إذا كنتِ لا تعملين، أو كنتِ قد تركتِ عملكِ مؤقتًا أو بشكلٍ دائم، فلا تكوني عاطلة. هذه المقالة لا تهدف للتنظير وإسداء النصح، وإنما هي مشاركة لبعض الأفكار، ربما تضيف إلى أفكاركِ نافعًا، وتفتح نوافذ تطّلين منها على العالم بنظرةٍ مختلفة.

إن العمل أو الشُّغل كما نسميه، لا يقابله البقاء في المنزل، وإنما يقابله الفراغ والعطالة. اختيار البقاء في المنزل ليس داعيًا بالضرورة لترك العمل أو الانشغال بشيء ما. وإذا كنتِ زوجةً أو أمًّا، فأنا لا أعني الانشغال بواجبات المنزل ورعاية الأطفال وحسب – دون التقليل منهما – وإنما أعني هذا الشيء الإضافي المثمر، الذي يكسر الروتين ويملأ الفراغ، ويضيف لونًا زاهيًا يجعلكِ تستمتعين بحياتك.

إليكِ طرفًا من تجربتي، بعد مرحلة البكالوريوس واصلت دراستي للحصول على درجة الماجيستير بالتوازي مع العمل، الذي انتقلت فيه بين 3 أماكن على مدى 6 سنوات متصلة، ثم قررت أن أترك هذه الالتزامات الخارجية حتى أتفرغ لصغيرتي.

سأتوقف هنا ثم أستطرد لاحقًا، التفرغ لرعاية الطفل هل هو حقًا تفرغ؟ أم هو اسمٌ لغير مسمى نطلقه على انشغالٍ حقيقي؟ شغلتني الصغيرة وشغلت وقتي وجهدي، ووصل بي الشغل درجاتٍ لم أقاربها حتى يومًا. مرت الأيام والصغيرة تكبر وانشغالي برعايتها يبدأ يستقر عند قدرٍ معقولٍ من الجهد، وأتفرغ رويدًا رويدًا مما كان يفوق طاقتي أول الأمر. وتمر الأيام أكثر والصغيرة تصير أكبر، ويعود إليَّ شيءٌ من حضور ذهني وتركيزي، ليس على الحال التي تسمح لي بالعودة إلى العمل، لكن على حالٍ تسمح بعملٍ ما، وإلا فسيبقى فراغًا وتبديدًا لموارد حقها الاستغلال وتقديم ما ينفع.

خشيتُ على عقلي أن يتبلّد إذا أنا أهملته، وعلى فكري أن يتجمّد إذا أنا أغفلته، ثم أنحسر راجعةً خلف قضبان السطحية والتفاهة إذا أنا أسلمتُ نفسي للفراغ. وهنا مربط الفرس. في حياة العمل الأيامُ تلاحق الأيام، والشهور تطويها الشهور، وتضيع فيما بينها أحلامٌ مؤجلة وأفكار لا ترى النور لضيق الوقت وانشغال الذهن. متى نلتقط أنفاسنا ونتوقف عن ملاحقة ظلالنا؟ متى نعيد الحسابات ونلقي نظرة أخرى أوسع على حيواتنا، ونعيد ترتيب أولوياتنا؟ في تلك اللحظة التي ينبثق فيها فراغٌ ولو صغير، علينا إذن أن نقلب في دفاترنا القديمة، باحثين عن حلمٍ رسمناه وتأجل تحقيقه، أو تحدٍ عجزنا عن مواجهته وحكمنا على أنفسنا أننا لم نكن قادرين على مجابهته، في حين أننا كنا مكبلين.

أنا أحب عملي الذي لا يمت لشهادتي الجامعية بصلة، لكن كأي عمل توجد الضغوط والمنغصات، كنت أستمتع به أحيانًا وأضيق به ذرعًا أحيانًا أخرى أكثر. «Do what you love»، ليس بالضرورة أن نعمل ما نحب تكسبًا للعيش، ليس بالضرورة أن نترجمها: «اعمل ما تحب»؛ هي ببساطة: «افعل ما تحب». فقط، افعل ما تحب. تذكرت ما قالته لي زميلتي في العمل منذ سنوات، ذكرت لي أن بعض الجهات تحتاج متطوعين من مجالنا عبر الإنترنت. سأفعل ما أحب إذن وقتما أحب وكيفما أحب دون ضغطٍ أو تنغيص.

لا يوجد أي شيء يعيقكِ عن فعل ما تحبين. فكري واسألي وابحثي واطرقي الأبواب، وحتمًا سيُفتح لكِ أحدها. سنتعلم خصال السعي والصبر، وسنكافأ بمفاجآت الطريق.

