على وقع التغيرات الإقليمية والتجاذبات العربية ضُبط إيقاع العلاقات بين مصر وحماس، فبدأت الأولى بمحاولات جادة لترميم العلاقة، وساعدها في ذلك -وفق مراقبين- وثيقة حماس التي أعلنتها مطلع مايو/أيار 2017، وأكدت فيها عدم ارتباطها بالإخوان المسلمين، إذ قدمت نفسها للعالم كحركة تحرر وطني لا علاقة لها بالإرهاب، وفي الوقت نفسه حافظت على مبدئها بمعاداة الصهيونية ومفرزاتها، بالإضافة إلى مساهمتها الحثيثة في حفظ الحدود، وأخيرًا تقديمها التنازل الأكبر بملف المصالحة بحل اللجنة الإدارية التي تترأسها حكومتها في غزة، والاستعداد لتسليم دفة القيادة لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية «محمود عباس».

ومثلت الزيارة الأخيرة لوفد حماس في القاهرة، الذي وُصف بالنوعي كمًا وكيفًا، منعطفًا مهمًا في العلاقات بين الطرفين شابها التوتر، غير أن اعتبارات موضوعية لدى الطرفين أملَت عليهما الجلوس إلى طاولة التباحث، «إضاءات» تُجيب في سياق السطور التالية على بعض التساؤلات فيما يتعلق بانفتاح مصر على الحركة وانعكاس ذلك على مستقبل العلاقات السياسية بينهما، وكيف يُمكن أن يؤثر على علاقات حماس مع الداخل الفلسطيني المُصاب بالانقسام، وكذلك على علاقاتها مع دول المحاور الإقليمية المهتمة بالقضية الفلسطينية، أمثال إيران وتركيا وقطر.


سجل طويل من العلاقات المتأرجحة

عند الحديث عن العلاقات المصرية الفلسطينية لا يُمكن تجاهل السياق الجغرافي والبعد التاريخي بين البلدين، ووفقًا لحدود الجغرافيا فإن الحدود الشرقية تربطهما، إذ تبدأ من رأس طابا على خليج العقبة حتى الساحل المتوسطي لمسافة 210 كم، وقد تم تعيين خط الحدود بين البلدين بموجب الاتفاقية المبرمة في أول تشرين الأول/أكتوبر 1906 بين مندوبي الدولة العثمانية والخديوية المصرية، وشكَّل الخط الحدودي آنذاك حدًا إداريًا بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس من جهة، وبين شبه جزيرة سيناء من جهة ثانية، واعترفت به بريطانيا كحد سياسي بين فلسطين المحتلة ومصر منذ أوائل الاحتلال البريطاني.

وفي منتصف القرن الماضي تعززت هذه الروابط الجغرافية بأُخرى تاريخية، إذ مارست مصر منذ إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945 دورًا مهمًا في الشأن الفلسطيني قامت على إثره بتولي قيادة الجيوش العربية في المعارك التي دارت آنذاك مع الاحتلال الإسرائيلي، ودعمت إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية واعترفت بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، لكن هذا الدور ما لبث أن تراجع في العام 1978 بعد توقيع اتفاقيات «كامب ديفيد» مع الاحتلال الإسرائيلي، فشاب الدور المصري في القضية الفلسطينية الكثير من التراجع خاصة في السنوات الأخيرة، إذ لم تتمكن مصر من استثمار دورها في ممارسة ضغوط على الاحتلال، تتمكن عبرها من انتزاع حقوق الشعب الفلسطيني، غير أنها وعلى الرغم من ذلك بقيت مُحافظة على «شعرة مُعاوية» مع الأطياف الفلسطينية جميعها حتى بدت مُؤخرًا تُسخر قدراتها للإمساك بخيوط وتشابكات الوضع الفلسطيني، ما أفضى إلى عقدها تفاهمات مع «حماس»، الفصيل الذي اعتبرته الخصم الأبرز لمصالحها في القطاع منذ فوز الأخيرة في الانتخابات التشريعية في عام 2006، وسيطرتها على دفة الحكم في قطاع غزة بقوة السلاح خلال أحداث يونيو 2007 التي عُرفت بـ«الانقلاب» أو «الحسم».


