محتوى مترجم
المصدر
Politics and Culture
التاريخ
2010/08/10
الكاتب
Matt Kavanagh

حينما ظهر كتاب الإمبراطورية [1] على الساحة عام 2000، تم استقباله بحفاوة بالغة. بمقدور قليل من الكتب الأكاديمية توليد مثل هذه الحماسة الملموسة؛ وأقل منه يمكن اعتباره قنابل حقيقية (في الواقع، حتى صدور كتاب الإمبراطورية، كان وصف «قنبلة أكاديمية» يبدو وكأنه تناقض اصطلاحي). إذن ما هي الكيمياء الغريبة المسئولة عن نجاحه؟

بالتأكيد، برهنت الحماسة المدرسية والعامة التي نالها الكتاب على أنها مُؤثِّرة ومُعدِية. لا يطمح كتاب الإمبراطورية لشيء أقل من إعادة رسم خريطة شاملة لإحداثيات المشهد المعاصر. هو في الوقت نفسه تساؤل عن تجليات الحداثة، وإعادة تركيز للنظرية السياسية الحديثة حول شخصية باروخ سبينوزا، ونقد فوكوي للسلطة الحيوية، ووعد مبتهج بأشياء قادمة.

كما يعلّق إيمري سزيمان [2]، «بدايةً من ماركس نفسه، إن تطور الرأسمالية خلال مراحلها المتتابعة هو قصة حُكيت مرات عديدة. مع ذلك، بمقدور المرء أن يقول بغير مخاطرة، أنه لم تتم حكايتها أبدًا بهذه الطريقة». بتنحية البراعة جانبًا، فإن هذا التعاون بين أستاذ الأدب المقارن بجامعة ديوك، مايكل هاردت، والمُنظّر السياسي الإيطالي أنطونيو نيجري، أفاد من توقيته المناسب أكثر من أيّ شيء آخر.

صدر كتاب الإمبراطورية في لحظة تاريخية مُبشّرة على نحو خاص. بحلول عام 2000، كانت أمريكا قد أمضت عِقدًا عقيمًا محاولةً إعادة تعريف نفسها في سياق عالم ما بعد الحرب الباردة. أُعلن عن «النظام العالمي الجديد» الخاص ببوش الأب في التسعينيات، لكن لم ينجُ خلالها لأن أمريكا انكفأت على نفسها، مهتمة بتتبع أسعار الأسهم والنميمة بخصوص اتهام بيل كلينتون أكثر من اهتمامها بالمشهد العالمي الذي بدا فوضويًا.

شهد عددٌ محدودٌ من التدخلات الإنسانية (كما حدث في الصومال وكوسوفا) على قدرة الجيش الأمريكي التي لا تُباري لحماية نفسه في كل أنحاء الكرة الأرضية، لكن أيضًا على الطبيعة العابرة لمجاملاته. بينما، من منطلق سياسي، افتقرت أمريكا إلى استشراف عالمي متماسك (وهو رؤية واضحة عن العالم ومكانها فيه – مهما كانت عيوبه الكثيرة لا يمكن أن يُقال أن نظام بوش الابن افتقر إلى هذا)، تماسك العالم رغم ذلك.

السؤال، إذن، هو كيف نصف هذا التجمع الجديد؟ يمكن إيجاد الإجابة في نظريات العولمة. باشتمالها على عدد كبير من المعاني التي هي أحيانًا متناقضة (مثل مصطلح «ما بعد الحداثة» قبل ذلك)، ما لبثت العولمة أن ترنحت تحت ثقل التوقعات لأنها أصبحت بشكلٍ متسارعٍ كلَ الأشياءِ لكل المنظّرين. لقد كانت، بكلمات أخرى، مصطلحًا يبحث عن تعريف، وهذا بالضبط ما يوفّره كتاب الإمبراطورية.

