في عصر اللا حدود، حيث لا حواجز زمنية أو مكانية أو جغرافية، حيث التطور الرقمي الهائل، في عصر تدفق المعلومات، هل تسير عملية نقل المعلومات والبيانات في اتجاه واحد، أم أن هناك خط عودة، مضاد له في الاتجاه ومساوٍ له في التدفق، أو ما يمكن أن نسميه ضريبة المعرفة. هل نتلقى فقط المعلومات؟ أم نقدمها أيضًا؟

هل خطر ببالك مسبقًا أنه ربما تكون مراقبًا طوال يومك من قبل هاتفك الجوال، وأنا هنا لا أعني مجازًا، عن طريق مشاركتك لحظاتك اليومية وصورك وأخبارك الخاصة على مواقع التواصل، بل أعني المراقبة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. تحركاتك، صورك حتى التي لم تشاركها مع الجمهور، بياناتك العامة أو الخاصة بالدردشات والمحادثات الصوتية، بل وصورك الخاصة على جهازك الإلكتروني، وليس على الإنترنت، سواء كان هاتفًا محمولًا أو جهازًا لوحيًا أو حتى كمبيوتر شخصيًا أو لابتوب.

هل كنت تعلم أن سياسة البيانات في فيس بوك تنص على أنه «يجوز لفيس بوك الوصول إلى المعلومات الخاصة بك والاحتفاظ بها ومشاركتها مع الجهات التنظيمية وجهات تنفيذ القانون “أو غيرها” استجابة لطلب قانوني، إذا توافر لدى فيس بوك اعتقاد بحسن النية».

دعني أخبرك أيضًا أنه يحق لفيس بوك جمع المنشورات التي تقوم بنشرها أنت أو التي تشاركها مع الآخرين والمراسلات التي تجريها معهم في المحادثات الخاصة، بل وجمع بيانات جهازك الخاص مثل دفتر العناوين وسجلات المكالمات والرسائل النصية على هاتفك SMS، بل والمعلومات المتصلة بكيفية استخدامك لميزات فيس بوك كالكاميرا مثلًا.

لا تقتصر عملية التتبع هذه على نشاطك على شبكة الإنترنت أو أثناء استخدامك لمنتجات فيس بوك فقط، بل تمتد إلى جمع معلومات عن أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة وأجهزة التلفزيون المتصلة بالإنترنت في منزلك، تتضمن معلومات عن نظام التشغيل وإصدارات البرامج ومستوى شحن البطارية، وقوة الإشارة ومساحة التخزين المتوفرة، ونوع المتصفح وأسماء وأنواع التطبيقات والملفات التي تستخدمها خلال يومك؛ تصل فيس بوك إلى أي شيء وكل شيء على جهازك حتى حركات الماوس وإشارة البلوتوث بل والواي فاي واسم شركة تشغيل هاتفك المحمول، ليس هذا وفقط بل ومعلومات حول الأجهزة الأخرى الموجودة بالجوار!

هذه الإجراءات ليست متبعة أو مطبقة في فيس بوك فقط بل لكل ما يتبعه بما فيها (إنستجرام، ماسينجر، وأيضًا تطبيقات مثل Direct، ،Boomerang Bonfire، ،Moments ،Audience Network،Spark Ar Studio Facebook Mentions وأي تطبيقات أو تقنيات أو برامج أو منتجات أو خدمات توفرها شركة فيس بوك، أي أن هذه السياسة تمتد لمراقبة أدوات فيس بوك للأعمال التي يستخدمها مالكو مواقع الويب، والناشرون، ومطورو التطبيقات بل والمعلنون أيضًا.

تكتب فيس بوك في سياستها أيضًا أنه يحق لها تلقي معلومات عن الإجراءات التي تقوم بها على الإنترنت أو خارج الإنترنت من جهات خارجية تتمتع بحقوق تزويدها بمعلوماتك، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: ما هي هذه الجهات؟ ثم تتوالى أخبار اختراق حسابات أعضاء فيس بوك وتسرب بيانات عشرات الملايين من المستخدمين لجهات مجهولة.

في الحقيقة ليست فيس بوك الوحيدة في الفضاء الرقمي التي لديها إمكانية الوصول إلى دهاليزك الخاصة ،بل تقريبًا جميع المواقع الإلكترونية التي تتعامل معها في أبحاثك أو حتى تصفحك اليومي للإنترنت لديها هذه الصلاحيات، عن طريق ملفات تعريف الارتباط، أو ما تسمى اختصارًا بـ«الكوكيز»، والتي يتلخص سبب وجودها -كما هو معلن- في التعرف عليك كلما سجلت الدخول إلى موقع ما مرات متكررة دون الحاجة إلى تسجيل اسمك وكلمة المرور في كل مرة، من منا يكره ذلك، إنها تسهل عملية التصفح وتجعلها أكثر سلاسة، ولكن هذا هو الخبر الجيد، أما عن السيئ فهو أن الكوكيز لا تقوم بتخزين اسمك وكلمة مرورك فقط، بل تتعدى ذلك إلى نوع الجهاز المستخدم في التصفح ونوع المعالج ورقم الـIPالخاص بك.

