واحدة من أبرز ملامح التميز التي جعلت كريستوفر نولان من أهم المخرجين في الوقت الحالي وفي تاريخ السينما بشكل عام، بحصيلة عشرة أفلام فقط حتى الآن، أنه يقدم تجارب من الوعي الذاتي تعرض لنا تفاعل الإنسان مع هذه التجارب من عدة زوايا، يقدم في كل عمل تجربة مختلفة تقريبًا، وهو منجز سينمائي ربما لم يسبقه مخرج آخر إليه.

الوعي الذاتي Self-Awareness هو أعلى مستوى من الإدراك المتجه إلى الذات والمتمكن من فصلها عن الواقع. والأحلام هي خير مثال على ذلك، حيث تكون مُدركًا لمعطيات الحلم، ولمّا يرتفع مستوى الإدراك في الأحلام الجلية تكون مُدركًا أنك تحلم. وهنا نوضّح أن عمليات التفكير تظل تعمل بين المستويات الدنيا للإدراك والمستويات العليا للوعي.

1. أن تكون صرصارًا

خنفساء Doodlebug، هو فيلم رعب قصير (من إنتاج عام 1997)، يسرد قصة شاب مرعوب يطارد شيئًا ما صغيرًا -ربما فأر أو حشرة ما- في شقته القذرة، ويحاول قتله بحذائه، ويتابع المشاهد المطاردة المثيرة -حيث تتحرك الحشرة بأريحية غريبة في الشقة- حتى يتكشف لنا حقيقة الشيء الصغير؛ أنه عبارة عن نموذج مصغر لبشري آخر، هو نفسه البشري الذي يطارده أو نسخة عنه، وقد كان الإنسان الصغير يطارد ما يبدو أنه نموذج أصغر منه، وينجح الشاب في قتله، لينتهي الفيلم بنموذج أكبر يقوم بقتل الشاب في إشارة للحلقة المفرغة والعبثية اللا منتهية.

هذا الفيلم يقدم لنا تجربة إنسانية فريدة من نوعية تجارب الوعي الذاتي والمغلفة بفلسفة وجودية؛ تجربة البحث عن الهوية والبحث في الوجود، تجربة أن تكون صرصارًا. بمعنى أن تكون بلا قيمة، تفقد آدميتك، أو تكتشف أنك كبشري لا تتسيد كل المخلوقات، وموقعك من الوجود مغاير لما كنت تحسبه.

وكما يتساءل «مجد سكر» المدون بمدونة «أراجيك» من موقع المشاهد:

هل نحاول فهم الفيلم أم نحاول فهم أنفسنا؟

2. أن تكون مراقبًا

شخص مهووس بمراقبة وتتبع الآخرين فيتورط تدريجيًا في جريمة ما.

بداية أكثر من غريبة ونهاية غير متوقعة، وما بين البداية والنهاية يقدم المخرج في حبكة «هيتشكوكية» وطريقة نولانية تجربة فريدة عن الوعي الذاتي مبنية على مفهوم التلصص.

والتلصص الشهواني أو شهوة التلصص أو التلصصية Voyeurism، هو خلل جنسي يدفع المصاب به إلى المراقبة والتجسس واستراق النظر إلى الأشخاص أثناء تواجدهم في الأماكن المفترض أنهم يحظون بالخصوصية داخلها، مثل غرفة النوم والحمام، حيث تكمن متعة المتلصص في انتهاك خصوصية المراقب دون علم من الأخير أن هناك من يراقبه. وهناك عدد من الأفلام المهمة في تاريخ السينما تناولت هذه العقدة. أما عن فيلمنا هذا فتميز في عرضه للعقدة بثلاث سمات.

  • أن مكان الخصوصية كان من زاوية ما هو الشارع، حيث إن السائرين في الشوارع يحظون ببعض الخصوصية في اتجاهاتهم الذاهبين إليها وما يحملوه داخل حقائبهم وأفكارهم داخل عقولهم. وكان الانتهاك حين تتبعهم بطل الفيلم إلى وجهاتهم وعرف عنهم أكثر من اللازم.
  • أن الانتهاك امتد لأبعاد أخرى تمثلت في العبث بأشياء الأشخاص المراقبين للحصول على المزيد من أفكارهم ومعلومات حول خصوصياتهم.
  • ربط شهوة التلصص بجنون الارتياب (بارانويا Paranoia) حين يصير المراقب مُراقَبًا.

