نعيش معك.. نسير معك.. نجوع معك.. وحين تموت: نحاول ألا نموت معك!
محمود درويش: الرجل ذو الظل الأخضر (رثاء جمال عبد الناصر)

يمثل جمال عبد الناصر، كما تمثل مرحلة ازدهار القومية العربية التي كان أحد أبرز شخوصها، مرحلة هامة في فصول الذاكرة الفلسطينية. إذ أنه وفضلا عن كونه قائدا عربيا امتلك رؤية قومية تتضح معها معالم الدولة العربية في حقبة ما بعد الكولونيالية، بالإضافة إلى كونه طرفا في مشروع الوحدة العربية الذي تمخض عنه ارتباط سوريا ومصر، إلا أنه أيضا كان على صلة وثيقة بأبرز قيادات الثورة الفلسطينية. وبرغم تغير خريطة التحالفات مع القيادات الفلسطينية، اكتسبت شخصية جمال عبد الناصر حضورها الخاص في الوعي الفلسطيني، تارة من خلال فكرة القومية العربية، وتارة من خلال كونه شريكا أساسيا في حدث النكسة.


جمال عبد الناصر : البدايات

كانت بداية جمال عبد الناصر مع القضية الفلسطينية قبل أن تكتسب القضية زخمها العالمي بكثير؛ إذ حارب الرجل إبان حرب النكبة، مع الجيش المصري في الأراضي الفلسطينية؛ حرب ربما غذت رغبته في الانقلاب على النظام الملكي المصري، ومن ثم على شريكه في الانقلاب محمد نجيب، بالأخص مع ما قيل عن فضيحة الأسلحة الفاسدة.

ومع ذلك فقد كانت مصر هي أولويته عند وصوله إلى الحكم سنة 1952، حيث حاول بدء مفاوضات سرية مع إسرائيل. ففي آب أغسطس سنة 1954 أوضح في حديث له مع لوموند الفرنسية:

نحن نحتاج إلى السلام كي نواجه مشكلاتنا الداخلية الحيوية. وتستطيع الولايات المتحدة أن تضطلع بدور الوسيط بين إسرائيل والدول العربية. وكثيرا ما سعت إسرائيل للظهور بمظهر البلد الصغير الأعزل. في واقع الأمر، إن إسرائيل هي الدولة الباغية. ومع ذلك نريد وضع حد للحالة الراهنة السائدة بين الدول العربية وإسرائيل، لكننا نرغب في أن يتم تطبيق قرارات الأمم المتحدة.

إلا أن بن غوريون ورفاقه لم يبدوا مكترثين بالتسوية. وتفاقم الوضع حينما قصفت إسرائيل قطاع غزة سنة 1955 لتقتل بذلك 38 جنديا مصريا. يمكن القول أن هذه الحادثة شكلت نقلة مفصلية لا رجعة فيها بالنسبة لجمال عبد الناصر، حيث سيطلب إمدادات عسكرية من تشيكوسلوفاكيا سنة 1956.


لتشيكوسلوفاكيا ما بعدها

أدرك جمال عبد الناصر أن حدود اسرائيل أوسع من تلك التي احتلتها، وأنها التعبير الأمثل عن غطرسة الغرب وإمبرياليته. وبرغم انضمام مصر إلى ما عرف بدول عدم الانحياز للنأي بنفسها عن ثنائية الحرب الباردة، إلا أنه سرعان ما وجد نفسه مضطرا لاتخاذ موقف منحاز.

قرر عبد الناصر الانحياز للقضية الفلسطينية، لأنه وجدها قضية العالم العربي لا قضية الفلسطينيين وحدهم، وكان بديهيا جدا وهو رجل القومية العربية أن يتحالف مع أكثر الفصائل الفلسطينية تقاطعا مع مشروعه القومي، حركة القوميين العرب. وأخذ دعم جمال عبد الناصر أشكالا أخرى أواسط الخمسينيات حيث درب الجيش المصري بعد احتلاله قطاع غزة كتائب فدائية فلسطينية.


جورج حبش وعبد الناصر : صداقة وقطيعة

المناضل الفلسطيني «جورج حبش»

ولد جورج حبش سنة 1926 في مدينة اللد الفلسطينية، قبل أن يجري تطهيرها عرقيا على أيدي القوات الصهيوينية سنة 1948، ويشهد أبشع المجازر التي ارتكبت بحق سكان المدينة آنذاك. نزحت عائلته إلى بيروت حيث درس الطب في الجامعة الأمريكية هناك، ليحمل هم القضية الفلسطينية معه منذ كان طالبا جامعيا.

أقام جورج حبش العديد من الندوات حول القضية الفلسطينية في الجامعة، والتف حوله طلاب أردنيون وعراقيون وسوريون وجدوا في القضية الفلسطينية قضية كل العرب. دفع هذا الالتفاف نحو تأسيس حركة القوميين العرب والتي سرعان ما زرعت بذورها في أغلب الأقطار العربية.

