قبل نحو عقد من الزمان، رحل الطبيب جورج حبش، المناضل والسياسي الفلسطيني الكبير. شارك الحكيم – مثلما يطلق عليه – في تأسيس حركة القوميين العرب عقب نكبة 1948، وكذلك فعل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد نكسة 1967، وهما من أبرز حركات النضال القومي العربي ضد الصهيونية، التيار الذي توارى بشدة خلال العقود الأخيرة، لصالح التيار الإسلامي.

في ذكرى رحيل المناضل الفلسطيني الكبير جورج حبش، تحكي هذه المقالة نشأته وأيامه الذهبية، وهو ما يعد تاريخًا للقومية العربية في الوقت نفسه.


النشأة

ولد جورج نقولا رزق الله حبش في الأول من أغسطس/آب عام 1925، بمدينة اللد الفلسطينية، لأسرة من الروم الأرثوذكس. أب يسمى «نقولا»، يعمل تاجر منتجات غذائية، طموح رغم قصر مشواره الدراسي. وأم تسمى «تحفة»، كان لها الدور الأكبر خلال طفولته، كما ستشجعه على إكمال الدراسة والالتحاق بكلية الطب خلال شبابه، على خلاف رغبة الأب الذي يريده إلى جانبه في التجارة، مثل شقيقه الوحيد الذي يكبره سنًا. وإضافة إلى هذا الشقيق، كان للحكيم خمس شقيقات، ستتوفى «فوتين»، أحبهن إلى قلبه، خلال النكبة، لتنكت في قلبه ندبة لن تزول.

في مدينة اللد، عاشت أغلبية مسلمة، مع أقلية مسيحية، في انسجام وألفة. هناك، في مدرسة إنجليكانية، قضى حبش المرحلة الابتدائية، وفيها تفتح وعيه على المحنة الفلسطينية خلال إضراب 1936، الذي عم أنحاء فلسطين، احتجاجًا على الاحتلال البريطاني. ثم انتقل إلى الإعدادية الأرثوذوكسية في يافا، حيث يذكر وقوفه دقيقة حدادًا على ثلاثة من المناضلين الشهداء، وغيرها من مظاهر التضامن الوطني. بعدها أنهى حبش دراسته الثانوية في مدرسة «الأرض المقدسة» بالقدس، وخلالها اندلعت الحرب العالمية الأولى، ونشطت العصابات الصهيونية مثل الهاجانا والشتيرن، كما ازداد المحتلون الجدد حضورًا في البلاد، فانضم إلى صفه الدراسي عدد من أبناء المهاجرين اليهود الجدد.

جورج حبش، عام 1951.

في الجامعة الأمريكية ببيروت، درس حبش الطب. خلال سنوات الدراسة، أعلن قيام الدولة الصهيونية، فتجاهل الطالب رسالة أبويه وعاد إلى بلاده، حيث عايش التهجير القسري في اللد، وحضر استشهاد شقيقته، وشاهد قتل الصهاينة لجاره بدم بارد طمعًا في ماله. وفي العام نفسه، عاد حبش إلى بيروت. ولم يكن في ذلك أي ابتعاد عن حرارة القضية، إذ كانت جميع البلاد العربية مشتعلة بالغضب والفوران، على جميع الأصعدة، ومنها صعيد الحراك الطلابي.

شارك حبش في تأسيس وإدارة جماعة تنفذ عمليات اغتيال للخونة والصهاينة، جرت بعض عملياتها خارج الحدود اللبنانية، على يد أعضاء من جنسيات عربية مختلفة. تسبب ذلك في التضييق من الحكومة والجامعة، فاعتقل فترة قصيرة، أنشأ بعدها حركة القوميين العرب، في الفترة 1951-1952، التي سيحرص في قيادته لها على تبني الديمقراطية، هو النهج نفسه الذي سيلتزم به ويدعو إليه ما استطاع في سائر أدواره. وعقب إتمام دراسة الطب، رحل حبش إلى الأردن، لحاقًا بأسرته التي لجأت إلى هناك، حيث سيمارس الطب في العاصمة عمّان والمخيمات الفلسطينية حتى عام 1957.


الصعود

أمضى الحكيم هذه الفترة ما بين عمّان ودمشق وبيروت، بدأها بإرسال الخطابات إلى مختلف جمعيات الدول العربية، يستحث فيها الروح القومية النضالية، فاشتعلت المظاهرات بمناطق متفرقة من البلاد العربية، بينها مدن أردنية، مما أزعج السلطات الأردنية ودفعها إلى الاحتزاء بقرينتها اللبنانية. في عام 1956، عقد حبش المؤتمر الأول لحركة القوميين العرب، سرًا في عمان، بحضور كثير من المناضلين البارزين، شدد المؤتمر على أهمية مواصلة النضال المسلح، وعدم التنازل عن حق العودة لمئات الألوف من اللاجئين الفلسطينيين. ومع ازدياد خطورة العمليات، ازداد السخط الحكومي غير الرسمي، فأفسحت الأردن الساحة قليلًا لنشاط الإخوان المسلمين، رغبة في تحجيم القوميين والشيوعيين.

