في عام 1845م نشرت قصة غريبة في مجلة أخبار لندن المصورة، أفادت تلك القصة أن كلبا أسود (وصفته المقالة بأنه «جيد ووسيم») قد قام بإلقاء نفسه في النهر في محاولة للانتحار [1]، وقد كانت أقدامه ثابتة بشكل غير معتاد بالنسبة لكلب عادي في المياه، أما الأغرب فعلا، فهو أن ذات الكلب بعدما تم إخراجه من المياه قام بالإسراع مرة أخرى نحو المياه في محاولة أخرى لإغراق نفسه. في نهاية المطاف، نجح الكلب في مهمته الانتحارية ومات.

وتبعًا للصحافة في العصر الفيكتوري، فإن ذلك الكلب لم يكن الوحيد الذي قام بمثل تلك المحاولات، فبعد نشر تلك القصة بفترة قصيرة تم نشر قصتين مختلفتين، إحداهما عن بطة قامت بإغراق نفسها عمدًا، والأخرى عن قطة قامت بشنق نفسها بين فروع الأشجار بعد موت صغارها.


المشاكل النفسية للحيوانات

نحن نعلم على وجه اليقين أن الحيوانات قد تعاني من بعض المشاكل النفسية[2] بنفس الطريقة التي تصيب البشر، حيث تصاب الحيوانات بالتوتر والاكتئاب على وجه الخصوص، وهما عاملان مهمان من العوامل التي تؤدي إلى فعل الانتحار بين البشر، كما نعلم أيضًا أن بعض الأنماط السلوكية التي كنا نظن أنها مقصورة على البشر فقط قد تم إيجادها في بعض الحيوانات. ويبقى السؤال: هل الانتحار واحد من تلك السلوكيات؟

لا يعد هذا السؤال سؤالاً جديدًا؛ فقد تناوله العلماء اليونانيون القدامى. فمنذ أكثر من 2000 سنة، ذكر أرسطو أن حصانًا قد قام بإلقاء نفسه في الهاوية[3]، وفي القرن الثاني الميلادي، قام الباحث اليوناني كلاوديوس آليانوس بتخصيص كتاب كامل لموضوع انتحار الحيوانات[4]، حيث استشهد بواحد وعشرين حالة تبدو كانتحار بين الحيوانات، من بينها عدة حالات لكلاب امتنعت عن تناول الطعام بعد وفاة أصحابها حتى ماتت جوعًا، وحالة عن نسر ضحّى بنفسه حرقًا في محرقة مدربه المتوفي.

كحالة الكلب الذي غرق التي ذكرناها سابقًا، ظلت فكرة انتحار الحيوانات منتشرة بين الناس في القرن التاسع عشر، وقد تم تبني تلك الأفكار من قبل جماعات حقوق الحيوان، مثل الجمعية الملكية لمنع العنف ضد الحيوانات في المملكة المتحدة، حيث سعى النشطاء إلى أنسنة (إضفاء لمسة إنسانية) على العواطف الحيوانية، وإظهار أن الحيوانات تشاركنا القدرة في أن تقرر إنهاء حياتها بسبب الحزن أو الغضب[5].


في أي سياق نرى تلك الحوادث؟

مع تقدم الطب في القرن العشرين، تحولت رؤية البشر للانتحار إلى رؤية أكثر إكلينيكية، وتضاءلت الإشارات إلى تلك المحاولات المشابهة للانتحار في الحيوانات، وتحولت رؤيتنا للانتحار كمرض يصيب مجموعة من البشر غالبًا كنتيجة لضغوط اجتماعية، وأصبح التعامل مع الانتحار يتم بكونه أقرب إلى أن يكون داءً مجتمعيًا، وقد انعكست تلك الرؤية على تفسيرنا وفهمنا لقصص ما تقوم به الحيوانات مما يشبه الانتحار، مثل ما تقوم به بعض الحيتان من الصعود للشواطئ مما يعرضها للوفاة في بعض الأحيان[6].

وتبعًا للطبيب النفسي أنطونيو بريتي من جامعة كالياري في إيطاليا، فإن قصص انتحار الحيوانات يجب ألا تخدعنا، حيث قام بمراجعة حوالي 1000 دراسة علمية بخصوص انتحار الحيوانات على مدار الأربعين عامًا الماضية، ولم يجد أي دليل على أن هناك أي حيوان يقوم بالانتحار عمدًا، وأن القصص التي ذكرت في كتاب كلاوديوس آليانوس هي محض أساطير.

أما الحالات التي يموت فيها الحيوان الأليف بعد فترة وجيزة من موت صاحبه، فإنه من الممكن تفسيرها كنتيجة للخلل النفسي الناتج عن فقدان الحيوان للترابط الاجتماعي الذي كان يوفره له صاحبه، فهذه الحيوانات لا تقوم باتخاذ قرار واعٍ بالانتحار، لكنها فقط تكون معتادة ومرتبطة بدرجة كبيرة بصاحبها الأصلي لدرجة أنها لا تستطيع أن تتقبل تناول الطعام من شخص آخر. وتؤكد تلك الأمثلة حقيقة هامة بخصوص الحيوانات، وهي أن الحالة النفسية للحيوان قد تؤثر على سلوكه بدرجة كبيرة قد تصل للتسبب بالضرر المباشر للحيوان، وتبعًا لـ باربرا كينج من جامعة ويليام وماري في فيرجينا، فإنه من المهم أن نفهم مدى عمق تأثير تلك المشاعر أو الأحاسيس على الحيوانات؛ مما قد يساعدنا على فهم أعمق لما يدفع تلك الحيوانات للتصرف بصورة تتسبب في إصابتها بالأذى.

