نتيجة للتطورات والتغيرات الكبيرة التي طرأت على كرة القدم عبر التاريخ، أصبح للعبة نفس تجاري يفوق تلك الروح الرياضية التي يحدثوننا عنها دائمًا. هذا النفس التجاري حوّل اللعبة إلى منجم لاستخراج الأموال وجذب إليها المستثمرين من كافة أنحاء العالم. فاللعبة تحولت في القرن الحالي إلى صناعة مربحة جدًا تدر ملايين الدولارات على جميع العاملين والفاعلين فيها، وأصبح للعوائد التجارية أثر بالغ في تقييم النجاحات السنوية دونًا عن الإنجازات الرياضية والألقاب.

لم تكن كرة القدم فيما سبق مسرحًا للمستثمرين أو لاستعراض الغناء الفاحش كما نرى الآن، فالجميع أسموها سابقًا بلعبة الفقراء؛ بسبب قدرة الجميع على لعبها ومتابعتها. لكن الأمر قد تحول إلى النقيض مع بداية ظهور حقوق البث الحصرية، وشركات الرعاية والاشتراكات التلفزيونية. كانت اللعبة تلعب لمجرد المتعة، أما الآن بات جزء منها مخصصًا لاستعراض سيارات اللاعبين عند وصولهم للتدريبات، وقصات شعرهم العصرية مع بداية كل أسبوع، ونمط حياتهم الفارهة في منازلهم الفخمة.

ومع اقتراب افتتاح بورصة الانتقالات بين الأندية الكروية، تبدأ التكهنات والشائعات عن انتقال اللاعب X إلى النادي Y، وفي الآونة نفسها تزداد الأخبار عن الصفقة المحتملة واحتمال كسرها للأرقام القياسية، سواء من حيث قيمة الصفقة المتوقعة أو الراتب المحتمل الذي يرصده النادي لإغراء اللاعب.

مرة بعد أخرى، يمكن للمتابع المهتم باللعبة أن يكتشف أن الصفقة ستكسر الرقم القياسي بسبب الضخ الإعلامي والاهتمام المتكرر مع كل تغريدة أو نشرة رياضية جديدة. بطبيعة الأمر لا يستدعي هذا الأمر معرفة واسعة واطلاعًا كبيرًا على خفايا اللعبة، وذلك بسبب معرفة الجميع بأن الأرقام تزداد مع كل موسم جديد، وتُصرَف بلا وجود أي سقف محدد للإنفاق والراوتب مِن قبل مَن يسنون قوانين اللعبة. لكن كيف بدأ هذا المنجم بالاتساع؟ وهل يستحق اللاعبون تلك الملايين التي يتقاضونها؟


الراتب الفضيحة

لم تكن بدايات كرة القدم كذلك بكل تأكيد، فاللعبة لم تكن تندرج تحت أطر محددة. كانت القوانين أسهل نسبيًا وتكاد تكون حرة أو متغيرة بين دولة وأخرى. كان الدافع الأول وراء ممارستها هو تحقيق الفوز وجلب المتعة فقط، لكن الاهتمام الكبير بالقوانين التنظيمية للعبة شهد ولادة الاتحاد الإنجليزي عام 1863، والذي أتى بمجموعة تنظيمية من القوانين، لم تضم بين طياتها قسمًا خاصًا بالشئون المالية.

تغير هذا الحال عندما كسر نادي «داروين لانكشير» القانون و بدأ بدفع الأموال لمكافئة الأسكتلندي «فيرجي سوتير»، وكان الأمر بمثابة الفضيحة التي هزت الكيان الكروي في بريطانيا.

الأسكتلندي فيرجي سوتر- لاعب نادي داروين لانكشاير

وهذا ما أدى لاحقًا إلى وضع قانون الاحتراف في عام 1885، وتلاه لاحقًا في عام 1904 وضع قيود محددة للرواتب كان سقفها الأعلى 4 جنيه إسترليني أسبوعيًا. أدرك الاتحاد الإنجليزي حينها بأن الإهتمام باللعبة يكبر ويزداد، ويجب أن يتحرك لحمايتها بعد جذبها لاهتمام شريحة واسعة من الأشخاص، وتوجب على المسئولين عن كرة القدم حمايتها خوفًا من أن تفقد الهدف الأساسي لها «المتعة والفوز».


