في المقال السابق حاولنا فهم العالم من خلال تجربة الشق المزدوج، ثم طرحنا تفسير كوبنهاجن كأحد المحاولات لفهم غرابة نتائج تلك التجربة، الآن سوف نبدأ في عرض دعائم هذا التفسير.


ما هي الدالة الموجية؟

الدالة الموجية wave Function – و تسمى Psi و يرمز لها بـ Ψ- تمثل حالة النظام الفيزيائي، أي نظام فيزيائي. و هي تعبر عن كل ما يمكن أن نعرفه عن النظام قبل أن نقوم بأية ملاحظات بأجهزة القياس، أي لا توجد أي متغيرات خفية. في السطور القادمة سوف نفهم معنى تلك المجموعة من الجمل المعقدة.

معادلة
معادلة
تظهر الدالة الموجية بداخل معادلة شرودنجر الشهيرة التي تقرأ تطور النظام مع الزمن. الدالة الموجية ليست هي معادلة شرودنجر، بل هي حل لإحدى معادلات شرودنجر لوصف النظام المطلوب دراسته.

لا تجعل من شكل المعادلة المعقد أو صعوبة الألفاظ التي تدور حولها، كـكونها معادلة موجية خطية جزئية التفاضل أو كلمة «دالة» نفسها، تثنيك عن فهم المزيد عنها. دع كل هذا جانبًا الآن، فهي كغيرها من المعادلات في عالم الفيزياء، ذات هدف واضح، و هو تحديد أين يمكن أن نجد الإلكترون بعد –قُل– خمس دقائق. تعطينا أيضًا معلومات عن بعض المعايير الأخرى كطاقة وضعه وحركته، هي بكل بساطة تصف حالة النظام الذي أمامنا، و هي هنا تشبه إلى حد كبير قانون نيوتن الثاني.

newtons_second_law_1
newtons_second_law_1

لنحاول فهم بعض الجمل المعقدة، دعنا نفترض أن هناك 10 كرات على طاولة بيلياردو، ستختار أن تضرب الكرة البيضاء، حسب قانون نيوتن كل ما نحتاج أن نتعلمه لكي نتوقع حالة هذا النظام المستقبلية هو بعض المعلومات الأولية القليلة كـ قوة الضربة و اتجاهها، بعدها سوف ندع المعادلات تحكي لنا عن مستقبل هذا النظام – طاولة البيلياردو و حركة كل الكرات عبر اصطدامات متتالية – و تطوره مع الزمن، كذلك معادلتنا الموجية.

Pool-table-cue
Pool-table-cue

رقصة على أنغام دي بروجلي

لقد استخدم شرودنجر فكرة لويس فيكتور دي بروجلي كقاعدة لوصف الجسيمات على هيئة موجات. يقول دي بروجلي أنه حينما قرأ بحث أينشتين عن حركة موجات الضوء على هيئة فوتونات سأل نفسه: لمَ لا نعمم تلك الفكرة على كل شيء في الكون؟، إذا كانت تلك الفوتونات تمتلك طبيعة جسيمية – لأنها اصطدمت بالفعل بلوحات معدنية محدثة التأثير الكهروضوئي – و طبيعة موجية – لأنها تتسبب في حدوث أنماط تداخل عبر شق مزدوج – فلم لا يكون العالم كله كذلك؟، هنا صاغ ديبروجلي سنة 1924 معادلته الشهيرة:

tumblr_inline_n0fs55yHCp1rlb2iz
tumblr_inline_n0fs55yHCp1rlb2iz

حيث λ هي الطول الموجي، و h هو ثابت بلانك، و p هي كمية الحركة.

المعادلات الرياضية لا تدعو للخوف، بالعكس، هي صورة أكثر وضوحًا للعالم. تلافينا أخطاء اللغة و الإطنابات و الكنايات و تعدد تأويلها، كل ما يحدث هو عمليات ضرب و قسمة و جمع و طرح في بعض الأحيان، دعنا نجرب.

wavelength
wavelength

الطول الموجي Wavelength هو صفة من صفات الموجة، أي موجة، هو ببساطة المسافة بين قمتي موجة تصنعها بيديك في طبق ماء. أما كمية الحركة فهي صفة جسيمات، هي السرعة مضروبة في الكتلة، و كلاهما من صفات الجسيمات. ألا تجد ذلك عجيباً ؟!، معادلة أحد طرفيها موجي و الآخر جسيمي. لكن إن كان كل شيء في الكون يرقص كموجة، لمَ لا نلاحظ ذلك؟.