لاحظ أن اسم الفيلم (إنتاج 1998) هو «تتبع» Following، وهو ما يعبر تمامًا عن فكرته. هذا الفيلم يعد واحد من الأعمال المهمة التي تم تصويرها بالأبيض والأسود في عصر السينما الملونة لأغراض سردية، ويكمن الغرض هنا في حصر الرؤية داخل الأبيض والأسود للدلالة على شهوة التلصص وخوف المراقبة التي تحصر المراقِب أو المراقَب في إطار معين.

3. ألّا تتذكر

بطل الفيلم يُصاب عقب تعرضه لحادث بخلل في المخ يجعله غير قادر على تكوين ذكريات جديدة من بعد الحادث، حيث يفقد القدرة على تذكر أي شيء لأكثر من خمس دقائق. وفي ظل حالته تلك يقوم بالتحقيق باحثًا عن قاتل زوجته.

يعرض فيلم «تذكار» Memento (من إنتاج عام 2000) تجربة فقدان الذاكرة من وجهة نظر صاحب هذه الحالة، متعمقًا في شخصية بطل القصة الفاقد لذاكرته والباحث عن قاتل زوجته كمن يبحث عن مخرج من ضياعه وسط الضباب. يسلط الفيلم الضوء على وعي البطل بذاته وفقدانه ذاكرته وحسرته على زوجته والآلام الناتجة عن كل هذه الظروف، والتي يتجلى العرض السينمائي لها في مشهد أيقوني حينما يبحث ليونارد Leonard (البطل فاقد الذاكرة) عن قلم ليدون به معلومة مهمة على جسده قبل أن تفقدها ذاكرته وتضيع من عقله. مجرد أداة بسيطة مثل القلم هي ما اعتمدت عليها حياة هذا المسكين.

مشهد آخر يُلِّخص معاناة البطل متمثل في الزوجة التي تُذِّكر زوجها أن يعطيها حقنة الدواء، ثم بعد خمس دقائق تذكره بأن يعطيها حقنة الدواء لتضع نفسها في محل الانتحار كبرهان لمعرفة هل هو معطوب الذاكرة فعلاً أم لا؟

4. أن تكون قاتلاً

يتم دعوة محقق مخضرم إلى قرية صغيرة للتحقيق في مقتل فتاة، ليخوض صراعًا مع نفسه ومع القاتل.

برغم الجودة العالية لفيلم «أرق» Insomnia (إنتاج عام 2002) مثله مثل بقية الأعمال المذكورة في القائمة، إلا أنه أضعف من حيث تقديمه لتجربة الوعي الذاتي -وليس ضعيف الحبكة- هنا نشهد تجربة تقليدية عن قاتل من منظور المحقق الذي يطارده، والذي لا ينام من معاناته أثناء تحقيقه في هذه القضية. وهي المعاناة التي نتجت من عدة عوامل أبرزها تحول المُحقق إلى قاتل مثله، حتى ولو بصورة مجازية غير حقيقية، لتتطور الأحداث ويتحول الوهم إلى حقيقة مع اكتشاف حقائق من الماضي القريب والبعيد. وفي ظل الصراع مع القاتل تجري المعاناة المتمثلة في أرق يستمر لستة أيام بلا نوم، وينتهي بموت يشتمل على نوم طويل وعميق.

5. أن تكون بطلاً

منذ طفولته وبسبب مقتل والديه يُكرِّس «بروس واين» Bruce Wayne نفسه لمحاربة الجريمة المنتشرة في مدينته «جوثام» Gotham، ولتحقيق ذلك يوظف جميع الإمكانيات المتاحة لديه. حتى يتحول إلى رمز قومي. وتمثلت الإمكانيات التي استخدمها في:

  • التفوق العقلي: لكونه أفضل محقق في العالم، ومخطط إستراتيجي وعالم متخصص في أكثر من مجال.
  • التفوق التقني: باستخدام ثروته ونفوذه يحصل على أعلى التقنيات المخابراتية والعسكرية.
  • التفوق الجسدي: أي الجمع بين المهارات القتالية والقوة الجسدية على مستوى عالٍ من الحرفية.
  • المال: كونه واحدًا من أغنى سبع شخصيات في العالم.
  • الهيمنة النفسية: حيث سخَّر مخاوفه ليزرع الخوف في قلوب أعدائه.

