في يناير/كانون الثاني عام 1933 وصل «أدولف هتلر» إلى مقعد المستشارية في ألمانيا، كانت «مُعاهدة فرساي» تُعيق طموحه لغزو العالم، أطلق عليها «مُعاهدة إذلال ألمانيا»، وضعت المُعاهدة قيودًا على الجيش الألماني وخصوصًا سلاح الطيران، قُصر الجيش على 100 ألف جندي فقط.

تجاهل هتلر المُعاهدة، وقام سرًّا بإعادة بناء الجيش الألماني والطيران الحربي. أثناء ذلك نشر «يرتف جاكوب» الصحافي السويسري كتابًا عن الجيش الألماني، بكل تفاصيله وأسلحته وقادة الوحدات ومعلومات شخصية عن الضباط الألمان، اعتقدت الاستخبارات الألمانية أن وراء الصحافي جهاز استخبارات مُعادٍ، تم اختطافه ونُقل إلى ألمانيا، وتحت التعذيب اعترف أنه حصل على كل هذا الكم من المعلومات من الصحف الألمانية، ظل يتابعها لمُدة عامين فقط، وأخذ يرص المعلومة فوق المعلومة.

منذ ذلك الحين، وأجهزة الاستخبارات تعتبر الصحافة مصدرًا للمعلومات، وتستخدمها أيضًا لتضليل أجهزة الاستخبارات المُعادية، كما فعلت الاستخبارات المصرية قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

في كتابه «جاسوس في الولايات المُتحدة» يعترف ضابط الاستخبارات البولندي، «مونلت»، أنه استطاع اصطياد معلومات قيِّمة من أحد أعداد مجلة الطيران الأسبوعية، ووضح أن الحصول على تلك المعلومات في العادة كان يستغرق شهورًا والآلاف الدولارات، ولكن جاءت المجلة لتُسلِّمه إياها على طبق من الفضة. [1]

اليوم؛ تظهر الصحف على شبكة الإنترنت، ولا توجد صحيفة تقريبًا ليس لها موقع إلكتروني، سهَّل ذلك عمل أجهزة الاستخبارات، بينما كانوا قديمًا يوظِّفون جاسوسًا للحصول على الصحف اليومية والمجلات في البلد وإرسالها إلى جهاز الاستخبارات.

استخبارات المصادر المفتوحة

وفيها يجمع جهاز الاستخبارات المعلومات من المصادر المُتاحة للجمهور مثل:

  1. الإعلام المطبوع والإلكتروني (الصحف والمجلات والنشرات الدورية) والتليفزيون والإذاعة.
  2. المواقع الإلكترونية المتاحة للجميع، والمدونات، والمنتديات، وشبكات التواصل الاجتماعي (يوتيوب، تويتر، فيسبوك) وكذلك البرامج المفتوحة للعامة كخرائط جوجل. ويمكن لأي شيء على الشبكة العالمية أن يكون مصدرًا للاستخبارات، حتى الصورة السيلفي.
  3. البيانات الحكومية العامة، وهي البيانات والمعلومات التي تنشرها الحكومات للعامة، سواء كانت سرية قبل ذلك أو غير سرية (مثل بيانات الموازنة أو المؤتمرات أو الخُطَب).

الأعجب أن أجهزة الاستخبارات تحصل على 90% من المعلومات التي تحتاجها من المصادر المفتوحة المتاحة للجميع، و10% فقط من مصادر جمع المعلومات الأخرى، كالجواسيس والأقمار الاصطناعية والتنصت والمراقبة والطائرات بدون طيار. بالطبع لا ينطبق هذا على جميع احتياجات أجهزة الاستخبارات، ولكن على أكثرها. [2]

الجواسيس الكبار

هدفنا هو أن نعيش مع زبائننا، أن نقضي معهم اليوم كله، سواء من خلال التليفزيون أو الهاتف المحمول أو الحاسوب المكتبي، أو من خلال نظارة جوجل، وما سوى ذلك من منتجات نقدمها له.
باتريك بيش. [3]

حينما قُتل الصحافي «جمال خاشقجي» في قنصلية بلاده بتركيا، كل ما كان لدى ضباط الاستخبارات الأتراك هو أسماء فريق القتل، وقد حصلوا عليها من قوائم الوصول في المطار، ومن غير المعقول أن تحتفظ الاستخبارات التركية بمعلومات مُسبقة عن كل مسئول أو مواطن في دولة أخرى أو حتى داخل تركيا، لكن جوجل وفيسبوك وأخواتهما تفعل ذلك.

بُمجرد عمل بحث مُتقدم عن الاسم في جوجل، فإنه سيعرض كل ما هو مُتعلق به، تصريحات وأخبار صحفية، وكل مكان كُتب فيه اسم الرجل سيظهر أمامك، أما فيسبوك وتويتر فالأمر أكثر عُمقًا، تستطيع معرفة ميول الشخص السياسية والنفسية، ومُقتطفات من حياته الشخصية، والأماكن التي يذهب إليها.