بعد هجوم 2001 على البنتاجون ومركز التجارة العالمي، لحقتْ الأحداثُ بالاستقبالِ الأوليّ للكتاب. لم ينجح هاردت ونيجري فقط في وضع تطورات عالمية متباينة في حكاية متسقة، بل بدا أنهما يملكان بصيرة نافذة بشأن حجم ونطاق الحرب الأمريكية على الإرهاب الناجمة عن ذلك. كان كتاب الإمبراطورية هو الأول وسط طوفان من العناوين التي تقيّم توقعات قيام إمبراطورية أمريكية، متراوحة ما بين التحمّس (فيرغسون 2001 و2004)[3] إلى التشاؤم (مجهول 2004)[4].

أخيرًا، إن ما يميز كتاب الإمبراطورية عن التوصيفات والوصفات العديدة للإمبريالية الأمريكية هو رؤيته عن امبراطورية مضادّة، رؤية تبشّر بالثورة عوضًا عن السياسة الواقعية.


مفهوم الجمهور Multitude بوصفه قوة ثورية جديدة

المدخل لدَعْوَى هاردت ونيجري هو الرمز المسمى بــ «الجمهور»، «البديل الحيّ الذي ينمو داخل الإمبراطورية». على العكس من مفهوم «الشعب» أو «الطبقة العاملة» الذي جاء قبله، ليس الجمهور مقيدًا بمنطق الدولة القومية الحديثة أو الرأسمالية الصناعية. بدلاً عن ذلك، تجسد هذه الذات الثورية الجديدة تناقضات المرحلة الحالية من التطور الرأسمالي، وهي ما يمكن وصفها بأنها شخصيته المُعولمَة.

بنفس طريقة قيام الإمبراطورية بـ «النشر العالمي لشبكة تراتبياتها وأقسامها التي تحفظ النظام من خلال آليات جديدة للسيطرة والصراع المستمر»، يستفيد الجمهور من «دوائر جديدة من التعاون والتعاضد تمتد عبر الأمم والقارات وتسمح بعدد غير محدود من اللقاءات». إن استجابة الجمهور للرأسمالية الشبكية ليست طليعيةً وفرضًا للانضباط الحزبيّ، لكن تأكيدًا على تباين وفردانية عناصره التأسيسية.

باختصارٍ، داخلَ الجمهورِ، «مع البقاء مختلفين، نكتشف القواسم المشتركة التي تمكننا من التواصل والعمل سويًا»؛ خالقين ما وُصف بأنه «حركة من حركات كثيرة»[5]. مع نشره مباشرةً بعد احتجاجات نوفمبر 1999 ضد منظمة التجارة العالمية في سياتل، لم يحمل كتاب الإمبراطورية رسالةً فحسب، لكن أيضًا وجد قارئيه جاهزين.

بوضع كل هذا في الحسبان، سيكون من الصعب المبالغة في تقدير التوقعات لكتاب هاردت ونيجري الجديد «الجمهور: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية»، المكمِّل لكتاب الإمبراطورية. كانت الاستثارة تتراكم منذ محاورة في 2001 أعلن فيها هاردت عن أمرين؛ «نحن في حاجة لكتابةِ نظريةٍ عن الجمهور»[6] وأن المؤلِّفَين المتعاونين كانا في الحقيقة يعملان جاهدين من أجل ذلك.

السؤال، كما صاغه بول باسافانت، هو ما إذا كانت «أحوال العالم (ستكون) مؤاتيةً لكتاب عن الجمهور كما كانت لكتاب عن الإمبراطورية؟»[7] يا تُرى؟ هناك دلائل إيجابية بالتأكيد (دون ترتيب محدد): ملايين في مسيرات ضد الحرب على العراق في 2003؛ والحيوية المستمرة للمنتدى الاجتماعي العالمي (اجتماع هذا العام في بورتو أليغري بالبرازيل، أعلن عن أكثر من مائة ألف مشارك)؛ والاندفاعة الغير مسبوقة بين دول شَمال الكرة الأرضية لتقديم الإغاثة للمناطق التي ضربها إعصار التسونامي في جنوب شرق آسيا.