بداية أزمة العلاقات بين مصر وحماس

رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة «تسيبي ليفني»

بعد انفلات زمام الحكم من السلطة الوطنية الفلسطينية التي رفضت نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2006، واعتلاء «حماس» التي أتى بها صندوق الاقتراع أولًا إلى الحكم ومن ثم انتزعته بقوة السلاح في 15 يونيو/حزيران 2007 ، سادت حالة من الفتور تطورت إلى حيز الأزمة في العلاقات بين مصر وحماس، فالأولى برزت كونها طرفًا أساسيًا في حصار غزة عبر إغلاقها معبر رفح، نافذة الحياة الوحيدة للفلسطينيين مع الخارج، ولم تسمح بخروج إلا بعض الحالات الإنسانية في فترات محدودة جدًا، وبحسب المُعايشة الميدانية لـ«مراسل إضاءات» فإن ما فاقم المُعاناة لدى الفلسطينيين في القطاع في تلك الآونة تزامن إغلاق معبر رفح على الحدود المصرية مع إغلاق جميع المعابر مع غزة، ما أدى إلى إطباق الخناق على سكانها وتأزيم حياتهم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى الصحية.

غير أن الصفعة الأكبر التي تلقاها الشعب الفلسطيني من مصر كانت بعد عام من «الحسم العسكري» الذي رفضته القيادة المصرية بزعامة الرئيس المخلوع «حسني مبارك»، فوفقًا لـ «تسيبي ليفني» رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك، فإن قرار الحرب على غزة نهاية عام 2008 ومطلع 2009 اتُخذ في القاهرة، وبحسب مراقبين، شكل هذا الإعلان ضربة قاسية لـ «حماس» لكنّها سرعان ما ذوبَت جليدها بعد خلع «مبارك» وتولي «محمد مرسي» ذي المرجعية الإسلامية الإخوانية الحكم فكانت فترة ولايته بمثابة العصر الذهبي للعلاقات بين مصر وحماس، غير أنها ما دامت إلا عامًا واحدًا.

وعادت العلاقات مُجددًا إلى حيز الأزمة بعد الإطاحة بـ «مرسى»، فاتهمت القيادة الجديدة في مصر حماس بالتدخل في شئون مصر الداخلية واتهمتها بدعم الإرهاب في سيناء واتُهم «مرسي» بالتخابر مع حماس، وأخيرًا صدرت أحكام قضائية مصرية تقضي باعتبار الجناح العسكري لحركة حماس «كتائب عز الدين القسّام» جماعة إرهابية، لكنها ما لبثت أن ألغت القرار في وقتٍ لاحق، وأبقت على الخطوات التصعيدية على الأرض، فبدأت بحملة واسعة لهدم الأنفاق التي تشعبت كثيرًا في عهد «مرسي» على الحدود الفاصلة بين مصر وفلسطين، كما دعمت حدودها بحشود كبيرة من قوات الجيش المصري، مما أحدث تخوفًا لدى المواطنين من احتمال مواجهة عسكرية بين مصر وحماس آنذاك، وأدى ذلك إلى تفاقم الحالة الإنسانية في قطاع غزة، وألحق ضررًا بالغًا بالأوضاع الاقتصادية، خاصة بعد إغلاق وهدم «الأنفاق» التي اعتمدها الفلسطينيون كمصدر وحيد للتجارة وكسب الرزق وتأمين احتياجاتهم الضرورية من الأغذية والمواد الأخرى التي مُنع دخولها إلى القطاع من معابر غزة التي يُسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي، وفي تأثير أعمق فقدت مصر دورها المركزي في الملف الفلسطيني لحساب دول أخرى، وتراجع دورها بشكل واضح في ملف المصالحة الفلسطينية الذي رعته منذ الانقسام بين فتح وحماس.


أسباب العودة المُفاجئة للعلاقات بين مصر وحماس

ثمّة مؤشرات تشي بأن مصر باتت تُدرك عدم إمكانية تجاوز «حماس» وضرورة العمل معها لحماية المصالح على المستوى الأمني والسياسي على المدى البعيد، فهي بتعاونها وإقامة تفاهمات معها تستطيع أن تأمن تعطيل الإرهاب في سيناء، تلك الخاصرة الضعيفة التي تُرهق مصر على المستوى العسكري والأمني، كما أنها تُساهم في تنميتها على المستوى الاقتصادي بفتح معبر رفح ويكون حلقة وصل تجارية بين غزة ومصر، لكن «حسام الدجني» أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة للتعليم المفتوح بغزة، يذهب إلى أبعد من ذلك في تقديراته لالتجاء مصر إلى التفاهم مع حماس مؤخرًا، وقال في سياق مقابلة مع «إضاءات» إن مصر تُريد من حماس أن تُؤدي لها دورًا تاريخيًا في إعاقة التمدد الإسرائيلي بالقرن الأفريقي وسد النهضة، وبمزيد من التفسير أوضح أن انفتاح القاهرة على «حماس» التي عرفّت نفسها في وثيقتها الأخيرة بأنها حركة مقاومة وتحرر وطني «جعل مصر تتعاطى معها كلواء متقدم للدفاع عن الأمن القومي العربي عمومًا والمصري على وجه الخصوص والضغط على دولة الاحتلال الاسرائيلي من تلك البوابة لضمان مصالحها بالقارة الأفريقية» كما قال.