كان للسياسات الثورية للرئيس المصري جمال عبد الناصر، وما تلاها من اتحاد مؤقت بين مصر وسوريا، عظيم الأثر في إعادة الحيوية والحضور للقوميين العرب، وكانت إقامة حبش آنذاك في دمشق. إلا أن تلك الوحدة لم تستمر كثيرًا، مما دفع الحركيين إلى إعادة النظر في الهدف المنشود، والتسلسل المتخيل لبلوغه، الذي كان متمثلًا في شعار الحركة الأول: «وحدة، تحرر، ثأر». وفي يوليو/تموز 1963، انتهى الأمر باستقرار مقاليد الحكم في سوريا بين يدي البعثيين، الذين شرعوا في التنكيل بالقوميين العرب وتعذيب قادتهم، بتهمة السعي إلى إحياء الوحدة المصرية السورية، فاضطر حبش ورفاقه إلى العمل السري ثانية.

مرت فترة عصيبة على المناضل وأسرته، شهور من الاختباء والمطاردات والخطر، اضطرته إلى الانتقال إلى لبنان، مع زوجته وابنة عمه هيلدا، وطفلته ميساء. هناك، أقيمت اجتماعات صاخبة، أصر فيها الحكيم على مواصلة العمل المسلح، وتصدى للرأي القائل بحل الحركة لعدم جدواها بعد فشل الاشتراكية وتجربة الوحدة العربية، وفي هذه النقاشات ظهرت بوادر الانشقاق الذي سيصيب الحركة فيما بعد.

في السنوات القليلة السابقة لنكسة 1967، عادت ساحة النضال الفلسطينية إلى مركز اهتمام حركة القوميين العرب، ليشهد عام 1964 أولى عمليات الحركة في الجليل. في العام نفسه، نشأت منظمة التحرير الفلسطينية، التي لم تجذب اهتمام الحركة في البداية للتفاوت بينهما في درجة الثورية، كان تفاوتًا لصالح الحركة بكل تأكيد. ثم حلت النكسة، لينتقل إيمان جورج حبش -المؤيد الحار لعبد الناصر- من القادة إلى الشعوب، ويرى ضرورة ارتكاز النضال المسلح على الشعب الفلسطيني بالمقام الأول.

في هذه الفترة، جرت اتصالات مكثفة بين جورج حبش ومعه قادة حركة القوميين العرب وبين سائر فصائل المقاومة المسلحة، بما فيها حركة فتح، وجبهة التحرير الفلسطينية، لتولد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ديسمبر/كانون الأول 1967، ويتولى منصب أمينها العام. وعقب فترة قاسية قضاها سجينًا في سوريا، سافر حبش إلى مصر، حيث قابل ثانية عبد الناصر، الذي وافق على إمداد الجبهة بالشحنة الأولى من السلاح. لكن سرعان ما اندلع الخلاف داخل الجبهة، وقفت فيه بعض الأنظمة العربية والمنظمات الفلسطينية –مثل فتح- خلف الفريق المنشق، الذي رأى ضرورة موافقة الأعضاء للحد الأدنى من المعايير الماركسية، وهي الانتماء الطبقي تحديدًا. وأصر حبش على معالجة الأزمة سياسيًا، بعيدًا عن العنف.

شهدت الفترة التالية هجومًا من الجبهة على خطوط النفط الأمريكية في الأراضي السورية، وعمليات اختطاف للطائرات، وغيرها، بهدف جذب أنظار شعوب العالم إلى القضية الفلسطينية. وفي خضم هذا النجاح والحضور الكبير للقضية، أثار توقيع عبد الناصر على مبادرة روجرز غضب المقاومة وسكان المخيمات، فاختطفت أربع طائرات في الأردن، ودعت النقابات هناك إلى الإضراب، وقد واجهت الحكومة العسكرية الأردنية والجيش الأردني ذلك بعنف فاق أسوأ التوقعات، وهو ما عرف باسم أحداث «أيلول الأسود».

بعد ذلك، انتقل حبش إلى لبنان، ليواصل ومعه الجبهة العمل المسلح، ومهاجمة السفارات الإسرائيلية، وعدد من عمليات اختطاف الطائرات ذات الأهداف الإعلامية. في هذه الفترة، بعد اغتيال الموساد للأديب الفلسطيني الثوري «غسان كنفاني»، ومعه ابنة شقيقته «لاميس»، ستختطف إسرائيل طائرة مدنية لبنانية بهدف اعتقال حبش، الذي غادر المطار بعد تلقيه أنباء عن نية الكيان الصهيوني. لم تكن هذه المحاولة الإسرائيلية الوحيدة، بل هي أبرزها فحسب، إذ تكررت محاولات الاعتقال – والاغتيال أيضا – عدد من المرات.

فجأة، خلال فترة شهدت صدامًا بين المقاومة الفلسطينية والجيش اللبناني، اندلعت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، بين الجيشين المصري والسوري والجيش الإسرائيلي. كانت الجبهة الشعبية تؤيد الحرب، كما تحدث حبش كثيرًا عن بطولة الجيشين العربيين، لكنه أدرك أن هدفها النهائي كان تسوية سياسية، وأن مبلغ اهتمام السادات كان استعادة سيناء، مثلما تستهدف سوريا استعادة الجولان.