رغم ذلك، يوجد الكثير لمعارضة فكرة أن هذا هو عصر الجمهور. لقد أدّت تلك المسماة الحرب على الإرهاب إلى إعادة ظهور الدولة القومية، التي تسعى لتهذيب الجمهور العنيد باسم الشعب. في أمريكا، يجترف قانونُ باتريوت الحرياتِ المدنيةَ باسم الأمن القومي بينما يبين إنشاءُ وزارةِ الأمن الداخلي أنه بعيدًا عن الذوبان في تيارات المال والتجارة العالمية، تتوثق الحدود.


هشاشة الإمبراطورية

المفارقات التي تحملها حالة الحرب الجديدة هذه، وخصوصًا التحديات التي تضعها أمام استيعاب «مشروع الجمهور»، تشغل الثلث الأول من كتاب هاردت ونيجري الجديد. هذه استراتيجية فعّالة، لأنها تتيح لهما إيجاز الأطروحة التي كانت في كتاب الإمبراطورية (أي، توصيف «الإمبراطورية» نفسه) مع تضييق نطاق المناقشة في ذات الوقت.

إنهما يستخدمان تحوّلَ ما بعد الحرب الباردة في العقيدة العسكرية الأمريكية كمجازٍ ممتدٍ عن بزوغ الإمبراطورية نفسها. لقد تم وصف هذا التحوّل بأنه «الثورة في الشؤون العسكرية RMA»، ويُعدّ وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد من بين أنصاره. فوق كل شيء، تؤكد تلك الثورة على فكرة الصراع الغير متكافيء، حيث يملك أحد الأطراف قوة غير متناسبة إطلاقًا مع قوة خصمه.

يركز هاردت ونيجري على تلك الثورة لأنه «يبدو أنها تتوقع بشكل ما أنماط الإنتاج الحيوي-السياسي للجمهور». بسبب التفوق العسكري الأمريكي الذي لا ريب فيه، يقل احتمال حدوث الصراع في ميدان معركة تقليدي مقابل توزعه خلال مجموعة سكانية مستهدفة ثم عودته للظهور في صورة حرب عصابات يكون فيها الجميع مشتبهًا بهم.

كنتيجة لذلك، تتطلب شروط الكسب لهذه الصراعات الما بعد حداثية ما يُدعى «هيمنة شاملة النطاق». بتعبير آخر، العسكرية الأمريكية قوية لدرجة أنها تُثبّط، وإلى حد ما تمنع، استجابة عسكرية تقليدية—وهي تحديدًا نوع القوة العسكرية التي تم تصميمها لأجل هزيمتها.

ما يثير السخرية هو أن هذه الأفضلية غير المتكافئة تجعل النصر بالنسبة للولايات المتحدة مستحيلًا لأنه لا أحد هنالك كي يُسلّم بالهزيمة، على الأقل لا أحد تعترف به الولايات المتحدة كمالك لشرعية القيام بهذا. لذلك يجب إنتاج الخضوع الذي يصبح مشكلة إدارة سكانية أكثر منه مسألة تكتيكات قتالية. الهيمنة الشاملة النطاق، كما يشرح المؤلِّفان، «تجمع القدرة العسكرية والسيطرة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والأيديولوجية. هكذا، في حقيقة الأمر، اكتشف المنظّرون العسكريون مفهوم السلطة الحيوية».

مع ذلك، فالسلطة الحيوية لها حدودها. يوضّح هذا سخطُ الجيش الأمريكي في العراق. بعد الإطاحة بنظام صدام حسين بسهولة هازئة، تجد أمريكا نفسها متورطة في حملةِ مكافحةٍ ضد التمرد. يقول مراسل مجلة الأتلانتك في بغداد: «بغير تنميق للكلام، هذه ليست حربًا على الإرهاب لكن حرب مطاردات مع جزء كبير من الشعب العراقي. إنها أشد اتساعًا وعمقًا بكثير مما بإمكان المسؤولين الاعتراف به. والولايات المتحدة في طريقها لخسارتها»[8].

يتوقف نجاح أو فشل حملة الولايات المتحدة على الانتقال من الطغيان البعثيّ إلى الديمقراطية؛ تفرض الهيمنة الشاملة على الجيش، بالإضافة إلى القتال في معارك مطاردات مع متمردين جيدي التسليح، أن يفتح المدارس ويجري الانتخابات ويصلح البنية التحتية، باختصار، أن يكسب معركة القلوب والعقول بنشر السلطة الحيوية عوضًا عن سلطة السلاح.