أي أن كريستوفر نولان يقدم خلطة واقعية لكيف تكون بطلاً، ولا أقول بطلاً خارقًا، بل بطلاً مقنعًا، حتى أن السلسلة كلها لم تحتوِ على شرير واحد يملك أي قوى خارقة، فالأشرار هم:

  • الفزّاعة Scarecrow.
  • الجوكر Joker.
  • باين Bane.
  • رأس الغول Ras al Ghul.
  • ذو الوجهين Two Face.
  • المرأة القطة Catwoman.
  • تاليا الغول Talia al Ghul.
  • كارمين فالكوني Carmine Falcone.
  • سالفاتوري ماروني Salvatore Maroni.

وتم تقديمهم في الأفلام الثلاثة المكونة لثلاثية الفارس الظلام، وهي:

  • Batman Begins: إنتاج 2005.
  • The Dark Knight: إنتاج 2008.
  • The Dark Knight Rises: إنتاج 2012.

ويمكن تصنيف الثلاثية كعمل فانتازي وجرائمي في الوقت ذاته، والأعمال التي تحصل على أكثر من تصنيف عادة تكون متميزة، وتمثل هذا التميز في أحد أوجهها بتقديم تجربة وعي ذاتي من منظور البطل عن كيف يكون بطلاً، فبالإضافة إلى ما ذكرناه بالأعلى نلاحظ توافر جميع العناصر الجرائمية في فيلم عن بطل خارق، من أجواء العصابات مرورًا بمطاردات الشرطة ووصولاً إلى تحجيم قدرات البطل نفسه في أكثر من مرة؛ أبرزها حين خُيِّر بين إنقاذ شخصيتين لم ينجح سوى في مساعدة واحدة. ومشهد آخر حين لم يتمكن من صنع قفزة قد يفعلها صبيه روبن Robin في عمل آخر.

6. ألّا تكون واحداً

صراع بين ساحرين مسرحيين من ممارِسي ألعاب الخفة، غايتهما إثبات منْ الأفضل، ويتطور الصراع ليبلغ بالساحرين إلى أبعاد لا يمكن تخيلها، لينتهي بنهاية لا يمكن توقعها.

وتتوالى العروض السحرية والخدع البصرية، وتبلغ ذروة الأحداث حين يصبح كل من «روبرت أنجير» Robert Angier و«ألفريد بوردن» Alfred Borden مهووسين بابتكار أفضل خدعة بصرية مهما كلف الثمن، مما يدفع أنجير بالتعاون مع العالِم «تيسلا» للوصول إلى اختراع متمثل في آلة مرعبة قادرة على خلق نسخة غير مستنسخة من العينة الموضوعة داخلها، نسخة مطابقة للأصلية حتى تتلاشى أي إمكانية للتمييز بين الأصل الأول والنسخة الثانية، فالنسختان متطابقتان.

حتى أن السؤال يبلغ من العمق لدرجة أن أنجير نفسه صار لا يدرك كينونته الحقيقية هل هو هو؟ أم هو الآخر؟ كم مرة قتل نفسه حتى الآن؟ وهذا ما جعل خدعته هي الأعظم في التاريخ.

يحمل اسم الفيلم «الإبهار» The Prestige (إنتاج عام 2006) عدة معاني تدل على هذه الخدعة؛ العظمة، الهيبة، الحضور، الوهم.

7. أن تحلم

في تنافس بين شركتين عالميتين يقوم أحد الطرفين باستئجار محتال غير عادي، وتكليفه هو وفريقه بزرع فكرة معينة في عقل وريث مالك الشركة المنافسة، بواسطة الأحلام.

ويمكن اعتبار هذا الفيلم ذروة تجارب الوعي الذاتي لدى نولان، وأفضل ما قدمه في هذا المجال، وذلك لكونه يجمع بين خاصيتين متناقضين؛ الأولى: الواقعية الكامنة في العامل الأساسي وهو اللعب على نشاط عقلي متمثل في الحلم، والثانية: الخيالية الكامنة في تقديم تجارب وعي ذاتي مستحيلة الحدوث كتجربة زرع الأفكار.