وفي سببٍ آخر أكد «الدجني» أن مصر باتت تُدرك مؤخرًا أنه يتوجب عليها إعادة ملء الفراغ الذي أحدثته بانسحابها من الدور المركزي لتوجيه القضية الفلسطينية لحساب قطر وتركيا، وأشار إلى أن القطيعة الأخيرة التي أحدثتها الأزمة الخليجية ساهمت في أن تتمسك مصر أخيرًا بدورها التاريخي في رعاية واحتضان القضية الفلسطينية من جديد.

مصر ضرورة سياسية

وبحكم العلاقات السياسية التي تجمع بين مصر وفلسطين فإن «د. فايز أبو شمالة»، الكاتب والمحلل السياسي، يرى أن انفتاح حماس على القاهرة يعكس رغبتها في توسيع علاقاتها مع كل الأطراف العربية والإسلامية في المنطقة، وقال في سياق مقابلة مع «إضاءات»: «إن حماس لا تُريد أن تُفرط بصداقتها مع الأطراف العربية والإسلامية والإقليمية، وفي الوقت نفسه تحرص على تطوير علاقاتها مع مصر»، وفيما يتعلق بتجاوب القاهرة مع هذا الانجرار إليها أكد «أبو شمالة» أنّه يعكس رغبة مصر في التنافس على صداقة مع «حماس» وجذبها من المحور الإيراني، التركي، والقطري إليها، بالإضافة إلى كون «حماس» حركة مُقاومة ذات تأثير قوي على إسرائيل.

وقال: «إن ذلك يعكس الاهتمام العربي والإقليمي بحركات المقاومة باعتبارها الممثل الحقيقي للقضية الفلسطينية»، وتابع: إن مصر بتقربها من حماس وفتح الباب لتطوير العلاقات السياسية معها تُنافس وتُسابق على كسب ود المقاومة، مؤكدًا أن حماس لن تسمح بأن تُؤثر التفاهمات على روح المقاومة وامتدادها وترابطها مع الأطراف الإقليمية.

وفي ذات السياق يؤكد «د. عدنان أبو عامر» -رئيس قسم العلوم السياسية والإعلام في جامعة الأمة للتعليم المفتوح بغزة- لـ «إضاءات» أن العلاقات المصرية الفلسطينية شهدت في الآونة الأخيرة تطورًا نوعيًا، خاصة بعد زيارة وفد من «حماس» على مستوى القيادة العامة للحركة للقاهرة، وفي تفسيره لأسباب الزيارة أوضح أنه لا يبتعد عن رغبة مصر في استعادة دورها في الساحة الفلسطينية الذي تركته لعدة سنوات، سمحت خلاله بدخول عدة دول إقليمية في الفراغ الذي أحدثته منها قطر وتركيا وإيران، وقال في مقابلة مع «إضاءات»: «إن مصر ترغب في أن يكون لها دور موازٍ لقطر أو تركيا»، وأضاف أنها تجتهد الآن في استعادة دورها الإقليمي في الساحة الفلسطينية من خلال المصالحة الفلسطينية الداخلية بين حماس وفتح، أو تثبيت التهدئة بين حماس والاحتلال، وربما الذهاب إلى أن يكون لها دور وسيط في صفقة تبادل قادمة بين حماس وإسرائيل.