ببساطة، لأن كتلتك كبيرة جدًا، بينما ثابت بلانك هو رقم غاية في الصغر، لذلك فحاصل قسمة المعادلة السابقة – الطول الموجي – سوف يكون رقمًا صغيرًا جدًا جدًا جدًا للغاية لا يمكن ملاحظته، بينما لو كنا نتحدث عن كتلة إلكترون فيمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح. دعنا نقارن:

ثابت بلانك: 6.62607004 × 10-34 m2 kg / s ، أي علامة عشرية ثم 34 صفر ثم 6 !

كتلة الإلكترون: 9.10938356 × 10-31 Kg

كتلتك: 60-80 kg

إذن، ما الذي يميز الدالة الموجية عن رؤية معادلات نيوتن بجانب كونها وصفًا احتماليًّا؟


قطة شرودنجر

حسب تفسير كوبنهاجن تعبر الدالة الموجية عن حالة النظام الفيزيائي، الكاملة، عن كل الاحتمالات الممكنة معًا. لنعد إلى تجربة الشق المزدوج، تفسير كوبنهاجن يرى أنه إذا أردنا وضع تفسير واحد يسمح بمرور الإلكترون عبر الشقين معًا، فيجب اعتبار أن الدالة الموجية هي كيان حقيقي بشكل ما، أي أنها ليست فقط موجة احتمالات رياضية نستخدمها لوصف العالم الذري، بل يمكنها أن تتمثل داخل التجربة حينما لا نقوم بالملاحظة. لكن هذا التفسير ينأى بنفسه عن كونه يتحدث عن «عالم واقعي يوجد فعلًا داخل الذرة تتواجد فيه كل حالات الجسيم معًا»، بل هي حالة يمكن أن نسميها التراكب الكمي Quantum Superposition.

قام شرودنجر بعمل تجربة فكرية في محاولة لانتقاد فكرة تعميم تفسير كوبنهاجن على العالم كما نراه، و قال بأن هذه الفرضية تمثل تناقضًا حقيقيًّا لأنها سوف تدخل للعالم الواقعي حتى و إن كانت تتحدث عن كيان غريب غير واقعي صعب الفهم، إنها قطة شرودنجر التي سوف تساعدنا في فهم فكرة «حالة النظام الكاملة».

Schrodingers_cat.svg
Schrodingers_cat.svg

سنضع قطة في صندوق مغلق مع كمية صغيرة من مادة مشعة، يُحتمل بمقدار 50% مثلًا أن تتحلل ذرة منها خلال مدة محددة، إذا تحللت سوف تتسبب في عمل عداد جايجر، هنا سوف يفلت العداد المطرقة لتسقط على زجاجة السم فينتشر في المكان و تموت القطة. و الآن نقف أنا و أنت أمام ذلك الصندوق قبل أن نفتحه لنسأل: هل القطة حية أم ميتة؟.

هنا يتدخل تفسير كوبنهاجن للإجابة بـ: كلا الحالتين معًا، حية و ميتة؛ لأن تلك الذرة ذات دالة موجية تصفها في كل الحالات؛ أي كـ متحللة و غير متحللة في الوقت ذاته، ذلك ما يعنيه مفهوم التراكب الموجي Superposition في الحالة الكمية. نظريًّا، يُفترض أن الإلكترون – أو أي جسيم آخر – يتواجد في عدة حالات كمية في الوقت نفسه. ذلك ما سمح للإلكترون بالمرور من الفتحتين معًا في تجربتنا الأولى.