بعد عدة ملاحقات من الأنظمة العربية على ضوء مطالبات جورج حبش تسليح الفلسطينيين، وعلى أثر هزيمة النكسة، أسس جورج حبش الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ديسمبر 1967. وكانت الجبهة ذات التوجه القومي تتقاطع مع الفكر العربي القومي الذي نادى به جمال عبد الناصر.

بدأ جمال عبد الناصر بإمداد الحركة بالعتاد والسلاح، وربطته علاقة صداقة قوية بـحكيم الثورة الفلسطينية (لقب لـ جورج حبش) إلا أنها صداقة لم تدم بسبب ما خرجت به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مؤتمرها الثاني، حيث نصت القرارات على أنها ستتحالف مع جمال عبد الناصر في محاربة اسرائيل، إلا أنها ستخالفه فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، ليسحب جمال عبد الناصر دعمه للجبهة ويتجه نحو فتح متمثلة بياسر عرفات.

تراكم تأثر الجبهة الشعبية بالفكر اللينيني، ودفع هذا التأثر إلى التوجه نحو الاتحاد السوفييتي. ويمكن القول أن مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للتيار القومي الفلسطيني، وانخراط العديد من اليابانيين والأمريكيين الجنوبيين في العمليات النوعية للجبهة الشعبية، جعلا التيار القومي في فلسطين يأخذ طابعا أمميا يقلص تحالفاته العربية وينكفئ على تحالفاته مع القوى المناوئة للامبريالية عوضا عن اللحاق بركب الوحدة العربية. وأصبحت بهذا الجبهة الشعبية خارج حسابات جمال عبد الناصر.


عبد الناصر في الوعي الجمعي

لم يتوقف جمال عبد الناصر عن توفير الدعم للقضية الفلسطينية، إلا أنه أخذ أشكالا أخرى غير تمويل الفصائل الفلسطينية وتزويدها بالأسلحة. وشكلت أيامه بالنسبة للفلسطينيين مرحلة مما يمكن تسميته استقرارا، حيث سهل التعليم الجامعي المجاني لكل من كان فلسطينيا، وأرسلت في أيامه بعثات إلى مدينة القدس، يقول من عاصروها أنها كانت أفضل سنوات المدينة المقدسة، فكان يأتي المهندسون والمعماريون من مصر للإشراف على ترميم البلدة القديمة، وأرسلت بعثات من كبار المشائخ في شهر رمضان إلى المسجد الأقصى المبارك للتلاوة طيلة الشهر، ومنهم الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.

هكذا يمكن القول أن جمال عبد الناصر قد استطاع التواجد في أذهان الفلسطينيين ممثلا لشخصية البطل، والقائد المنقذ. وجاءت حرب 1967 بخسارة مدوية.. فماذا يتذكر الفلسطينيون عن جمال عبد الناصر حين يتعلق الأمر بالنكسة؟


النكسة.. أكبر من الجغرافيا

جورج حبش، فلسطين

شكلت هزيمة النكسة النكراء سنة 1967 صفعة بالنسبة للقوى الثورية العربية، وطالب الفلسطينيون بأن تخرج فلسطين من عباءة الفكر القومي العربي، وتكون قضية الفلسطينيين وحدهم على أن توفر القوات العربية الدعم.

كانت النكسة أثقل من أن يتحملها الفلسطيني، فأن يضع شعب خسر نصف أرضه مسبقا ثقته بقائد لم يستطع الإيفاء بوعوده الكثيرة كان يعني تحولا على المستوى الجمعي في النظرة السائدة لجمال عبد الناصر.

لم يكن ممكنا لجمال عبد الناصر أن ينال تعاطف قطاعات واسعة من الفلسطينيين. وأغلب من يتذكرونه، يتذكرونه من خلال حدث النكسة. بإمكانك اليوم سؤال أي فلسطيني بشكل عشوائي عما يعنيه له جمال عبد الناصر، وسيقول لك «النكسة».. ذلك أن أي رئيس عربي، أي زعيم عربي يقاس بالنسبة للفلسطينيين على مسطرة فلسطين وحسب. هذا إن استثنينا العروبيين والقوميين واليساريين الذين يعني لهم جمال عبد الناصر قائدا عربيا جسورا.

أخيرا.. أسباب كثيرة حالت دون تخليد عبد الناصر بطلا في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، ليس آخرها أن فصول الملحمة الفلسطينية لم تنته بالشكل الذي يتيح لنا ترتيب الصور على الرفوف. وأنها كقضية دافع عنها أبناؤها طيلة عقود، استمدت أبطالها ورموزها من مراكمتها الخاصة. ثم إنك تعرف الرموز التي يخلدها الفلسطينيون حينما يأخذ الرمز شكلا ماديا.

أطلق الفلسطينيون عبارة «الزعماء العرب» لا تعبيرا عن الزعماء العرب دلاليا، ولكن تعبيرا عن الخيانة، وبيع الأرض، والاتجار بالقضية الفلسطينية. وارتبطت هذه الشخصية بهذه العبارة، فالجميع ملام، وجميع القادة.. زعماء عرب.