تقول كينج: «على حد علمي فإن الغالبية العظمى من الحالات ناتجة عن التدخل البشري بطريقة أو بأخرى، سواء عن طريق الصيد الجائر أو الحبس»، وهناك العديد من التقارير عن حيوانات تم إبقاؤها في ظروف مؤلمة وتعرضت لما يشبه اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب. تشير التقارير على سبيل المثال إلى أنثى دب -في إحدى المزارع الصينية لتربية الدببة- قامت بقتل ابنها خنقًا ثم قامت بقتل نفسها بعد ذلك، تم ذلك بعد إجراء طبي مؤلم لابنها بهدف استخراج العصارة الصفراء (التي يتم استخدامها أحيانًا في الطب الصيني)، وأشارت الكثير من التقارير الصحفية إلى أنها قامت بذلك لتجنب المزيد من سنوات الألم والمعاناة لنفسها ولطفلها، ويعتبر الطبيب النفسي «أنطونيو بريتي» أن تلك الأفعال قد تكون انعكاسًا لمحاولات الحيوانات الهروب من الحبس في الكثير من الأوقات.


ما هي الأسباب وراء ذلك السلوك؟

هناك العديد من الأسباب التي قد تؤدي إلى سلوك مدمر، ومنها ما تم ذكره سابقًا من التأثيرات النفسية المختلفة التي قد تؤثر على الحيوانات. لكن هناك أسباب أخرى أكثر مباشرة ووضوحًا، ومنها بعض الطفيليات التي تصيب الحيوانات وتقوم بالتحكم في سلوكهم متسببة في بعض السلوكيات التي قد تكون مدمرة أو قاتلة للحيوان نفسه، لكنها تساعد على ازدهار ونمو الطفيل نفسه[7]. على سبيل المثال، فإن طفيل التوكسوبلازما يصيب الفئران ويتسبب في إزالة خوفهم الفطري من القطط، حيث أن دورة حياة الطفيل تستدعي أن يقوم القط بأكل الفأر. وقد وجدت دراسة أجريت عام 2013م أن الفئران المصابة بهذا الطفيل تفقد الخوف الفطري من القطط حتى بعد الشفاء من الطفيل. كذلك تسمح العنكبوت الأم لصغارها بأن يقوموا بالتهامها، وعلى الرغم من أن العنكبوت الأم تموت خلال تلك العملية، فإن تلك التضحية لا تعتبر انتحارًا، لكنها تعد تطرفًا في الرعاية الأبوية، حيث تقوم الأم بالتضحية بجسمها كوجبة أولى لأبنائها لضمان حصولهم على الغذاء اللازم.


لماذا لا تعد تلك الحوادث انتحارًا؟

طفيل التوكسوبلازما يصيب الفئران ويتسبب في إزالة خوفهم الفطري من القطط، حيث أن دورة حياة الطفيل تستدعي أن يقوم القط بأكل الفأر.

لكي نستطيع القول إن تلك الحوادث لا تعد انتحارًا، فإنه من الواجب أولاً أن نقوم بتعريف ماهية الانتحار، فما هو الانتحار؟! يتم تعريف الانتحار عادة بأنه «القيام بقتل النفس عمدًا وبنية إنهاء الحياة». نحن نعلم يقينًا أن العديد من الحيوانات تقوم بقتل نفسها، لكن السؤال هنا هو إذا ما كانت تلك الحيوانات تتعمد إنهاء حياتها. فعلى سبيل المثال، تقوم العنكبوت الأم بالتضحية بحياتها بنية توفير الغذاء لأطفالها لا بنية الموت أو إنهاء حياتها، ويعتقد العديد من العلماء أن السؤال غير منطقي في ذاته حيث أن الحيوانات لا يمكنها أن تفكر في الانتحار بسبب الاختلاف في القدرات المعرفية بين البشر والحيوانات، حيث يستطيع البشر التفكير في المستقبل البعيد وكذلك يمكنهم تخيل الظواهر المجردة كالموت والحياة. فالبشر هم الكائنات الوحيدة في المملكة الحيوانية القادرة على فهم الفكرة المجردة لوفاتها الشخصية، حيث أن البشر يمتلكون مستوى متطورًا من الوعي بالذات لا تمتلكه أي من الحيوانات الأخرى، ولذلك فإنه عند طرح فكرة الانتحار كونها القيام بعمل يؤدي للوفاة الذاتية، فإنه من غير المنطقي أن يكون بمقدور الحيوان التسبب في وفاته الذاتية في حين أنه غير قادر على تخيلها أو فهمها، وبذلك يكون الانتحار فعلاً مميزًا لا يستطيع القيام به إلا الإنسان.

المراجع
  1. The nature of suicide: science and the self-destructive animal
  2. Many animals can become mentally ill
  3. Animal Madness: Inside Their Minds … by: Laurel Braitman .. page: 232
  4. Suicide among animals: clues from folklore that may prevent suicidal behaviour in human beings.
  5. The Suicidal Animal: Science and the Nature of Self-Destruction
  6. Are whales attempting suicide when they strand themselves?
  7. Ten sinister parasites that control their hosts minds