عند سؤاله عن صحة الأخبار الواردة من مصادر بالفيفا حول مصير بطولة كأس القارات خلال السنوات القادمة، وهل تشهد أمسية الثاني من يوليو/تموز 2017 بطل النسخة الأخيرة للبطولة قبل أن يقرر اتحاد اللعبة الدولي إلغاءه، أجاب «جياني إنفانتينو» بالتالي:

حاليًا مصير كأس القارات هو نهائي الأحد، ما يحدث بعد ذلك أمر يخضع للتحليل والدراسة، أما الآن فلا يوجد الكثير ليقال وعلينا انتظار المباراة.

كان «جياني» محقًا، فقد كان جمهور الكرة على موعد مع إحدى أجمل مباريات بطولة هذا العام وأكثرها إثارة، انتهت بعرقلة شبان ألمانيا لمسيرة منتخب تشيلي لالتهام بطولة دولية جديدة تضاف لسجل إنجاز الكوبا أمريكا عامي 2015 و2016.

نجح مدرب المانشافت «خواكيم لوف» بانتزاع بطولة جديدة بعد تسيّد العالم في 2014، قبل أن يعبر بلقاءات صحفية تلت المباراة عن فخره بشباب ألمانيا الذين لحقوا بشباب آخرين تحت 21 عامًا فازوا قبل ساعات ببطولة أوروبا على نظيرهم الإسباني، لتعطي ألمانيا نموذجًا فريدًا عن الإعداد الجيد للمستقبل المستند لقيم الانضباط والإتقان والتطور.

لكن النموذج ليس حكرًا على الألمان فحسب، بل ربما يكون «خوان أنطونيو بريزي» مدرب تشيلي أجدر بلفت الأنظار لبساطه السحري الذي نسج خيوطه عبر السنوات القليلة مستكملًا عمل الرائع لـ«بيلسا» ثم رائع آخر هو «سامبولي»، وها هو يطير بفريق لا يحمل كثيرًا من أصحاب القدرات الإستثنائية الفردية لآفاق امتدت خلف مجرد لقب «الحصان الأسود» لمنافسة دائمة على كل بطولة يشارك فيها.


ضربة البداية: أفكار على رقعة سان بطرسبرج

عادة يُنظر لبطولة القارات كبروفة للبطولة الأهم: المونديال، فباستضافة بطل كل قارة وبمشاركة البلد المستضيف لكأس العالم، يمكنك الاطمئنان على جاهزية الملاعب والخدمات المتوفرة للجماهير ومستويات المنتخبات المختلفة، لكن العامل المهم أيضًا هو قدرة مدربي كرة القدم على إنتاج أو تطوير أفكار تكتيكية متنوعة، وهو ما قدمه المدربان على أرضية ملعب المباراة مبشرين بمونديال قوي.

الأرجنتيني «بريزي» يقدم واحدة من أمتع وأقوى نسخ المنتخبات التي تعتمد على الجماعية، أسلوب لعبه يتسم بوضوح بالنزعة الهجومية والانقضاض لخنق لاعبي الخصم وحرمانهم من الكرة طوال أوقات المباراة، تشيلي أثبتت عبر السنوات القليلة الماضية أنها تملك فريقًا له بصمة وأسلوب لعب مميز، وهنا يجدر الإشادة باختيارات الإدارة الرياضية لتشيلي، فكان «بريزي» خير خلف لاستكمال مسيرة «سامبولي».

بدأت تشيلي بتشكيل 4/3/3 بأدوار هجومية للظهيرين «بوساجور، إيسلا»، وسط ملعب حيوي مكوّن من «مارسيلو دياز، بابلو هيرنانديز، أرانجيز»، أمامهم يلعب «فيدال» بأدوار ديناميكية بكل الملعب، وهاجمت شيلي بـ«سانشيز» رفقة «فارجيس».

أما الألماني فدخل بفلسفة جذرية البطولة منذ البداية، إذ قرر الدفع بنجوم الصف الثاني بدلًا من حرس 2014 القديم ليقدم للساحة الدولية لاعبين جدد يمتلكون الإمكانيات الجيدة والوعي التكتيكي، إلى جانب التصميم والحاجة لإثبات الذات في محاولة لحجز مكان بموعد آخر يتجدد على الأرض نفسها بعد عام.

«لوف» مدرب يمتاز بالمرونة، فاختار ما يناسب إمكانيات لاعبيه الجدد ولعب بـ 3/4/2/1، لم يتأقلم رفاق «دراكسلر» على هذا الرسم التكتيكي فقط بل تألق أغلبهم بشكل لافت.

يبدأ «خواكيم» بحارس برشلونة الرائع «تير شتيجن»، أمامه ثلاثي: في العمق «موستافي» بجواره «روديجر» وإلى يمينه «جينتر»، رباعي خط الوسط مكوّن من «كيميتش، سبستيان رودي، إلى جوار الرائع جورتسكا ثم على الجهة اليسرى يلعب جوناس هيكتور».

