1998: الشعر له ثمن يا أردوغان، ثمن باهظ للغاية

مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا مآذننا حرابنا ، والمؤمنون جنودنا هذا الجيش المقدس يحرس ديننا

هذا هو العام 1998، كان «رجب طيب أردوغان » يوجه خطابه إلي الجماهير المحتشدة أمامه،لم يستطع الشاب الصاعد في السياسة التركية بسرعة الصاروخ منع نفسه من اقتباس تلك الأبيات الشعرية الحماسية، والتي بالتأكيد كانت تمثل تحديا للدولة الفتية حينئذ في البلاد، الدولة التي تكرهه ورفاقه.

لم تمر الأبيات الشعرية دون ثمن، حُكم علي أردوغان بالسجن، ومنع من الترشح للانتخابات العامة، لكنها علمته منذئذ أن علي المرء ألا يبوح دائما بما يريد

لم تكن قد مرت سوى شهور قليلة علي حدث جلل سيطبع آثاره علي تاريخ تركيا لفترة، حزب الرفاه -ذو الجذور الإسلامية- يقود حكومة ائتلافية، وأردوغان قد انتُخب لتوه عمدة لاسطنبول عن الحزب نفسه، ويقوم زعيم الحزب «نجم الدين أربكان» الذي ينظر إليه كأب روحي للإسلام السياسي التركي بخطوات لا ترضي عنها الدولة العميقة «وهو مصطلح يشير لتحالف زبائني-أيدولوجي علماني ضارب بجذوره في البيروقراطية العسكرية والمدنية والبيروقراطية التركية»، حينها يجتمع مجلس الأمن القومي التركي اجتماعا مطولا، تندَّر البعض بأنه استمر ألف عام، أُبلغت حكومة أربكان بعدها أنه لن يُسمح «لـلرجعية» بالتغلغل إلي البلاد، وأن العلمانية خط أحمر، لم يستطع أربكان الصمود طويلا فاضطر إلي تقديم استقالته، كانت هذه هي نهايته السياسية، وبداية أردوغان كقائد أول للسياسة التركية.

عموما، لم تمر تلك الأبيات الشعرية دون ثمن، حُكم علي أردوغان بالسجن، ومنع من العمل في الوظائف الحكومية، ومن الترشح للانتخابات العامة، لكنها علمته منذئذ أن علي المرء ألا يبوح دائما بما يريد، وأن البراجماتية هي طوق النجاة في كثير من الأحيان، صار أردوغان براجماتيا منذ ذلك الحين،وستتيح له براجماتيته تلك أن يعود للسياسة ويصير بعد سنوات قليلة رئيسا للحكومة ولحزب العدالة والتنمية الحاكم،لكن ذلك الموقف ظل غالبا محفورا في ذاكرته إلي اليوم، وبعد 16 عاما، وبعد أن يظن الرجل أنه قد روض العسكر في تركيا بما يكفي، سيقف أردوغان موقفا مماثلا، أمام حشد جماهيري مشابه، وسيتلو الأبيات ذاتها، سيظن مؤيدوه ومعارضوه أن انتقام الدولة العميقة سيبقي بعيدا عنه هذه المرة، لكنهم سيخطئون في ظنهم، علي الأقل سيعود «شبح» الدولة العميقة ليحلق في سماء «أنقرة» ليلة السادس عشر من يوليو/تموز عام 2016، بعد ثمانية عشر عاما من الانتقام الأول.


2007: الجيش يتحرك إلكترونيا، وأردوغان : الضربات التي لا تقصم ظهرك تقويك

http://gty.im/452420658

تركيا تنتظر رئيسا جديدا، وحزب العدالة والتنمية له خمس سنوات في السلطة ، كان ينظر إلي كرسي الرئاسة أنه «تابوه» محرم علي أردوغان ورفاقه، ليأخذوا الحكومة والبرلمان والبلديات،أما كرسي الرئيس،فمن يتبوأه يجب أن يكون خير خليفة لأتاتورك مؤسس الدولة وأبو العلمانية التركية التي يراها هؤلاء في خطر بسبب هؤلاء الشباب الصابئين، وحين بدا أن الحزب ينوي فعلا الترشح علي المنصب، قرر الجيش التلويح بالتدخل.

في أبريل/نيسان 2007 نشرت القوات المسلحة التركية علي صفحتها الإلكترونيّة إنذارا -سُميّ فيما بعد بـ «الانقلاب الإلكتروني»- يُحذّر فيه حزب العدالة والتنمية من مغبَّة دعم «عبد الله غول» المعروف بانتمائه التقليدي للتيار الإسلامي والذي تلبس زوجته الحجاب في انتخابات الرئاسة. أثار الأمر حينها غضب حزب العدالة والتنمية وأنصاره ودفعهم إلى تأكيد موقفهم وإيصال «غول» إلى منصب الرئاسة.

