسوجة بعناية، محتفظة بولائها للقيمة الأهم في أي عمل درامي: «التحول»، كاشفة عن النفس البشرية والمجتمع والعلاقات المختلفة. لكن أيضًا في المعايشة الحقيقية التي قدمها الممثلون لتفاصيل الأدوار التي يؤدونها، جاعلين أجسادهم تتحدث – علاقة كل جسد بنفسه وبالجسد الآخر – الحركة التي تبني مشاهد ذات معنى، مقدمة عددًا من العلاقات والمشاعر والقرارات.

استطاعت مخرجة العرض «باولا كالديرون» تدريب فريق العمل بمهارة، وبناء مواقف حقيقية تنطلق من الحياة اليومية، معطية طاقة وشعورًا ومعنى في نطاق محدد، دون التركيز على الحركة بشكل جمالي مجرد فقط، بل كان المعنى الذي يعظم حضور الجمال ويعطيه وجودًا قويًا.


نبض اللحظة في تشيلي

صورة من عرض «القبو – Bunker»

تلك المعايشة لم تكن عملًا جادًا مخلصًا ناحتًا صخرة الجمال فحسب، ولكن ملامسة للحظة يتبدل ويتصارع فيها الواقع والمجتمع التشيلي، ويعيد مساءلة وتعريف قيمه ومسلماته عما هو خير ومثالي، بعد ما مر به من تحولات سياسية وفكرية، محاولين نزع الأقنعة عن القيم الزائفة، والأفكار شديدة المثالية والسذاجة. فتشيلي كانت تعتبر معقل القيم الاجتماعية المحافظة.

صورة من عرض القبو – Bunker

في عام 1996، كان التشيليون يحيون حياة مزدوجة، إحداهما ما يظهر على السطح، والأخرى ما وراء الواجهة. والإعلام كان يتبنى توجهًا محافظًا خاصًا باليمين والكنيسة الكاثوليكية والعقلية العسكرية، وكانت هناك تحذيرات من تهديدات التغير الاجتماعي، وأن هذه مخططات خارجية تستهدف الوطن بتأييد من التشيليين التقليديين الذين يرغبون في منع تحول البلاد إلى مجتمع علماني مادي، يؤكد الحقوق الفردية.

أما في 2006، فإن الحرب الثقافية قد بدأت بين التثوير الاجتماعي، الذي تقوده رئيسة البلاد «ميشال بيشيليه»، من أخذ إجراءات تشريعية منفتحة لعدد من القضايا الاجتماعية: مثل حمل المراهقات، والقوانين المدنية التي تنظم الزواج والطلاق، وحق الإجهاض. وبين الآراء المحافظة التقليدية لليمين المدافع عن تشيلي، كبلد تقليدي كاثوليكي محافظ، رافضين توجه الدولة للرقابة على الصحة والتعليم، وترك الأخلاقيات الشخصية لمسئولية الأفراد.

بينما عد بعض الليبراليين أن وصول امرأة للحكم في حد ذاته دليل على أن القيم القديمة المحافظة بدأت تتهاوى لدى الشعب التشيلي، الذي أدرك أهمية حريته، خاصة بعد الحكم الاستبدادي في عهد بينوشيه، وأن هذه الحرية تأتي مصاحبة للنمو الاقتصادي السريع الذي تتجه إليه البلاد. في حين تقف الكنيسة الكاثوليكية كمقاوم ومعارض قوي أمام التغيير.

أما عن تشيلي الآن، فيرى المنسق التنفيذي للتنمية البشرية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن تشيلي تمر الآن إلى حيث دول العالم الأول. أما الصحافة فقد نذرت نفسها للتعليق الساخر على التقاليد المتحيزة، وأخطاء الساسة والنخبة، عكس ما كان يحدث قديمًا من تبرير أخطاء المؤسسات والنخب ومنحها الشرعية، وبدأت تتهاوى أسطورة أن النظام المحافظ هو ما يضمن الاستقرار والخير وأمن البلد.

كما نرى، فـ«تشيلي» يحدث داخلها الآن جدل اجتماعي قيمي ثقافي سياسي، وتصدر مسودات قوانين تتعلق بالحريات الشخصية من أبسطها إلى أكثرها تحررًا واصطدامًا بالقيم الراسخة، والذي تفاعل معه عرض «القبو» بحرفية عالية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.