يشرح هاردت ونيجري: «الحرب التي تسعى فقط لتدمير العدو غير قادرة اليومَ على دعم شكل جديد للحكم. يجب ألا تدمر الحياة فحسب لكن أن تخلقها أيضًا». مع ذلك، فكل موقع جديد تستوطنه السلطة الحيوية يوفر جبهة إضافية للنضال ضد المستعمر: يمكن قصف المدارس، وتهديد العاملين في الانتخابات، وكل يوم، حيثما يتم اعتراض توصيل الكهرباء والمياه النظيفة، تتعطل ‹الحياة الطبيعية› ويتنامى الحنق ضد هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم مسئولية الحكم.

في هذا الموقف، ينتفي تفوق أمريكا العسكري ويتضح أن موقفها أشد هشاشة وضعفًا من أيّ وقت مضى. في النهاية، سيتم الوصول إلى نقطة حاسمة وسيتحقق النصر الذي وعدت به الإدارة الحالية، لكن لن يكون نصرهم كي يحتفلوا به. والاحتمال الأكبر، أن يكون الحدث التأسيسي لديمقراطية عراقية هو طرد محتليهم الذين، وهم لم يخسروا معركة أبدًا، يجب أن يتنازلوا عن الحرب.


السلطة الحيوية

بإمكاننا العودة إلى كتاب الجمهور من أجل وضع هذه النقطة الحاسمة في السياق. ليست الحرب على العراق سوى مثال للصراع العالمي بين الإمبراطورية والجمهور أو، بتحديد أكبر، بين السلطة الحيوية للأولى والإنتاج السياسي-الحيوي للأخير.

يشرح المؤلِّفان: «تقف السلطة الحيوية فوق المجتمع، متجاوزة كسلطة سيادية، وتفرض نظامها. أما الإنتاج السياسي-الحيوي فهو في المقابل، ملازم للمجتمع ويخلق علاقاتٍ وأنماطًا اجتماعيةً عبر أشكال تعاضدية من العمل».

بينما للوهلة الأولى قد يبدو من المثير مناقشة تمرد مسلح من ناحية الطبيعة التعاضدية، إلا أن ما يهم هنا هو شكل المنظمة، عوضًا عن محتواها (الشكل، كما سنرى فيما يلي، هو المحتوي). إن التهديد المتغلغل للتمرد، على سبيل المثال، مناظرٌ لإنتاج الجمهور السياسي-الحيوي: يستمد كلٌ منهما قوته لا من القوة الفعلية المتاحة له لكن من الاحتمالية التي يجسدها. إنهما، بكلمات أخرى، تهديد محتمل للإمبراطورية يمكن تهدئته فقط عبر أشكال من المراقبة والتحكم تتزايد حدّتها وتدخلّها وكلفتها، وفي النهاية عدم فعّاليتها.

ستبرهن الإمبراطورية في النهاية على أنها منهزمة ذاتيًا حينما لا تنجح محاولاتها لكبح جماح الجمهور سوى في مفاقمة أزمات التطور الرأسمالي، وبالتالي تعجّل من ظهور الذات الثورية على مسرح العالم. هذا هو، في النهاية، كلاً من وعدِ ومشروعِ الجمهور.


نقد مشروع «الجمهور»

بعد مناقشتهما للحرب، يستخدم هاردت ونيجري الجزء الأخير من الكتاب لتوضيح نظريتهما عن الجمهور أكثر، ولو بنتائج متباينة. المشكلة الأساسية هي أنهما لا يبذلان جهدًا كبيرًا للرد على انتقادات المفهوم التي أبداها نقّاد كتاب الإمبراطورية في البداية. (انظر: بانيتش، جيندين، بول، لاكلو من أجل أمثلة توضيحية)[9].