في المقدمة يلعب مهاجم نادي لايبزيج «تيمو فيرنر» تحت لاعبين هما «دراكسلر، لار شتاندل».

تشكيلة المنتخبين.

الشوط الأول: ثلث ساعة مع التسونامي الأحمر

ما نجح فيه «بريزي» بشدّة مع تشيلي هو رفع جودة أداء لاعبيه في كل شيء تقريبًا، وبالتالي تطوير ملحوظ بشخصية الفريق، لهذا السبب تبدو تشيلي من أصعب المنتخبات في تطبيق الضغط العالي وانتزاع الاستحواذ واكتساح الكرات المشتتة.

هذا تحديدًا ما قام به الفريق الأحمر خلال الثلث ساعة الأولى، بدا خط وسطه منظمًا وقادرًا على استلام الكرات بسلاسة من لاعبي الخط الخلفي، ثم التوزيع السليم للأطراف المتحررة أو الانطلاق نحو عمق الملعب، القائم على تلك المهمة كان أحد لاعبي الوسط سواء «دياز أو أرانجيز» بالتمركز بالقرب أو بين خط الظهر ثم الالتفات لمرمى الخصم.

أراد التشيليون تسجيل هدف سريع بمطلع المباراة قادر على إفساد كل شيء أعده «لوف»، فإلى جانب الصدمة بنفوس الشبان الألمان يمكن لهدف المقدمة كسر هذا النمط من التمركز الدفاعي الجيد لرفاق «ردويجر».

لم تنتظر الروخا 5 دقائق لترسل التهديد الفعلي الأول لمرمى «شتيجن» الذي جاء عن طريق «أرانجيز»، حين توغل لعمق الملعب مستغلًا المساحة التي خلفها الثنائي الهجومي «سانشيز، فارجيس» بحركيتهم المعتادة، ليتستقبل تمريرة لاعب البايرن على حدود منطقة الجزاء وينطلق باتجاه مرمى الخصم، كل ما احتاجه «أرانجيز» هو بعض الدقة بتوجيه تسديداته قبل إغلاق الرائع «شتيجن» لكل زوايا المرمي، حاول «فيدال» التدخل بالتسديد لكن حارس الألمان كان لا يزال يقظًا، على العموم كانت هذه الفرصة مقدمة لعدد آخر من فرص التسجيل السهلة تنافس عليها زملاء «أرانجيز»!.

أطلق عقب تلك الفرصة «فيدال» تسديدة خطيرة مرت بجوار القائم، لكن التصويبة الأخطر كانت من نصيب «فارجيس» حين راوغ من حدود المنطقة وسدد ولكنها وجدت «شتيجن».

تكرر الأمر بالدقيقة الحادية عشر، «سانشيز» يروّض تمريرة طولية بالهواء بشكل رائع وسط دفاعات مهيئًا الكرة لزميله «فارجيس» الذي تعجل كثيرًا وسدد أعلى مرمى الألمان.

هذا التنوع بفرص تشيلي له دلالة فنية واضحة، ناهيك عن تلك النجاعة الهجومية، فإن «بريزي» مدرب يهوى التحركات الديناميكية فيما بين الخطوط، فوجدنا الثنائي الهجومي خارج صندوق مرمى الألمان ليمنح مساحة انطلاق بلا رقابة للقادمين ويصنع الفرص الخطيرة للاعبي وسط الملعب، بل إن «سانشيز، فارجيس» نادرًا ما توقفا عن الركض والحركة بوسط ملعب الخصم بهدف تخفيف الضغط عن وسط الملعب وإرهاق ثلاثي خط الظهر الألماني.

بقي أن نؤكد على أداء «فيدال» الرائع خلال الثلث ساعة الأولى من عمر المباراة، اللاعب المقاتل يمثل حلقة وصل تربط الخطوط ببعضها، لا يمل من تقديم الدعم تقريبًا لكل زملائه على أرضية الملعب، تحسن كثيرًا خلال السنوات الفائتة عللا مستوى التمركز وتطورت قدرته على التمرير المتقن، لا خلاف على إمكانيات «أرتورو»، لكن الأمر الرائع أيضًا هو قدرته على استيعاب الأفكار والاندماج السريع بها مهما تغير مركزه.

15 دقيقة فقط، وكانت لوحة beIn الإحصائية تظهر أقصى يسار الشاشة لتعلن عن 5 محاولات هجومية للتهديف لتشيلي مقابل واحدة فقط لألمانيا؛ هوس هجومي أحمر.


الشوط الأول: من لا يسجل يقبل.. وأحيانًا يخسر

بينما كانت الدهشة ترسم ملامح «بريزي» بعد إهدار «سانشيز» هدفًا مؤكدًا من تصويبة بالياردات الـ6 تصدى لها باقتدار «شتيجن»، كان «لوف» على الخط متفاعلًا يبث الحماس بلاعبيه الصغار لعدم الانهيار.