عرَّض الجيش نفوذه لضربة قاسية،وفي أقرب انتخابات بعد «الانقلاب الإلكتروني» ازداد التصويت لحزب العدالة والتنمية بنسبة 13%، كان للحزب شعبية كبيرة قبل تحذير الجيش، وقد صارت شعبيته أكبر بعده،وفيما يبدو، كان الناس قد سئموا هذه الأفعال.


2011: الراية البيضاء ترتفع في أنقرة

http://gty.im/460680140

2011، كان اجتماع أردوغان بقادة الجيش الجدد مختلفا هذه المرة،، مختلفا للغاية في الحقيقة، وكما يحلو لرواد لغة الجسد تفسير الإشارات الجسدية، فقد فسر بعضهم ضم أردوغان لقبضتيه علي الطاولة في الاجتماع علي أنها رسالة يرسلها لأنصاره وأعدائه علي السواء،« لقد روضت الوحش».

فما الذي حدث بين عامي 2007 و 2011؟ أطلق حلفاء الحكومة في جهاز القضاء من أنصار« رجل الدين فتح الله غولن» تحقيقات واسعة حول أنشطة ضباط الجيش. وفي الدعاوى القضائية مثل قضية « أرغينيكون» وقضية «المطرقة»، التي اتهم فيها بعض عناصر الجيش بتدبير انقلاب ضد حزب العدالة والتنمية، جرى حبس العشرات من الجنرالات وتم احتجاز المئات من المسئولين العسكريين المُتقاعدين.

كانت هذه الحركات مدعومة من الساسة والجمهور في تركيا، وكانت أذرع الحكومة الإعلامية تجيد الدعاية لمواقفها، وهو ما غل أيدي المؤسسة العسكرية عن الرد، وفيما رؤي علي أنها إعلان استسلام من قبل قيادة الأركان التركية، قرر قائد الجيش التركي الجنرال «ايشيك كوشانير» وأعضاء قيادة الجيش والأسطول والقوات الجوية التركية أن يقدموا استقالة جماعية، «لم نستطع حماية ضباطنا» رد هؤلاء علي السائلين عن سبب الاستقالة.


2013: انقلاب التحالفات، عدو الأمس حليف اليوم

http://gty.im/120204882

نهاية العام 2013، صباح السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول، يتلقي أردوغان طعنة قاسية من حليفه الأكبر، «فتح الله كولن»،ورجاله المنتشرين في مواقع مهمة من القضاء والجيش والشرطة، البيروقراطية التركية، المدنية والعسكرية بوجه عام، كانت مخترقة بشكل كبير من رجال كولن، هكذا بدأ أردوغان ورفاقه يعلنون علي الأقل، مبررين ما سيفعلونه بحركة« الخدمة » فيما بعد.

اعتقل بشكل متزامن عددًا من المقربين للحكومة؛ أبناء وزراء، رجال أعمال، رئيس بنك خلق، ومديري بلديات، بتهم تتراوح بين الفساد المالي، وتقديم تسهيلات غير قانونية، والالتفاف بشكل غير قانوني على الحصار الاقتصادي المفروض على إيران.

تمت تلك التحركات بدون علم وزيري الخارجية والعدل، ورأي فيها أردوغان استهدافا له ،ولحزبه، ولحكومته، ولتجربته بشكل عام، انطلقت علي الفور حملة حكومية كبري، استهدفت الإطاحة بعدد كبير من العسكريين والأمنيين والقضاة ممن يُشكّ في ولائهم للحكومة.

كانت ولاية «نجدت أوزال» كقائد للجيش تشارف علي نهايتها، وبدأت هيئة الأركان تتهيأ لاستقبال قائدها الجديد «خلوصي أكار»، الرجل الذي يحبه الأمريكيون، والذي يحب الأمريكيون والناتو،كان أردوغان وأنصاره يعملون علي «تنظيف» صفوف الجيش كذلك من أنصار كولن.

حدثت تطورات عدة لاحقا ساهمت في تبديل التحالفات وتعدل موازين القوي، سيفقد العدالة والتنمية أغلبيته المطلقة في البرلمان، وسيضطر إلي اتخاذ خطاب قومي أكثر تشددا ضد الأكراد، الخطاب القومي الذي يحبه عسكر تركيا الكاره للأكراد بشكل عقائدي، إذ يراهم الجيش خطرا علي الجمهورية منذ تاسيسها، فقد أردوغان حليفه كولن بنفوذه، فحاول تلطيف العلاقة مع الجيش، عدوه القديم، ليكسبه حليفا جديدا، فأعلن أنه لم يكن راضيا عن الإهانات التي تعرض لها العسكريون الموقوفون، كان أردوغان يكسب الأعداء علي كل صعيد،في الداخل والخارج، ولم يكن ينقصه أن يتخلي عنه الجيش لصالح أحلامه القديمة، علي الأقل لا يجب أن يكون الجيش علي قلب رجل واحد حين يقرر الانقلاب عليه.