أكثر ما جذب اهتمام النقّاد هو زعم المؤلِّفين أن الإمبراطورية هي مرحلة من مراحل التطور الرأسمالي، حيث يتجاوز رأس المال خارجه، وتنتهي ممارسة القوة من أعلى (القوة السيادية) بما أنها الآن داخلة بالكامل في العملية نفسها (قوة جوهرية).

رغم ذلك، يظلون غير مقتنعين بالاستنتاجات التي استخرجها هاردت ونيجري من هذا، ومن بين أشد الأفكار إثارة للجدل فكرة أن حقبة التمثيل السياسي قد انتهت. يجادل هاردت ونيجري بأن التمثيل السياسي الحديث مناهض للديمقراطية بطبيعته لأنه يتخلى عن تعددية وتباين الجمهور لصالح تعبير موحَّد ومتجاوز عن الإرادة السياسية (أي الشعب). التمثيل، كما يعرضان، هو مركب انفصالي «لكونه في الوقت نفسه يصل ويقطع، يربط ويفصل». أما الجمهور، ففي المقابل، هو ديمقراطية متحققة لأنه يستبدل استبداد الأغلبية بالحكم التوافقي للجميع من قبل الجميع.

يتساءل المتشككون عما ستبدو عليه سياسة للجمهور وقت الممارسة. هناك أيضًا مشكلة طرح الجيد مع الخبيث. بما أن المؤسسات الديمقراطية نفسها لا تنفصم عن السياسات التمثيلة (كـ البرلمان)، تبدو ديمقراطية الجمهور مناهضة للنظام المؤسساتي بشكل خطير. بغير أيّة آليّات مميَزة للتعبير عن الرغبات المتباينة للجمهور، كيف نعرف ماهية هذه الرغبات؟

يقرّ هاردت ونيجري بالسؤال، وفي الوقت نفسه يحيدان عنه. فمن ناحية، يعترفان أن ما «ينبغي فهمه، وهذه هي النقطة المركزية حقًا، هو كيف يستطيع الجمهور التوصل إلى قرار». ومن الناحية الأخرى، يقولان أن القلق بشأن كيفية توصل الجمهور إلى قرار هو إلى حد ما خارج عن الموضوع، لأن الجمهور هو القرار. إن الجمهور هو أنطولوجيا سياسية أكثر منه أحد رموز النظرية السياسية؛ وجوده ذاته سيبدّل السياسة تمامًا.

هذا التأكيد قائم على مسار من الحتمية-التقنية يجري خلال الجمهور. يشير هاردت ونيجري أنه بحلول العولمة، يتزايد تحول التوسع الرأسمالي إلى استعمار الدول بدلًا عن أن يكون اختراقًا ماديًا لأسواق جديدة. بكلمات أخرى، تتحرك الحدود إلى الداخل. إن القوة الإنتاجية الرئيسية التي سمحت لرأس المال بتجاوز خارجه هي طبيعته التي تتزايد شبكاتها:

اليوم، نرى شبكات في كل مكان ننظر إليه. ليس هذا لأن الشبكات لم توجد حولنا من قبل، ولا لأن تركيب الدماغ قد تغير. إنما يرجع هذا لكون الشبكة قد أصبحت نمطًا شائعًا يميل لأن يحدد طرق فهمنا للعالم وتعاملنا فيه. ما يهم أكثر، من منظورنا، هو أن الشبكات تمثل الشكل التنظيمي للعلاقات التعاونية والتواصلية التي يمليها النموذج غير المادي من الإنتاج.

حينئذٍ لا يعود التواصل تابعًا للإنتاج لكن قوة إنتاجية في ذاته. أصرّ المدافعون عما يُسمى الاقتصاد الجديد على أن الاستحداثات في تكنولوجيا الاتصالات ستستدعي ثورة في الإنتاجية. بشّر هاردت ونيجري بثورة من نوع آخر، لكن ترتكز بالقدر نفسه على وعد التكنولوجيا. عوضًا عن وضع نهاية لدورة العمل، يقترحان أن نموذج الشبكة الناشئ سيغير جذريًا المنظومة الاجتماعية عبر تأسيس «المشاع The Common».