حسنًا (أنا لا أعلم ما هو رقم الـIP الخاص بي)، والطريقة التي يتم الاتصال بالإنترنت من خلالها سواء كان الواي فاي أو بيانات الشبكة الخاصة بالهاتف المحمول، كذلك المواقع التي تقوم بزيارتها بصفة متكررة وعدد الساعات التي تقضيها على هذه المواقع أو المنصات.

على الرغم مما يتردد أن تفعيل ملفات الكوكيز هي ميزة اختيارية لن يتم تفعيلها إلا باختيار المستخدم، إلا أنه في الواقع، لن تتمكن من تصفح موقع ما بسهولة وتستخدم مميزاته كاملة دون تفعيل ملفات الكوكيز، بل هناك مواقع لا تعمل ولا يمكنك الدخول إليها من الأساس في حال تعطيلك لملفات الكوكيز.

أنا شخصيًا لم أقم بتفعيل ميزة الكوكيز في أي من المواقع التي أتصفحها إلا أنني كلما دخلت إلى المتصفح الخاص بي أجد رسائل تفيد أنني قد زرت هذه الصفحة أو تلك في يوم كذا أو يوم كذا.

بعض الدول لا تسمح بمثل هكذا تجاوزات من الشركات وتعمل على تقليص مساوئها، فعلى سبيل المثال، اللائحة العامة لحماية البيانات العامة بالاتحاد الأوروبي والتي بدأ العمل بها منذ مايو/ آيار الماضي، تتيح لمستخدمي الإنترنت التحكم بشكل أفضل في بياناتهم الشخصية وتعطي الجهات المعنية الحق في فرض غرامات تصل إلى 4% من الإيرادات العالمية للشركات المخالفة. مما دعا هيئة حماية البيانات الفرنسية إلى فرض غرامة قدرها 50 مليون يورو على شركة جوجل.

كان ذلك في اليوم 21 من الشهر الماضي وذلك لخرقها قواعد الخصوصية الخاصة بالاتحاد الأوروبي، لتسجل بذلك رقمًا قياسيًا في تاريخ العقوبات على جوجل، وقالت الهيئة الفرنسية إن أكبر محرك بحث في العالم يفتقر إلى الشفافية والوضوح في الطريقة التي يتعامل بها مع بيانات المستخدمين الشخصية.

جاء بيان جوجل في ردها على الغرامة على قدر ضخامة المبلغ، فلم تزد الشركة في الرد عن تأكيدها على التزامها الشديد بتلبية متطلبات اللائحة الأوروبية وأنها ستدرس خطواتها التالية بعناية أكبر.

في نفس الإطار، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كانت هيئة الاتصالات الروسية قد بدأت إجراءات إدارية ضد كل من شركتي فيس بوك وتويتر لأنهما لم يشرحا كيف ومتى يلتزمان بالتشريعات التي تقضي بأن تكون جميع الخوادم المستخدمة لتخزين البيانات الشخصية للمواطنين الروس موجودة في روسيا، وأعطت الشركتين مهلة شهر لتقديم المعلومات وإلا فسيتم اتخاذ إجراء ضدهما.

أعقبت روسيا هذه الإجراءات، في يناير/ كانون الثاني الماضي، بغرامة مالية على شركة جوجل قدرت بمبلغ 500 ألف روبية لعدم التزامها بشرط قانوني لإزالة بعض القيود من نتائج البحث. في أيرلندا أعلنت لجنة حماية البيانات الأيرلندية عن فتحها تحقيقاً رسمياً في حادثة اختراق فيس بوك سبتمبر الماضي للنظر في مدى التزام فيسبوك بقواعد الاتحاد الأوروبي لحماية البيانات.

حسنًا، هذه سياسات بعض الدول في الحفاظ على خصوصية مواطنيها، أما البعض الآخر فقد يسمح لسياسات البيانات بالوصول إلى أبعد مما هي عليه الآن، مع أني لا أرى ما هو أبعد من ذلك.

تطورت التكنولوجيا الرقمية حتى ابتلعت صانعها، لقد باتت وسيلة مراقبة وسيطرة أكثر منها وسيلة لتقريب المسافات وتسيير وتيسير الأعمال، لم يعد هناك مجال للتشوش أو النسيان، تفوق هنا الذكاء الاصطناعي والذاكرة الإلكترونية، كل شيء مراقب ومسجل، ولا يمكن محوه، سواء اخترنا نحن ذلك أم لا.

اقرأ أيضًا: ما هي خدمات VPN؟ ولماذا يحتاجها مستخدمو الإنترنت اليوم؟

التكنولوجيا حرفيًّا تعد أنفاسك. الخصوصية تنمحي شيئًا فشيئًا، قد يصبح لدى التكنولوجيا إمكانية الوصول إلى ما وراء الأفكار في العقول! من يدري لعلي أفتح هاتفي النقال في يوم ما لأجد رسالة تخبرني بخطأ اعتقادي الذي أحدّث به نفسي أن الـ..، لا أريد أن أتخيل!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.