الظروف تحكمك لا العكس

بطبيعة الحال، جميع هذه التغيرات كانت جزءًا من مرحلة التطور الطبيعي لكرة القدم. مزيد من الحرص على متابعتها ومزيد من التأثير على الناس، وهناك من يسعى للاستفادة من هذا الزخم المتزايد دائمًا. لم يكن باستطاعة أحد الوقوف في وجه هذه العجلة التي تدور؛ بسبب تزايد الاهتمام الكبير باللعبة وبث مبارياتها مباشرة عبر أثير هيئة الإذاعة البريطانية عام 1927، وارتفاع أسعار تذاكر حضور المباريات، وأسعار الانتقالات التي كسرت حاجز الـ 10,000باوندعندما انتقل المهاجم «دافيد جاك» من بولتون إلى أرسنال عام 1928.

ارتفاع أجور ورواتب اللاعبين كان نتيجة حتمية لهذه المؤشرات، فاللعبة بحد ذاتها لن تكون ممتعة لولا وجود اللاعبين المهاريين والموهوبين. وبحسب رابطة اللاعبين المحترفين الإنجليزية كان اللاعب يتقاضى سنويًا مع مكافآته ما يقارب 1677 باوند عام 1957، إلى أن وصل الأمر بتوقيع «ليونيل ميسي» على عقده الجديد الشهر الماضي بمبلغ يفوق 40 مليون يورو سنويًا. لكن كيف تقبّل المجتمع الرياضي هذه الطفرات الكبيرة في رواتب اللاعبين؟


الرجل الذي غيّر خارطة اللعبة

لم يكن ميسي ورونالدو ومن سبقهما من اللاعبين ليصلوا إلى الأرقام الفلكية الحالية لولا القرار الذي اتخذه «جيمي هيل» رئيس رابطة اللاعبين المحترفين في إنجلترا. جيمي الذي كان لاعبًا عاديًا خلال مسيرته الكروية مع ناديي «برينتفورد وفولهام»، لكنه كان مميزًا إلى حد كبير بقراراته الإدارية التي غيرت من شكل اللعبة ووضعتها في مكانة مختلفة من حيث الوضع المالي والاقتصادي.

جيمي هيل – رئيس رابطة اللاعبين المحترفين

حارب جيمي بشدة من أجل تحسين أجور اللاعبين والتي كانت مقيدة بقانون وزارة العمل الذي وضع سقفًا محددًا للأجور حده الأقصى 20 باوند أسبوعيًا. هيل قاد حملة في عام 1961، وهدد بالإضراب ومقاطعة المباريات إن لم يتم إلغاء قانون سقف الأجور.

رئيس رابطة اللاعبين المحترفين حارب على جبهتين مختلفتين؛ جبهة الأندية الغنية التي كانت سعيدة بالقانون المعمول به وكان بمقدرتها التوقيع مع أي لاعب تريده من الأندية الفقيرة بإغرائه بالأموال، أما الجبهة الأخرى كانت وزارة العمل التي كانت تسعى للحفاظ على القانون. كان بالإمكان أن يصل هذا الإضراب باللعبة إلى طريق مسدود ومصير مجهول، لكن نجح هيل في مسعاه بعد إقناعه لمسئولي الاتحاد الإنجليزي والأندية الكبرى ومجلس البرلمان الذي وافق على إلغاء قانون الحد الأقصى للأجور. جيمي نجح في ذلك اليوم بتغيير شكل وهيكلية كرة القدم إلى الأبد.


عصر جديد

مع إلغاء قانون سقف الرواتب، أصبح اللاعب هو صاحب القرار الأخير في قبول العروض المتاحة له أو رفضها. للمرة الأولى منذ مدة طويلة، كان هناك حرية في طلب الراتب الذي يناسب اللاعب، وبالطبع كل بحسب مهارته وأهميته.

الممثل الكوميدي المشهور «تومي تريندر» والذي كان رئيسًا لنادي فولهام، وكعادة أي شخصية إنجليزية، كان لا يفوّت أي فرصة للتسويق لنفسه كنوع من الدعاية الشخصية. تومي كان له ما أراد بكل تأكيد بعد صدور قرار الإلغاء. تريندر وضع اسمه كـ«تريند» على الصفحات الأولى للصحف ونشرات الأخبار بعد دفعه راتبًا أسبوعيًا لنجم الفريق «جوني هاينس» وصل إلى 100 جنيه في الأسبوع.

من الصعب علينا إدراك موهبة «هاينس» –والذي كان زميل جيمي هيل في الفريق- مقارنة بأبناء جيله كي يستحق الـ100 باوند أسبوعيًا، ويُقال بأنه كان يفوق راتب وزير العمل الذي وافق على إلغاء القانون.

