ناقشنا في المقال السابق حالة التراكب الكمي، يحاول تفسير كوبنهاجن تجاوز الحديث عن كيان كمومي كهذا موجود بأرض الواقع ليقول أن ما يحدث داخل الصناديق المغلقة لا يمكن معرفة ماهيته، ولا يهمنا إلا تحصيل بعض المعرفة عنه من خلال معادلاتنا ذات النتائج الدقيقة. بوضوح، قدم تفسير كوبنهاجن على يد بور وصفًا براجماتيًا للحقيقة، متعاملًا بشكل أو بآخر مع الأفكار على أن اتفاقها مع الواقع هو دليل صحتها. فمهمة العلم عند بور هي توسيع مدى خبراتنا، واختزالها في ترتيب منظم. أثناء وصفنا للطبيعة ليست مهمتنا هي الكشف عن جوهر الظاهرة، بل عمل كل المحاولات الممكنة لتعقب العلاقات بين الجوانب متعددة الوجوه لخبرتنا.


قفزات بور

اشتملت نظرية بور على مشهد مثير للفضول، فالإلكترون ينتقل من أحد مستويات الطاقة حول النواة إلى مستوى آخر لحظيًا دون مسارات وسيطة، كأن يختفي كوكب المشترى ليظهر في مدار زحل. تعلمنا في فصول الفيزياء أنه حينما نود التعرف على حركة motion شيء ما كل ما نحتاجه هو دراسة مساره Trajectory ، يمكن دراسة المسار عبر الموضع Position والزمن Time، سيكون في المكان «أ» عند اللحظة «س» وفي المكان «ب» عند اللحظة «ص» … وهكذا بشكل «متصل» حتى نرسم مسارًا محددًا. أنت لا تختفي عند باب بيتكم وتظهر أمام بوابة الجامعة إلا إذا كنت أحد أبطال فيلم Jumper. لكن، ما الذي يحدث بداخل ذرة بور؟

لنفهم ذلك دعنا نسأل: ما الذي يحدث حينما ترى شيئًا غريبًا؟

قد تخاف، ثم ستصفه للآخرين، هو شيء جديد كليًا لكنك سوف تعطيه «أسماء» قديمة فهي كل ما تملك. ستقول أنه «أحمر يميل للدموي»، وأنه «يظهر في مكان ثم يظهر في آخر»، وأنه «خفيف للغاية، لقد مشى على الماء». أنت هنا تحاول إعطاء وصف محدد لشيء ما، لكنه وصف ذا علاقة بلغة اعتيادية. يبدأ تفسير كوبنهاجن من مفارقة – يقول هيزنبرج – فأية تجربة في الفيزياء سواء كانت تتعلق بظواهر الحياة اليومية أو بوقائع ذرية، يتم وصفها بمصطلحات الفيزياء الكلاسيكية، حيث تشكل مفاهيم الفيزياء الكلاسيكية اللغة التي نصف بها نظام تجاربنا ونصوغ من خلالها النتائج.


مصفوفات هيزنبرج

كان هيزنبرج يرى أن الإلكترون هو شيء أكثر تعقدًا مما نتصور. لسنا على طاولة بلياردو هنا. لذلك، محاولة تتبع حركته بالطرق القديمة سوف تخلّف تناقضا. الإلكترون لا يمكن أن يوجد أصلًا بين المدارين، سؤالنا عن ذلك لا معنى له، كأن تسأل «ما الذي يقع شمال القطب الشمالي؟». لم تكن تلك، ببساطة، إحدى خصائص الإلكترون. لماذا يصر بعض العلماء على تحديد قوانين للطبيعة كي تمشي عليها؟ دعنا نلعب الشطرنج معًا.

يتم ترقيم الصفوف في لوحة الشطرنج بالأرقام، والأعمدة بالأحرف، حتى نتمكن من تسجيل حركات المباراة في دفتر بجانب كل لاعب. حينما نقرر تحريك العسكري من d2 إلى d4 لا نحتاج لمعرفة الطريق الذي سلكناه لعمل النقلة. المهم في الشطرنج هو النقلة ذاتها.