في الشهور التالية، حققت منظمة التحرير الفلسطينية تقاربًا كبيرًا مع الأنظمة العربية، حتى اعتبرتها القمة العربية بالجزائر «الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين»، لكن الجبهة الشعبية ستعلن انسحاب عضوها من اللجنة التنفيذية للمنظمة عام 1974، احتجاجًا على سياسات ومداهنات ياسر عرفات، الذي أغراه وغيره من المحاربين القدامى الأمل الدبلوماسي، عقب حرب 1973، لكن «جبهة الرفض» رأت ذلك انحرافًا عن القضية المقدسة للثورة، مشددة على أن ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة.

عادت المشاكل بين المقاومين والكتائب اللبنانية إلى التنامي، وبلغت أوجها في منتصف 1976، حين سالت الدماء، وهوجمت الكثير من المخيمات، وارتكبت المجازر المفجعة، قامت خلالها الزوجة هيلدا بجهود إغاثية عظيمة، ودبرت الكثير من التبرعات المالية والعينية الضرورية. ولا يعفي حبش ذمة أي من الطرفين، اللبناني والفلسطيني، من التجاوزات الوحشية.

ثم اختتمت هذه الفترة العصيبة بزيارة السادات للقدس وتوقيع معاهدة كامب ديفيد، التي رأتها الجبهة طعنة للقضية الفلسطينية، خاصة مع تجاهل المفاوضات والمعاهدة لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، الذين يشكلون 56% من الشعب الفلسطيني، كما فعلت الأمر ذاته مع حق العودة.

تمسكت الجبهة الشعبية بالمطلبين السابقين، إلى جانب دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها خلال نكسة 1967، وتفكيك المستوطنات. لكن الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني ازداد تجذرًا في الدورة التالية من دورات المجلس الوطني الفلسطيني، وفشلت في تحقيق أهدافها، بسبب تدخلات النظام السوري ونزوع ياسر عرفات إلى الانفراد بالقرار.


الانزواء

جورج حبش، عام 1951.

في حزيران يونيو/حزيران عام 1982، بدأ الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، بالقصف الجوي لمحيط مقر قيادة المقاومة الفلسطينية. خلال أيام الحصار التي تخطت الثمانين، أظهر عرفات كفاءة قيادية، وأثبتت المقاومة الفلسطينية البطولة والبسالة. وبمرور الوقت، تبنى عرفات موقفًا مؤيدًا للانسحاب، كان حبش أميل إلى معارضته لما بدت له من مؤشرات على انقلاب في موازين القوى، لكنه انضم إلى مؤيدي الانسحاب في النهاية، بعد موافقة إسرائيل على خروج المعارضة بأسلحتها، إذ رأى في ذلك حفظًا لماء وجه المقاومة. بعدها، توجه عرفات وغالبية القادة إلى تونس، فيما غادر حبش ورفاقه نحو سوريا، حيث نزل ميناء طرطوس، واستقبله جمهور ضخم من المؤيدين، سوريين وفلسطينيين، كما استقبل رسميًا على أعلى مستوى، دون أن يمحو ذلك مرارة تخاذل الحكومات العربية من فمه.

جورج حبش (اليمين)، والشاعر الفلسطيني محمود درويش (المنتصف)، وياسر عرفات (اليسار).

في السنوات التالية، سيستمر رهان جورج على المعسكر الاشتراكي، كما سيستمر رفضه لمختلف أشكال التطبيع أو التفريط في الأرض، متمسكًا بالنضال المسلح، مناديًا بضرورة تبني الأنظمة العربية للديمقراطية من أجل البقاء، كما سيمارس نقدًا ذاتيًا للجبهة وسياساتها وقراراتها. وسيظهر حبش ومعه الجبهة معارضة قوية لاتفاقية أوسلو 1993، كما لن تمنعه يساريته من تأييد المقاومة الإسلامية بدرجة كبيرة، سواء حزب الله في لبنان أو حركة حماس في فلسطين، التي ستولد عقب اندلاع الانتفاضة الأولى.

وبعد عدة أزمات صحية، سيستقيل من الأمانة العامة للجبهة عام 2000، ليتسلمها رفيقه مصطفى الزبري الذي ستغتاله إسرائيل قبل مرور عام. وسيعود الحكيم جورج حبش إلى الأردن عام 2003، ليدخل أحد مستشفياتها في يناير/كانون الثاني عام 2008، بعد تردي وضعه الصحي، حيث ستفيض روح الأبية في السادس والعشرين من الشهر نفسه، ويوارى جسده ثرى مقبرة سحاب بعمّان.

المراجع
  1. حبش، جورج. 2009. الثوريون لا يموتون أبدا. بيروت: دار الساقي.
  2. سويد، محمود. التجربة النضالية الفلسطينية، حوار شامل مع جورج حبش. 1998. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.