قُبيل تعديل القانون حاول نادي «إي سي ميلان» الإيطالي التوقيع مع هاينس، لكنه فضل البقاء في بلاده بجانب عائلته وأصدقائه. تريندر قال له حينها إنه يستحق أكثر من 20 باوند التي كان يتقاضاها أسبوعيًا، ولو كان الأمر بيده لمنحه الـ100 برحابة صدر. ربما تورط «تومي تريندر» بعد هذا التصريح وإلغاء قانون سقف رواتب اللاعبين، لكن هاينس كان يستحق تلك الباوندات بسبب تميزه عن زملائه.


العجلة التي تستمر بالدوران

كما هاينس، هناك قلة قليلة من اللاعبين المميزين الذين يتقاضون أجورًا مرتفعة مقارنة بالآخرين، ويستحقون أن تُدفع بحقهم الأموال الطائلة من أجل استقطابهم. فبعد إلغاء القانون كان من الطبيعي أن عجلة الأموال ستدور بشكل أسرع بسبب زيادة رواتب اللاعبين، وستتأثر سوق الانتقالات بشكل طردي.

عام واحد فقط كان كافيًا كي يكسر مانشستر يونايتد الرقم القياسي من خلال توقيعه مع النجم الأسكتلندي «دينيس لو» والذي كان لاعبًا لنادي تورينو حينها. يونايتد دفع مبلغًا وصل عدد أرقامه إلى 6 خانات للمرة الأولى في تاريخ إنجلترا، 110.000 ألف باوند ستعطي دفعة كبيرة لعجلة الأموال من ناحية الرواتب ورسوم الانتقالات.

استمرت الأسعار والأجور بالارتفاع بشكل تدريجي. «تريفور فرانسيس» كسر الأرقام بحصوله على أعلى أجر في إنجلترا، وأعلى قيمة انتقال عام 1979 بعد انضمامه إلى نوتنجهام فورست بمبلغ مليون باوند، وأجر يصل إلى 1200 باوند أسبوعيًا. تلاه «بول جاسكوين» عندما وقع لتوتنهام بـ 2 مليون باوند عام 1988. لكن العديد من التطورات التي حدثت بعد ذلك سرعت من عملية مضاعفة الأرقام. القفزات المهولة كانت تأخذ فترة تمتد إلى عقد من الزمن، لكن ما حصل سهل تقبل فكرة دفع عشرات الملايين من أجل التوقيع مع أحدهم.


فيضان من الأموال

مع دخول الدوري الإنجليزي عصره الجديد عام 1992 تحت مسمى الدوري الممتاز، عمَّ الازدهار المالي على جميع الخزائن المالية للأندية الإنجليزية، ما أدى إلى حصول ارتفاع غير مسبوق في رؤوس أموال الأندية. صفقات رعاية جديدة، إيرادات تلفزيونية كبيرة، وأموال ستدفع في النهاية على من سيجعلون كرة القدم أجمل، فبدونهم لا يوجد للمتعة مكان في اللعبة.

«كريس هوتون» حصل على راتب قياسي مقداره 10.000 باوند بعد انتقال إلى بلاكبيرن عام 1994. سرعان ما تم تخطيه بعد عام عندما وقع أرسنال مع «دينيس بيركامب» ومنحه 25.000 ألف باوند أسبوعيًا. وصولًا إلى «روي كين» وحصوله على 52.000 باوند عام 2000 عندما جدد عقده مع المان يونايتد.

الإيرادات التلفزيونية وحقوق البث منذ بداية الدوري الإنجليزي الممتاز، المصدر: www.bbc.com

حدود الأجور ارتفعت إلى أرقام لم نكن نعتقد بأن اللعبة بإمكانها تغطيتها. فالقدرة الشرائية للأندية قد كبرت وأصبحت التنافسية بين الأندية عالية جدًا. وعلاوة على ذلك فإن حقوق النقل التلفزيوني تضاعفت مرات عديدة منذ بداية الألفية. كل هذه النجاحات المالية دفعت رجال الأعمال الأغنياء إلى الإستثمار في أفضل بيئة ممكنة. مزيج من الربح والشهرة الإعلامية، أو بهدف تحقيق أهداف معينة عن طريق استغلال النجاحات الرياضية.

زيادة الأجور والنفقات ترتبت على جميع عناصر هذه الدورة، بداية من المشجعين الذين يدفعون أسعار التذاكر المرتفعة، مرورًا بالصحفيين والإعلاميين الذين يحللون المباريات في أستديوهات الدوريات، وانتهاء باللاعبين والمدربين مهما اختلفت موهبتهم أو أهميتهم؛ لذا فإن الفائدة عمت على الجميع من وراء هؤلاء اللاعبين الذين يلعبون كرة القدم، فلمَ ينتقدهم الناس دائمًا على ما يحصلون عليه من أموال؟