إذا أردنا إعادة المباراة الشهيرة لكسباروف مع توبالوف المعروفة باسم Kasparov’s Immortal نذهب لموقع Chessgames.com الذي يخزن بيانات المباراة ثم نضغط على جدول حركاتها ونشاهدها. الجدول يصف اللعبة فقط، لا يسجل الوقت الذي أخذه كسباروف لتحريك الحصان إلى المربع b3 أو مشاعره أثناء الحركة أو المسار الذي اتخذه خلالها. كذلك «اللعبة الذرية»، تتواجد الذرة في مجموعة من الحالات، لا حاجة لنا في معرفة الطريق الذي سلكه الإلكترون من حالة إلى حالة. لتكن الأعمدة معبرة عن الحالة الأولية، والصفوف معبرة عن الحالة النهائية، ولنصنع معًا بعض الجداول التي تعبر عن تنقلات الإلكترون. من هنا، من خلال تسجيل بعض البيانات التجريبية، يمكن صياغة جداول تمكننا من توقع تحركات الذرة. كانت تلك الجداول التي ترتبط كل قيمة منها بحالتين للإلكترون هي مصفوفات هيزنبرج.

إنه مولد ميكانيكا المصفوفات Matrix Mechanics، بداية الانفصال لميكانيك الكم عن الفيزياء الكلاسيكية، تختلف عمليات المصفوفات عن العمليات الاعتيادية في أنها غير إبدالية. في الرياضيات العادية يمكن للعملية التالية أن تكون صحيحة a x b = b x a، بينما في المصفوفات يكون الترتيب عنصرا هاما بحيث يغير من نتائج المعادلات. كانت النقلة من المتغيرات الإبدالية commuting variables الكلاسيكية إلى متغيرات غير إبدالية non-commuting ثورة حقيقية في مسار العمليات الفيزيائية. ثم جاءت ضربة هيزنبرج الثانية التي حسمت الموقف الكمومي نهائيا، عدم اليقين.


مبدأ عدم اليقين Uncertainty Principle

في تفسير كوبنهاجن تخضع خصائص النظام الفيزيائي لمبدأ من عدم التوافق، أي أن بعض خصائص النظام لا يمكن التعرف عليها معًا في نفس الوقت. بينما في مبادئ الفيزياء الكلاسيكية –والبديهة- يمكن قياس أي مجموعة من خصائص أي جسيم معًا في نفس الوقت. ضع كرة بيلياردو على طاولة وراقبها، أنت الآن تعرف مكانها بالتحديد وسرعتها (صفر).

ظهر مبدأ عدم اليقين من التساؤل عن كيفية تحديد موضع الإلكترون بينما هو موجة. توصل هيزنبرج لرياضيات تثبت ذلك، لا يمكن تحديد خاصيتين من خواص نظام كمومي معًا إلا ضمن حدود معينة من الدقة، يندرج ذلك رياضيًا تحت عنوان «non-commuting operators مؤثرات غير إبدالية». أشهر الأمثلة هنا هو استحالة حساب موضع وسرعة الإلكترون معًا في نفس الوقت، بل يمكن تحديد أحدهما بدرجة تقترب من اليقين والآخر بدرجة تبتعد عنه. هناك إذن حد لمعرفة الإنسان يتعين بهذا المبدأ، حيث لا يمكن مهما بلغت بنا الدقة أن نحصل على نتائج صحيحة بشكل مطلق.

واحدة من المغالطات الشهيرة هي الخلط بين ما يسمى بتأثير الملاحظ Observer’s effect -ذا الأهمية الكبيرة في الميكانيك الكمومي- ومبدأ عدم اليقين. يتصور البعض أن سبب عدم اليقين هو مشكلة ملاحظة، كأن تحاول الكشف على ضغط إطار سيارتك فيتسرب بعض الهواء خارجه فتحصل على نتائج غير دقيقة، أو أن تحاول رصد الإلكترون بكاميرا تشع جسيمات فتخل بحركته.

هذه المشكلة بالفعل ترفع من عدم اليقين، في العالم الكمومي يكون الملاحظ جزء من التجربة ولا يمكن تحييد أثره كما نفعل في عمليات الفيزياء الكلاسيكية التي علمتنا من خلال الرصد الفلكي أن نظرتك لمجرة تبتعد 8 مليون سنة ضوئية لا تؤثر فيها. الحالة في العالم الكمومي – بتعبير ليونيد بونوماريف – تشبه التذوق وليس النظر، أضف أنك بتذوق طعم قطعة كيك منزلي الصنع تقضي بتجربتك على الظاهرة التي تود دراستها، قطعة الكيك، فلا يمكن إعادة نفس التجربة مرة ثانية، وتلك مشكلة كمومية أخرى.