جعل نولان من الأحلام مادة فيلمه هذا، مع المحافظة على شعبيته الجماهيرية، فابتعد عن السريالية وأغرق الفيلم في مؤثرات بصرية من النوعية الحركية (الأكشن) بالإضافة إلى عناصر تشويقية حافظت على تصاعد مستمر (بصريًا وتشويقيًا) مع تعدد طبقات الحلم المدعومة بما يشبه النظريات العلمية.

كعادة نولان يختار اسمًا معبرًا عن فكرته، «استهلال» Inception (إنتاج عام 2010).

8. أن ترى الماضي

بينما الأرض تحتضر تلوح فرصة لإنقاذ البشرية من خلال رحلة عبر النجوم للعثور على كوكب آخر صالح للحياة، ويتطوع بطل الفيلم ليخوض هذه المغامرة في الفضاء.

وتنتهي مغامراته بين الكواكب بأن يجد نفسه أسيرًا بالبعد الخامس، يُتاح له أن ينظر إلى مشاهد من الماضي ليرى أخطاءه ويبكي نادمًا وتحسرًا عليها، دون أن يملك أي مقدرة على تغييرها. ذلك المشهد المروع قدّم تجربة وعي ذاتي لا يمكن حدوثها بالواقع، إلا أنها لمست قلوب المشاهدين خاصة وأنها مقاربة لحالة أخرى واقعية. وهي النافذة التي ننظر من خلالها إلى مشاهد شاركنا في صنعها بالماضي، قد تكون هذه النافذة عبارة عن: (ذاكرة تطل بنا على ذكريات، أو فيديو يطل بنا على تسجيلات، أو بعد آخر يجعلنا نكاد نلمس الماضي).

تجربة إنسانية أخرى وفيلم آخر واسم مميز هو «بين النجوم» Interstellar (إنتاج عام 2014).

9. أن تكون مخرجًا

فيلم تسجيلي قصير صدر في 2015، ويوثّق لسينما الأخوين كواي Brothers Quay، اللذين يتوليان أيضًا بطولته، وقد تم تسمية الفيلم باسمهما (كواي Quay). والأخوان كواي هما: تيموثي كواي Timothy Quay وستيفن كواي Stephen Quay.

ومن أعمالهما:

  • Nocturna Artificialia: إنتاج عام 1979.
  • The Eternal Day of Michel De Ghelderode: إنتاج عام 1981.
  • Leos Janacek: إنتاج عام 1983.
  • Institute Benjamenta: إنتاج عام 1995.
  • In Absentia: إنتاج عام 2000.
  • Maska: إنتاج عام 2010.
  • The Dolls Breath: إنتاج عام 2019.

وبهذا يسجل الفيلم تجربة أخرى من الوعي الذاتي، حين ينقل لنا رؤية أن تكون مخرجًا.

10. أن تكون محاربًا

انسحاب دونكيرك هي واقعة معروفة تاريخيًا كحدث هام في الحرب العالمية الثانية، وهو الحدث المتمثل في حصار التحالف المتكون من القوات البريطانية والفرنسية بعد هزيمتهم أمام القوات الألمانية في ميناء دونكيرك وعملية إجلاء الجنود. ومنها تم تسمية الفيلم (إنتاج 2017) دونكيرك Dunkirk.

يمكن القول بأن فيلم دونكيرك هو أضعف تجارب الوعي الذاتي التي قدمها نولان في سينماه. فمن جانب الواقعية تشابهت التجربة مع تجربة أي جندي آخر، ناهيك عن ضعف النص الذي احتوى الشخصيات.

ومن ناحية الخيال، فقد فقدت التجربة سحر التطرق إلى تجارب إنسانية غير ممكنة الحدوث، وما يرافق ذلك من تصميم بناء تصوري عن الأبعاد الأخلاقية والنفسية وغيره من الإنسانيات التي تكون مرافقة لهذه التجارب في حال حدوثها، حتى وإن لم تخرج عن خيالنا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.