مفكرةُ العام الجديد بتصميماتها الجذابة وألوانها البهية، كانت بالنسبة لي مصدر إلهام أيضًا. أنا لم أكن يومًا متفوقةً بمادة الرسم أو محبةً لها، هكذا: أنا لا أعرف الرسم، أنا لا أحب الرسم. وفوق ذلك، عندما كنت أنجح في بعض الرسومات، كنت أفسدها بالتلوين. والحقيقة أن أحدًا لم يعلمني الرسم يومًا ولا أصول تنسيق الألوان. تأتيني مفكرتي الجديدة وعلى رأس كل شهرٍ رسمٌ للتلوين، أنا لا أحب التلوين، هل أنتِ حقًا لا تحبين التلوين؟ حسنًا، أنا لا أُحسن التلوين؟ لماذا لا تُحسنينه؟ لماذا لا تجربين؟ سأجرب، وسأحاول أن أهتدي بتلوينات الآخرين. ربما يكون التلوين لا يعني لي شيئًا، لكن كسر الحواجز والتحدي يعني الكثير. فتشي عن حواجزك، ولكن ترفقي وخذي بالأسباب السليمة حتى لا تكون النتائج عكسية.

«الإيمانُ، إذا لم يكن في زيادة فهو في نقصان»، هكذا هي بعض الأمور، مثل النبتة، علينا أن نتعهدها بالرواء وإلا فستذبل منا وتموت. ونواميس الله في الكون نافذةٌ فينا، فالزمن يمر ويتقدم، وإن لم نتقدم نحن، فسنكون إذن في تأخر. لدى كل منا مهارات وقدرات هو بارع فيها، لكن عند أي مستوى توقفنا، يمكننا أن نطور من أنفسنا ومن مهاراتنا وقدراتنا، بالتعلم والقراءة والتدرب، سواء في مراكز تدريب أو على الإنترنت أو بمشاركة الأصدقاء.

لا تتوقفي عند إنجازكِ السابق. وقوفكِ يعني تخلفكِ عن ركب الزمن. لا تدعي عقارب الساعة تدور إلا وأنتِ غدًا غير أنتِ اليوم غير أنتِ الأمس. أنتِ في كل مرحلة: الإصدارُ الجديدُ منكِ.

الأمومة من بين أسمى الرسالات الإنسانية إن لم تكن أسماها على الإطلاق، رسالةٌ صعبة لا يأتي فيها السرور إلا مع الألم. دائمًا ستحتل واجباتنا كأمهات المرتبة الأولى من أولوياتنا، وتأتي بعدها قائمة الواجبات والمسئوليات الأخرى، إلا أننا بين هذه وتلك علينا ألا نغفل واجباتنا تجاه أنفسنا، حقنا على أنفسنا، أنفسنا التي سيسألنا الله عنها أيضًا. فضلًا، لا تهملي نفسك ولا تعتبري حقكِ زائدًا عليكِ.

سأجمع ما نثرتُه من أفكار في هذه الفقرة: الفراغُ والعَطَلُ قاتلان، يصيبان الروحَ بالعَطَب. حافظي على حيويتك ونضارة قلبك وعقلك بالشغل والعمل. إذا كنتِ مشغولةً بما يكفي فهذا جيد، أما إذا طرأ لكِ فراغٌ عقلي أو وقتي فلا تترددي في استثماره. افعلي ما تحبين، ليس بالضرورة أن يكون عملًا مختلفًا أو جذابًا؛ فلربما يكون شغفك هو الإبداع في مطبخك أو ابتكار ألعاب مع أطفالك، ما يهم هو أن تشغلي وقتك وتضفي لونًا لحياتك، أو ضعي لنفسكِ هدفًا لتصلي إليه، أو تحديًا لتتجاوزيه، وابني لبناتٍ جديدة لثقتك في نفسك، أو نمِّي مهاراتك لتكوني دائمًا النسخة المطورة من نفسك المواكبة لزمانها، فعدّاد العمر لا يتوقف. إن عائد ذلك كله لن يكون عليكِ فقط، بل سيعود عليكِ وعلى أسرتك وبيتك وأطفالك بالنفع، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

سواء كانت الأحلامُ مؤجلةً، أو كانت أحلامًا جديدة، علِّقي قلبكِ بباب السماء. اللهُ كريم، سيلهمكِ ويرزقكِ من حيث لا تحتسبين. إذا سألتني عن أقدم أحلامي المؤجلة؛ فسأخبركِ أن أصبح كاتبة!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.