حل اللجنة الإدارية «عربون محبة» لمصر

وعلى الأرض بدت «حماس» أكثر التفافًا واستجابة للوساطة المصرية بإعلان حل اللجنة الإدارية مُحققة بذلك شرط الرئيس «عباس» لتحقيق المصالحة الفلسطينية، لكن ثمّة مؤشرات تشي بأن الخطوة ورغم ما تحمله من إيجابية فإنها لا تذهب بالكل الفلسطيني فورًا إلى إحقاق المصالحة بشكلٍ جاد، وفي تقدير «أبو عامر» فإن حل اللجنة الإدارية بمثابة «عربون محبّة» لمصر، خاصة أنّه كان بإمكان حماس حلها قبل السفر إلى القاهرة، غير أنها آثرت رغبتها الحثيثة في توثيق علاقاتها مع مصر التي تنظر إليها كـ «أنبوب أوكسجين» لإنعاش غزة، كما لا ينفي الكاتب والمحلل السياسي لـ «إضاءات» أن انزعاج فتح من التقارب المصري مع حماس عجّل من استجابة الأخيرة للقاهرة بحل اللجنة لتضع الرئيس «عبّاس» أمام تعهداته بوقف العقوبات ضد غزة.

وعلى النقيض كان رأي «حمزة أبو شنب» -الباحث في الشأن الفلسطيني- أن التفاهمات الأخيرة على الرغم من إيجابياتها على صعيد التأثير على الوضع الفلسطيني المأزوم في قطاع غزة، فإنها لن تصل إلى حد التفاهم الاستراتيجي وفقًا لحالة التباين التي يتبناها الطرفان في علاقتهما مع إسرائيل، وعملية التسوية السياسية الفلسطينية والتطبيع مع الاحتلال وكذلك الموقف من الإقليم، وقال لـ «إضاءات»: من المتوقع أن تحدث بعض الاختراقات في ملفات شائكة كالمصالحة وتخفيف الحصار مقابل حفظ الأمن على الحدود مع مصر من قبل «حماس» ليس أكثر.


السيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقة بين الطرفين

وفقًا لـ تسيبي ليفني رئيسة الوزراء آنذاك فإن قرار الحرب على غزة 2008 اتُخذ من القاهرة، بعد عامٍ واحد من الحسم العسكري
من اليمين: محمد بن زايد، يحيى السنوار، محمد دحلان، عبدالفتاح السيسي

على الرغم من انتهاء زيارة وفد «حماس» إلى القاهرة وما تمخض عن الزيارة من نتائج إيجابية أُعلن عنها ومن أهمها؛ إعلان حل اللجنة الإدارية التي أنشأتها حكومة «حماس» المسيطرة على القطاع وعودة ملف المصالحة إلى حيز الضوء والاتفاق على المُضي قدمًا به بعدة خطوات عملية على الأرض، فإنّ مستقبل العلاقة بين مصر وحماس ما زال غير واضح.

وبالعودة إلى «حسام الدجني» -أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأمة بغزة- فقد أشار إلى عدة محددات تُؤثر بشكل كبير على مستقبل العلاقة بين الطرفين، أهمها استعادة مصر دورها الريادي في القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى منظومة علاقاتها الإقليمية والدولية، خاصة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وقال: «إن موقف مصر من حماس سيتأثر بعلاقاتها مع الأطراف السابقة»، وأضاف أن ضبط الأوضاع الأمنية في سيناء من شأنه أن يؤدي دورًا إيجابيًا في تعزيز انفتاح مصر على حماس في قطاع غزة، لتبدأ بترسيخ علاقاتها على الأرض بافتتاح مشاريع حيوية مشتركة بين البلدين كـ إنشاء مستشفى مصري، وبنك مصري، ومكتب تمثيل مصري لتسهيل السفر والتنقل والدراسة والتبادل الشبابي، وتعزيز العلاقات الاقتصادية، بالإضافة إلى تبادل الخبرات في مختلف المجالات كـ الزراعة وتكنولوجيا المعلومات بما يسمح بتطوير الواقع الزراعي والتكنولوجي للطرفين»، حسب قوله.

وفي ظل ذلك فإن السيناريوهات المحتملة لتطوير العلاقات بين مصر وحماس في ظل التفاهمات الأخيرة لا تبرح الانفراج التكتيكي المبني على التقاء المصالح بين الطرفين لتحقيق أهداف مرحلية كالأمن في سيناء وانتزاع حماس من حضن قطر وإيجاد موطئ قدم لدحلان في المعادلة الفلسطينية على حساب «محمود عباس» الذي بدا هشًا ضعيفًا في السنوات الأخيرة، أو تسير باتجاه الانفراج الاستراتيجي، وهو السيناريو الأصعب في ظل الخلافات الجذرية بين الطرفين فيما يتعلق بـ «الإسلام السياسي» والموقف من المقاومة المسلحة ورؤية الطرفين لإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وهو ما يجعل استمرار الشراكة وترسيخ التعاون بين الطرفين غير ممكن.