16 يوليو/تموز 2016: ليلة ارتجف فيها أردوغان

كان أردوغان يكسب الأعداء علي كل صعيد،في الداخل والخارج، ولم يكن ينقصه أن يتخلى عنه الجيش لصالح أحلامه القديمة

ليلة السادس عشر من يوليو/تموز 2016، كانت تلك لحظة مناسبة للانقلاب علي الرجل، فقد كان إلي وقت قريب عدوا للعالم كله إلا قليلا، كانت مناسبة، لكنها لم تكن الأفضل، فالرجل للتو قرر أن يستعيد براجماتيته، فأعاد علاقاته مع الروس والإسرائيليين، وتهيأ لتحسين علاقاته مع النظام المصري الجديد، وفيما كان الأتراك يتهيؤون للنوم والأحلام السعيدة، دوت علي شاشات الأنباء صافرات الإنذار، كان هذا آخر نبأ يمكن أن يتوقع المرء سماعه في تلك اللحظة :

الجيش يحاول الانقلاب في« الجمهورية التركية »

توالت الأحداث تباعا، الجيش يغلق مضيق البوسفور، القوات العسكرية تحتل المطارات، الجيش يقتحم مقر التليفزيون، الإعلام يتلقي بيانا عبر إيميل للجيش يعلن فيه سيطرته علي الحكم وإعلانه الأحكام العرفية، يعلنون أن خطوتهم من أجل إعادة إحياء الديمقراطية التي دنسها أردوغان بنظرهم، لا أحد يعرف أين أردوغان، هل الانقلاب من قبل هيئة الأركان علي الحكومة ؟ أم هو من قبل مجموعة من الضباط علي هيئة الأركان والحكومة ؟

بدأت الأمور تتكشف تتدريجيا، هيئة الأركان والمخابرات تتعرضان للقصف، إذن ليس الجيش كله ضد الحكومة، بعض الجيش ضد بعضه وضد العدالة والتنمية، ثمة مجال للمناورة إذا، أردوغان يتحدث للشعب عبر فيديو مهتز، يناشده النزول للشوارع، الساسة الأتراك يناشدون العالم دعم الديمقراطية التركية، يناشدون شرفاء الجيش التحرك لمنع انقلاب زملائهم.

أتاحت سنوات حكم أردوغان الطويلة له تكوين سلك ضباط موالين له داخل المؤسسات التركية، كان ذلك عظيم الفائدة له لحظة الخطر الأكبر

ميزان القوي يتغير تدريجيا، مواطنون ينزلون للشوارع بحذر، عشرات، مئات، آلاف، أيام سوداء تنتظر البلاد برأيهم لو مر ما يمر، عشرات الآلاف، هل هم مئات الآلاف ؟ بعد فترة يعجز المرء عن تقدير العدد، لكن يصير بإمكانه أن يصف المتظاهرين بالـ «الحشود»، وأن يصف الحشود بـ «الكبيرة»، صارت هذه الحشود كبيرة تطوق قوات الجيش المنتشرة في الشوارع، وتهتف لها صارخة بأن فعلها لن يمر.

ما رأي الساسة إذن ؟ العلمانيون لا يحبون أردوغان ولا يرتاحون لطموحه المخيف، من المؤكد أنهم سيدعمون ما يجري، لحظة .. ليست الأمور بتلك الصورة الاختزالية ، رؤساء الأحزاب يرفضون تحركات الجيش، عاني هؤلاء كذلك من انقلابات العسكر السابقة، وصار بإمكانهم اختيار السيئ علي الأكثر سوءا ، حتي حزب الشعب الجمهوري الذي وصف يوما بأنه الذراع السياسية لعسكر تركيا، يرفض ما يجري من جنون.

أتاحت سنوات حكم أردوغان الطويلة له تكوين سلك ضباط موالين له داخل المؤسسات التركية، سواء كان يقصد ذلك أم أن هذه طبائع الأمور، لكن المؤكد أن ذلك قد كان عظيم الفائدة له لحظة الخطر، حين بدا أن كل شئ علي وشك النهاية، وأن أردوغان سيعود إلي السجن كما كان يوما، أو سيساق إلي حبل المشنقة كما «عدنان مندريس» الذي كان يحلو له التغني بتجربته، تغير كل شئ.

تتوالي تصريحات قادة الجيش برفض التحركات المناوئة للحكومة، قائد الجيش الأول، قائد القوات البحرية، مقاتلات حليفة تسقط مروحية مناوئة، الشرطة التركية الداعمة للحكومة تنشر جنودها، الاستخبارات تعطي أوامرها لمنتسبيها بالاشتباك،الاشتباك حتي الموت، للحظة بدا أن العالم بإمكانه أن يتحمل المزيد من الدماء، والكثير من الدماء.

قادة العالم يتخلون عن حذرهم ويعلنون دعمهم للحكومة، بعضهم يكذب، ويعرف أنه يكذب،ويعرف أن العالم يعلم بكذبه، لكنها السياسة وتكاليفها يا عزيزي.

انتهي كل شئ فجاة كما بدأ فجأة ،وصلت القصة إلي عقدتها بسرعة، ثم انفرجت بالحل بسرعة أكبر .