ربما يكون المشاع هو أشد العناصر إثارة للاهتمام في كتاب الجمهور. بتفريقه عن «المشاعات» -مساحات مشتركة ما قبل رأسمالية ألغيت بمجيء الملكية الخاصة- هو يؤكد على الطبيعة التعاضدية للإنتاج السياسي-الحيوي المعاصر. الحياة الاجتماعية، بكلمات أخرى، لا تُنتج فقط بالتشارك، لكن أيضًا تُنتج بداخل المشاعي. إن خلق المشاعي ينقض المنطق الرأسمالي المتعلق بالملكية الخاصة (أي التراكم البدائي) وهو، في الواقع، يخلق طبيعة ثانية.

علاوة على ذلك، إن الجمهور هو الذات الاجتماعية الجديدة الحالّة بالكامل بداخل -أو المولودة بداخل- هذه الطبيعة الثانية. كما يقترح المؤلِّفان، «إن تعزيز المشاع، في النهاية، يتمخض عن تحوّل أنثروبولوجي. كأنه من بين النضالات، تخرج إنسانية جديدة»، كوننا في هذه المرحلة الآن، أو هل سنكون أبدًا، هو أمر قابل للنقاش. ومع ذلك، فإن دلائل وجود المشاع في كل مكان. التحديات المطروحة أمام الملكية الخاصة من قبل الإنترنت والنشاطات المتعلقة به (أي، مشاركة الملفات على الشبكات اللامركزية) ليست سوى غيض من فيض.

في النهاية، رغم ذلك، إن المشكلة -توجد في كتاب الإمبراطورية أيضًا- هي أن المؤلِّفان يميلان لوضع قدر كبير من الإيمان في حكايتهما. كون الجمهور ملازم لرأس المال المُعولَم هو أمر لا ريب فيه؛ أما كونه وشيك الحدوث، فهو أمر يحمل تأكيدًا أقل. كما يشير إرنستو لاكلو: «ليست القدرة والإرادة على المقاومة هدية من السماء، لكنهما تتطلبان مجموعة من التحولات الذاتية التي ما هي إلا منتج للنضالات نفسها وقد تفشل في الحدوث»[10].


[1] Hardt, Michael and Antonio Negri. Empire. Cambridge: Harvard UP, 2000.

[2] Szeman, Imre. “Plundering the Empire: Globalization, Mediation and Cultural Studies.” Rethinking Marxism. Volume 13, Number 3/4 (Fall/Winter 2001): 173-189.

[3] Ferguson, Niall. The Cash Nexus: Money and Power in the Modern World 1700-2000. New York: Basic Books, 2001.

[4] Anonymous (Michael Scheuer). Imperial Hubris: Why the West is Losing the War on Terror. New York: Potomac, 2004.

[5] Mertes, Tom, ed. A Movement of Movements: Is Another World Really Possible? New York: Verso 2004.

[6] Dumm, Thomas L. “The Theory & Event Interview: Sovereignty, Multitudes, Absolute Democracy” in Empire’s New Clothes: Reading Hardt and Negri. Eds. Paul A. Passavant and Jodi Dean. New York: Routledge, 2004. 163-174.

[7] Passavant, Paul A. “Introduction: Postmodern Republicanism” in Empire’s New Clothes: Reading Hardt and Negri. Eds. Paul A. Passavant and Jodi Dean. New York: Routledge, 2004. 1-20.

[8] Langewiesche, William. “Letter from Baghdad” in The Atlantic January/February 2005: 93-98.

[9] Panitch, Leo and Sam Gindin. “Gems and Baubles in Empire” in Debating Empire. Ed. Gopal Balakrishnan. New York: Verso, 2003. 52-60. Bull, Malcom. “You Can’t Build a New Society with a Stanley Knife” in Debating Empire. Ed. Gopal Balakrishnan. New York: Verso, 2003. 83-96.

[10] Laclau, Ernesto. “Can Immanence Explain Social Struggles?” in Empire’s New Clothes: Reading Hardt and Negri. Eds. Paul A. Passavant and Jodi Dean. New York: Routledge, 2004. 21-30.