كان غسّان الفلسطيني الوحيد الذي أعطى الجواب القاطع الساطع، وكانت الشهادة شهادة، وكأنه أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخم الدم، ونقل الحبر إلى مرتبة الشرف وأعطاه قيمة الدم.
قالها محمود درويش في رثائه لغسان كنفاني

قدم لنا غسان كنفاني، الروائي والصحافي الفلسطيني، في نفس العام الذي توفى فيه،1972، دراسة مُوثقة بعنوان «ثورة 36-39 في فلسطين: خلفيات وتفاصيل وتحليل» حول فترة تكاد تكون مغيبة نسبيًا من تاريخ القضية الفلسطينية. فكانت تلك الدراسة بمثابة تحليل سياسي مُعمق حول خلفيات الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 ضد الاستعمار البريطاني وإرساء دعائم الدولة الصهيونية وتمكين اليهود على حساب الفلاحين والعمال والمُثقفين العرب، بالإضافة إلى تناوله لتفاصيل الثورة وأبرز أحداثها والأسباب الجوهرية والثانوية التي أدت لفشلها، ومن ثّمَّ قدّم أسباب ركود الحركة الوطنية الفلسطينية، وكيف تمكنت الحركة الصهيونية من تثبيت أقدامها على أرض فلسطين مُستغلة حالة الركود والتشتت الذي عانت منه الحركة الوطنية في فلسطين بعد فشل الثورة.إن هذه الدراسة أثبتت لنا أن الروح الفلسطينية التي غلبت على أعمال كنفاني لم تكن مبنية فقط على الوجدان العميق والتعلق بالقضية لكونه فلسطينيًا، بل أيضًا على تحليل واعٍ ودقيق وسرد تاريخي مُوثق لكل معلومة قُدمت فيه.


النقاط الثلاث

استهل غسان كنفاني كتابه بالحديث عن النقاط الثلاثة التي تلقت فيها الثورة الفلسطينية ضربات ساحقة في الفترة بين 1936-1939، وهي: القيادات المرجعية المحلية، والأنظمة العربية المحيطة بفلسطين، والحلف الإمبريالي-الصهيوني. وشبّه تلك النقاط بالمثلث الذي ترك فيه العدو بصماته. ثم تناول كنفاني بالشرح بعد ذلك الخلفيات التي أججت الثورة وجعلت منها مسألة حتمية لا بد منها وحصرها في: العمال، الفلاحين، والمثقفين.

أولًا: العمال

إن الهجرة اليهودية إلى فلسطين كان لها تأثير سلبي على صغار الفلاحين والفلاحين المتوسطين والعمال، إذ سهّل الانتداب البريطاني للرأسمال اليهودي الهيمنة على البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني، مما أدى إلى انهيار شبه كلي في الاقتصاد العربي، ترتب عليه طرد العمال العرب من المؤسسات والمشاريع التي يسيطر عليها الرأسمال اليهودي، فضلًا عن الصدامات الدامية التي نجمت عن إرغام العمال على الانسحاب من عملهم بالقوة.

ثانيًا: الفلاحون

كانت الأوضاع العمالية آنذاك النصف الأول من المشهد، بينما كان النصف الآخر في الريف، حيث اتبعت الجماعات اليهودية سياسة الإفقار والسلب للفلاحين والبدو، ورفعت شعار: «اليد العاملة العبرية فقط» وشعار «الإنتاج العبري فقط»، فعملوا على التوسع في تملك الأراضي حتى زادت ملكيتهم للأراضي في عام واحد نحو مليون دونم، أي ما يمثل ثلث الأراضي الزراعية، بينما امتلك الفلاحون العرب البالغ عددهم 500 ألف، مساحة تقل عن 6 ملايين دونم، أي ما يعادل 12 دونمًا للفرد.

ولم تكتفِ الجماعات اليهودية بذلك، بل قامت بطرد نحو 20 ألف عائلة من الفلاحين في عام 1931، هذا بالإضافة إلى الضرائب التي فرضتها حكومة الانتداب على الفلاحين، في حين منحت الإعفاءات الضريبية المهاجرين اليهود من أجل تنشيط الصناعة اليهودية، فتحول الاقتصاد الفلسطيني من اقتصاد زراعي عربي إلى اقتصاد صناعي يهودي.

ولم يكن بوسع الكثير من الفلاحين العرب الصغار في تلك الفترة إلا بيع أراضيهم للملاك العرب الكبار في انتفاضة 1929 وانتفاضة 1933، كي يشتروا بأثمانها سلاحًا لمقاومة الغزو الصهيوني والانتداب البريطاني.

ثالثًا: المثقفون

لم تتكفل الحكومة منذ الاحتلال حتى اليوم بنفقات كافية لبناء أية مدرسة في البلاد.
مدير المعارف في تقريره الصادر عام 1930

على الرغم من محاولات حكومة الانتداب لنشر الجهل في أوساط الريف، وذلك بمنع إنشاء المدارس وتقليص عددها، إلى جانب مراقبتها للكتب ومعارضتها لكل صلات ثقافية مع العالم العربي، لكن الواقع التعليمي في الريف لم يكن يعكس الواقع الثقافي في فلسطين. إذ لعب المثقفون في فلسطين دورًا كبيرًا انطلاقًا من إحساسهم بكم العجز الذي تعاني منه الطبقات الكادحة.