لكن مبدأ عدم اليقين يبتعد بنفسه لمستوى أعمق، حيث يعد جزءًا أساسيًا من نسيج الكون سواء حاولنا الملاحظة أو لم نحاول، الإلكترون نفسه لا يمكنه أن يتخذ موضعًا وسرعة محددين في نفس الوقت. حينما نتحدث عن سرعة فلا معنى للحديث عن موضع. سرعة الضوء هي حد السرعة الأعلى في الكون، وعدم اليقين هو حد اليقين الأعلى. عدم اليقين هنا لا يرجع لنقص معرفتنا أو قصور أدواتنا، بل هو جزء من تركيب الطبيعة الجوهري، الطبيعة ذاتها غير دقيقة، بتعبير «دقيقة» الذي أنتجته لغتنا. لندع التفلسف جانبًا ونمارس بعض الرياضيات كفيزيائيين بنظّارات مقعّرة، أحد صيغ عدم اليقين هي:

حيث Δx هو عدم اليقين في الموضع ، Δp هو عدم اليقين في الزخم،h ثابت بلانك، π هو أيضًا رقم ثابت.

هذا يعني أن طرف المعادلة الأيمن رقم ثابت دائمًا. الأمر يشبه معاملات جمع 5 التي تعلمناها في الحضانة، كلما ازداد العدد على يسار الـ+ قل العدد الآخر ليكون الناتج دائمًا 5. بنفس الطريقة يمكن أن نتحدث عن عدم اليقين، فمع أي زيادة في قدرتنا على تحديد الموضع تقل قدرتنا على تحديد السرعة، والعكس صحيح. أيّ نقص (يقين) في قيمة Δx يصاحبه زيادة (لا يقين) في قيمة Δp. الرمز Δ يعني مقدار عدم اليقين، وفي الفيزياء عمومًا يعني مقدار التغير الحاصل أو الممكن حدوثه.

ثابت بلانك قيمة صغيرة للغاية، لذلك لا يمكن في حياتنا اليومية ملاحظة أثره، لكن دعنا نسافر لكون آخر ناتج مبدأ عدم التأكد فيه ليس (h \ 2π)، بل هو أكبر من أو يساوي رقما كبيرا، ليكن 1 مثلا. هنا نحتاج أن نرجع معًا لطاولة البيلياردو.

سوف نضع الكرة السوداء فقط في المثلث الخشبي للطاولة، ولتخفيف الحسابات سوف نتصور أن وزن تلك الكرة كيلوجراما واحدا. هذا يعني أننا حددنا حركة الكرة السوداء في مسافة أقصاها 30 سم، وهي طول ضلع هذا المثلث الخشبي ، يمكنها أن تتحرك فقط في حدود 30 سم وليس أكبر من ذلك، بلغة أخرى: «عدم اليقين في المسافة التي يمكن أن تقطعها الكرة السوداء يقع ضمن حدود 30 سم».

على طاولة الفيزياء الكلاسيكية سوف تكون الكرة ساكنه تمامًا. لكن طاولة هايزنبرج تختلف، دعنا نستخرج أقل سرعة من الممكن أن تمارسها كرتنا السوداء بحيث لا تكسر مبدأ عدم اليقين، علمًا بأن الزخم/كمية الحركةΔp يساوي الكتلة m مضروبة في السرعة . Δv

هذا يعني أن كرة هايزنبرج في حالتها العادية، ومن دون أن نلمسها، سوف تجري كالمجنونة مصطدمة بحدود المثلث الخشبي بسرعة 3.33 متر/الثانية كحد أدنى! في عوالم عدم التأكد لا يمكن لأي شيء أن يتواجد في حالة سكون، ويعد ذلك جزءًا جوهريًا من تركيب هذا الكون.

مبدأ عدم التأكد هو مركز تفسير كوبنهاجن، بل إن كلًا منهما يُستخدم في الأحاديث العامة والعلمية ليعبر عن الشيء نفسه. ينسف المبدأ ما تعنيه كلمة «حتمية Determinism» بمعناها الكلاسيكي الذي دأب سيمون بيير لابلاس على صياغته، ليفتح عصرًا جديدًا تمامًا في معنى العلم وفلسفته، عصر اللاحتمية!

Footer