أسلوب اللعب الذي يمتاز بهذا القدر من الجرأة كتشيلي يترك خلفه مساحات شاسعة يمكن استغلالها بالمرتدات، لكن «دياز» منح «تيمو فيرنر» ما هو أفضل من ذلك، خطأ فادح على بعد خطوات من مرمى «برافو» منح المهاجم الألماني انفرادًا تامًا، «شتيندل» يظهر ويحظى بتمريرة زميله ويقلب الطاولة.

الهدف استفز لاعبي تشيلي، لم يقتصر الأمر فقط على تعديل النتيجة بل بمزيد من أخطاء التمركز والتمرير قدموها على طبق من فضّة للألمان.

فبعد أن أهدر «أرانجيز» فرصة أخرى شبه محققة، كاد «جارا» بسوء التمركز أن يتسبب بهدف ثانٍ حين انطلق «جورتسكا» من اليمين خاليًا من الرقابة واستلم وسدد ركلة قوية مرت أقصى يمين «برافو»، تكرر الأمر عندما استلم «دراكسلر» تمريرة «فيرنر» على حدود المنطقة بدون متابعة من لاعبي وسط تشيلي وسدد ركلة قوية بالقرب من القائم الأيمن.

«جارا» كاد أن يتسبب بهدف آخر حين اختار التمرير الخاطئ واستقبلها «دراسكلر» فأحسن التصرف فيها صانعًا فرصة خطيرة لم تحتج من زميله سوى اختيار الوقت الأنسب للتسديد قبل انقضاض «برافو».

بعد الثلث ساعة الأولى دخل الألمان أجواء المباراة ومنحتهم أخطاء تشيلي الفادحة ما أرادوه، فبالرغم من صغر متوسط أعمار فريق «لوف» إلا أنهم يحسنون ما يميز أي منتخب ألماني: الهجوم والدفاع ككتلة واحدة، اقتناص الفرص السهلة، الانتشار السريع بأرجاء الملعب، وأخيرًا السهل الممتنع.


الشوط الثاني: من يمتلك الرتم؟

33 (1)

يمكن رؤية المباراة كالرهان بين الفريقين؛ الأول أراد تسجيلاً سريعًا وإرباك أوراق الألمان، بينما الثاني راهن على استنزاف اللياقة البدنية لفريق «بريزي» كلما مر الوقت وخلق عامل التفوق بالشوط الثاني بعد خطف هدف المباراة، ليس فقط لأن متوسط أعمار الألمان أصغر، ولكن لتوزيع الجهد بين كل لاعبيه.

لذلك جاءت هجمات فريق «لوف» بالشوط الثاني أكثر، بدأها القائد «دراكسلر» مستغلًا استمرار التمركز السيئ لوسط ملعب خصمه فانطلق بانفراد تام ولم يفصله عن قتل المباراة إلا تدخل «ميديل» باللحظة الأخيرة.

الربع ساعة التالية لتلك الفرصة هي الوحيدة بالمباراة التي شهدت تكافؤًا بالفرص بين المنتخبين، تقدم الألمان بعض الشيء عن الشوط الأول عن طريق الأطراف ولكن دون تأثير فعّال على المرمى، أما «بريزي» فحسنًا فعل عندما طلب من لاعبيه زيادة التمركز بمنطقة الجزاء والاعتماد على الكرات العرضية والبينية، والسبب بسيط وهو أن لاعبيه يجيدون توزيع وتسليم الكرات بدقة ويتمركزون هجوميًا في الأماكن الخطيرة ولكن العائق الوحيد كان اللمسة الأخيرة.

فلقد أهدر «فيدال» كرة خطيرة داخل منطقة جزاء الألمان من متابعة لكرة زميله «سانشيز»، أهدرها بسبب رعونته وتوتره المعتاد، لكنها لم تكن أبدًا أسهل ولا أخطر من فرصة المهاجم «ساجال» التي جاءت والمرمى شبه خالٍ تمامًا بالدقيقة 84، عندها فقط تيقن الكل أنه ليس اليوم الأفضل لمنتخب تشيلي.

فازت ألمانيا، وعادت تشيلي مهزومة بعد دوافع الظفر باللقب العالمي لا القاري تلك المرة، لكن عمومًا قدمت تشيلي بطولة قوية ولا زالت تثبت خلال السنوات الماضية قوة مشروعها، وأذاقت بالفعل منتخبات كبرى كإسبانيا؛ الأرجنتين والبرتغال خسارات مستحقة، أما ألمانيا فإنها تحلق بعيدًا خلال اللحظة بمشروع متكامل يستحق الدرس.

هنيئًا للكل، حتى لك عزيزي القارئ؛ لأنك تنتظر مونديال يبدو أنه سيكون ممتعًا ومتنوعًا.