ما هي تلك الحالة الكمية؟، كيف نتعرف عليها؟، هل يمكن التعرف عليها؟، يجيب التفسير هنا بأن ذلك غير ممكن بالمرة؛ لأن محاولات رصده سوف تتسبب في انهيار الدالة الموجية، سنوضح ذلك بعد قليل. لذلك يُعتبر تفسير كوبنهاجن تفسيرًا إبستمولوجيًّا – معرفيًّا – للميكانيك الكمومي، أي أنه يعطينا قدرًا من «المعرفة» بظاهرة ما لكن ليس بالضرورة يتحدث عن كيان «واقعي» بما تعنيه كلمة «واقعي موجود بالفعل» – أنطولوجي – في عالمنا المادي. غير أن التطورات الحديثة في الميكانيك الكمومي تتخذ طريقًا يوضح بالفعل أنه ربما يكون هناك كيان واقعي. الفرق ما بين الإبستمولوجي و الأنطولوجي هنا هو الفرق بين المعرفة و ما هو موجود بالفعل. يقول نيلز بور:

لا وجود لعالم كمومي، هناك فقط وصف فيزيائي مجرد. من الخطأ أن نعتقد أن مهمة الفيزياء أن تكتشف كيف تكون الحقيقة. الفيزياء تهتم بما يمكننا أن نقوله عن الطبيعة


مشكلة القياس

حينما نفتح الصندوق سوف لن نجد أية مفاجآت، تكون القطة إما حية أو ميتة. يمكن تسمية ذلك الوضع «انهيار الدالة الموجية Wave Function Collapse»، و هو بالضبط ما حدث حينما حاولنا إدخال أجهزة قياس لتجربة الشق المزدوج حيث تعاملت الإلكترونات كجسيمات و ليس كموجات. يفقد الجسيم وضعه الكمومي – وضع كل الحالات فيه تتواجد معًا – لوضع ذاتي Eginstate – حالة واحدة محددة. تلك القفزة المفاجئة من عالم الكم إلى عالمنا الطبيعي غير مفهومة بعد.

محاولة فهم سبب انهيار الدالة الموجية تدفعنا لمحاولة فهم معنى كلمة «قياس Measurement». ينص تفسير كوبنهاجن على أنه خلال الملاحظة، يتفاعل النظام الفيزيائي مع أدوات القياس، و هنا تنهار الدالة الموجية إلى الحالة التي يمكن ملاحظتها، و أن النتائج المقدمة من خلال أدوات القياس الكلاسيكية هي نتائج كلاسيكية، أي أنه يتم وصفها بلغة اعتيادية و لا يمكن أن نفعل غير ذلك. أما عن طبيعة العالم الداخلي للذرة، فلا يمكن التعرف عليه أو رصده، لأننا لو حاولنا ذلك سوف نؤثر عليها بأدواتنا.

عرض موضوع القياس عدة مشكلات عصيّة على الفهم لها علاقة بطبيعة الكون الذي نعيش فيه. إذا كنا نعيش في عالم يتحدد من خلال كسرنا لحالة كمومية ما، هل يعني ذلك أننا جزء من تكوين العالم؟، يبدو سؤالاً بسيطًا لكنه غاية في القسوة على ما تعنيه كلمات كـ «علم» و «فيزياء». تتعامل الفيزياء مع العالم بشكل موضوعي، بحيث يكون هذا العالم منفصلًا عن ذواتنا، لكن دخول عنصر الملاحظة هنا يهدد ذلك التصور بأفكار أكثر ذاتية!.

يقول هيزنبرج:

«ما نراه ليس الطبيعة نفسها، لكنها لطبيعة مُعرضة لطريقتنا في استطلاعها».

اختلف مؤرخو العلم حول طريقة تطوره؛ لكنهم جميعًا اتفقوا على أن الميكانيك الكمومي هو ثورة حقيقية في فهمنا للعالم. لقد طرح أسئلة لا قبل لنا بها: كيف يكون الإلكترون موجةً و جسيمًا معًا؟، هل يمكن لنا تصور ذلك الوضع بعقولنا و قدراتنا المعرفية الحالية؟، هل يمكن تعميم التفسير الكوانتي على كل الكون؟، كيف؟، ماذا نعني بقولنا أنه «عدم التأكد»؟، وما هو التشابك الكمّي؟.


مراجع و كتب للاستزادة:

1- المبادئ الفيزيائية لنظرية الكم – فيرنر هيزنبرج

2- النظرية الذرية و وصف الطبيعة – نيلز بور

3- الفيزياء و الفلسفة – فيرنر هيزنبرج

4- فلسفة الكوانتم – رولان أميس

5- Time Quantum and Information- Castell، Lutz، Ischebeck، Otfried

6- Mind، Matter، and Quantum mechanics H. P. Stapp

7- Conceptual Basis of Quantum Mechanics – jean-Marcus Shwindt