ربما تتعجب، هل يستخدم رجال الاستخبارات جوجل وفيسبوك وتويتر لجمع معلومات استخباراتية؟

الأعجب أنه حينما أعلنت السلطات التركية أسماء فريق القتل، وظهر هاشتاج يحمل كل اسم، تبرع أناسٌ بمعلومات مجانية عن المطلوبين، بعضها لم يكن مُتاحًا على شبكة الإنترنت، أي تحول الناس إلى «جواسيس مؤقتين» للاستخبارات التركية.

اليوم؛ لم تعد جوجل مجرد شركة تدير محركًا للبحث، فمن خلال استحواذها الدؤوب على العديد من الشركات الأخرى، وتنفيذها عمليات تطوير متلاحقة، باتت جوجل تنشط في حقول كثيرة تصعب الإحاطة بها. [4]

المواطن الجاسوس

على صفحته الشخصية على فيسبوك؛ ينتقد طبيب الوضع الصحي في بلاده، ويُعلن نقص أدوية بعينها، لا يعلم أنه يُقدم معلومة استخباراتية مجانًا، يُمكن استغلالها ضد بلاده. وحينما تُشارك في استطلاع رأي على فيسبوك أو تويتر عن مدى رضائك عن الحكومة، فأنت حينها تُعطي معلومة استخباراتية مجانًا تحتاجها أجهزة استخبارات مُعادية أو حتى صديقة. هذه المعلومات مُهمة في تقييم «أمن السلطة السياسي» و«أمن الشعب الاجتماعي والاقتصادي» في دولة ما.

لا يُقدم المواطن الصحافي والجاسوس معلومات عن «أمن المجتمع الاجتماعي والاقتصادي» فقط، بل يُقدم أحيانًا معلومات عسكرية قيِّمة.

مشهد مألوف… يمر أمامك قطار بضائع يحمل دبابات ومجنزرات ومُعدات عسكرية، ترفع كاميرا هاتفك وتوثِّق الحَدث وتنشر الفيديو على يوتيوب، في تلك اللحظة تتحول إلى جاسوس يُقدِّم معلومة عسكرية. على الجانب الآخر هناك ضابط استخبارات يلتقط الفيديو، يُحدِّد أين تم التصوير واتجاه القِطار، هل هو قادم من ميناء أم ذاهب إلى ميناء، هل هذه المعدات العسكرية مستورَدة أم ذاهبة للشحن إلى دولة أخرى، أم يتم نقلها من مُعسكر إلى مُعسكر آخر.

وهنا يظهر السؤال: هل ينتظر جهاز استخبارات المعلومة التي يقدمها مواطن عادي؟

المعلومة التي يتبرع المواطن بنشرها قد تؤكد معلومة مُسبقة لدى جهاز الاستخبارات، أو تنفيها، أو تفتح أعينهم على نقطة غائبة. أي أنك -دون أن تدري- أحد مصادر أجهزة الاستخبارات المعلوماتية، وما من مصدر واحد يُقدِّم معلومة كافية لفهم كامل عن مسألة معينة، تعتمد أجهزة الاستخبارات على مصادر متعددة للوصول إلى الصورة الأدق عن الأحداث. [5]

في تحقيق لقناة الجزيرة، يتتبع نقل قاعدة عسكرية تابعة لدولة الإمارات العربية، فإن الجزء الأول من مسار المعدات العسكرية «أريتريا/ميناء الإسكندرية» تم توثيقه بصور الأقمار الاصطناعية، أما نصف المسار الثاني «الإسكندرية/قاعدة سيدي براني» اعتمد توثيقه على تحليل ثلاثة فيديوهات التقطها مواطنون مصريون لقطار بضائع يحمل مُعدات عسكرية.

لا تبحث أجهزة الاستخبارات في «الإنترنت السطحي» فقط، لكنها تنشط في «الويب المُظلم – Dark Web» بحثًا عن المعلومات المدفونة فيها. وتستخدم التقنيات المجانية لجمع المعلومات الاستخبارية حول أي هدف عبر الإنترنت.

كل هذا الكم من المعلومات لم يكن مُتاحًا لولا الإنترنت والمواطن الجاسوس.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. صلاح نصر، “الحرب الخفية: فلسفة الجاسوسية ومقاومتها”، الوطن العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، بيروت، ص 405.
  2. خالد بن محمد بن عثمان الفالح، “مقاومات التعامل مع المصادر المفتوحة لجمع المعلومات الأمنية”، دراسة مقدمة للحصول على درجة الماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، ص3.
  3. ­ورستن فريكه وأولريش نوفاك، “ملف جوجل”، ترجمة: عدنان عباس علي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الأولى، 2017، ص115.
  4. المرجع السابق، ص 221.
  5. هانس بورن وأيدان ويلز، “الإشراف على أجهزة الاستخبارات”، إصدار مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة DCAF، سويسرا، ص 90.