فعلى أبواب الثورة، ألهبت طليعة من الشعراء النضال المسلح وجعلوه جزءًا من التراث الثقافي للجماهير، بالإضافة إلى الدور اللافت الذي لعبته الصحف والمقالات الأدبية والقصص وحركة الترجمة. تلك الانطلاقات هي التي شكّلت المد الثقافي الثوري في الثلاثيات، وعملت على تنمية الوعي وكانت سببًا في تفجير الثورة.


الثورة

أرجع غسان كنفاني السبب المباشر وراء انفجار ثورة 1936 إلى رغبة العرب المُلحة في نيل الاستقلال القومي وكرههم لفكرة إنشاء وطن قومي لليهود، بالإضافة إلى عوامل ثانوية كانتشار الروح القومية العربية خارج فلسطين وزيادة هجرة اليهود منذ عام 1933، وعدم ثقة العرب في إخلاص الانتداب البريطاني.

فقد وضعت الثورة على رأس مطالبها ثلاثة شعارات أساسية، وهم: الوقف الفوري للهجرة اليهودية، وحظر نقل ملكية الأراضي العربية إلى اليهود، وإقامة حكومة ديموقراطية يكون النصيب الأكبر فيها للعرب وفقًا لغلبتهم العددية.

ثم أشاد كنفاني بالدور الذي لعبه الشيخ عز الدين القسام وحركته في تقرير شكل متقدم من أشكال النضال، وأشاد ببرنامج الحركة الذي قام بالأساس على الإعداد النفسي ونشر روح الثورة وإنشاء حلقات سرية وتشكيل اللجان لجمع التبرعات وشراء الأسلحة، ومن ثَمَّ الثورة المسلحة.

وبعد ذلك تحدث عن كيفية استغلال الأحزاب الفلسطينية الخمسة لحدث استشهاد القسام ومحاولتهم ركوب الموجة «الشامخة» التي فجرها القسام وكيف قفزوا من الفتور في جنازته إلى المهرجانات والخطابات الرنانة في اليوم الأربعين لاستشهاده.

اتخذت الثورة في الريف طابع العصيان المدني والعصيان المسلح، واستطاع البريطانيون حينئذ الرد على ذلك العصيان مُستغلين ضعف الجماهير الفقيرة المشتركة في الثورة وعدم قدرتها إلا على حماية نفسها، بالإضافة إلى كون الكادر التنظيمي أكثر ثورية من القيادة التي اعتبرت الثورة مجرد ضاغط لتحسين أوضاعهم لدى حكومة الاحتلال. فقام البريطانيون بضرب الثوار من الفلاحين بأعنف ما يكون، واستخدموا نفوذهم لدى الأنظمة العربية التي ساهمت بشكل كبير في إجهاض الثورة، إذ أصدرت اللجنة العربية العليا بعد قرابة 6 أشهر من انفجار الثورة بيانًا تطالب فيه بإنهاء الإضراب امتثالاً لأوامر حكومة الانتداب.

وبعد شهر واحد، طالبت القيادة العامة للثورة العربية في سوريا وقف أعمال العنف تمامًا وترك الميدان حفاظًا على سلامة المفاوضات.

ورغم كل ذلك كانت الاندفاعة الثورية لدى الجماهير أشد عنفًا وهيمن الفلاحون كليًا على الثورة، بعد أن تبين أمامهم مقدار التناقض الواضح لدى القادة في الخارج والقادة المحليين من كبار الفلاحين والبرجوازيين الذين تراجعوا عن مُساندتهم.


مسألتان مهمتان

قدم غسان كنفاني من خلال طرحه مسألتين مهمتين حول الثورة، وأكد ضرورة التوقف عندهما:

المسألة الأولى: أن العرب تواصلوا مع اليهود، واقترحوا عليهم التوصل إلى نوع من الاتفاق لقطع علاقاتهم مع بريطانيا، لكن اليهود رفضوا ذلك الاقتراح على الفور.

المسألة الثانية: أن وجود زعامة الثورة خارج فلسطين (في دمشق) قد جعل دور القيادات المحلية المنحدرة من أصل فلاحي فقير – في معظمها – دورًا أكبر مما كان في الحقبة المنصرمة، وكان هؤلاء يرتبطون مع الفلاحين ارتباطًا وثيقًا، وذلك يفسر، إلى حد بعيد، المدى الأبعد الذي كان بوسع الثورة أن تصله.

ففي الفترة بين1937 وأوائل 1939 كانت الثورة الشعبية أقرب ما يكون للنصر، إذ ضعفت سيطرة القوات البريطانية في فلسطين، لكن كل المساعي نحو إنجاح الثورة قد ضاعت مع عقد الصفقة المشبوهة في مؤتمر الدائرة المستديرة في لندن في فبراير/شباط 1939 بين قيادة الثورة وبين البريطانيين.


أسباب فشل الثورة

لقد أرجح كنفاني أسباب فشل الثورة إلى خلل رئيسي يكمن في التقلب السريع الذي مر به المجتمع الفلسطيني من مجتمع زراعي عربي إلى مجتمع صناعي يهودي، الأمر الذي منع البرجوازية الوطنية من لعب دورها التاريخي في الحركة الوطنية الفلسطينية.

بالإضافة إلى غياب القيادة الثورية وفردية قادة الثورة وانتهازيتهم، وضعف الحزب الشيوعي الفلسطيني، والتعب من القتال والضغط العسكري المتواصل ومعاناة العجز في الأسلحة والذخائر، وخيانة الأنظمة العربية للثورة الفلسطينية، وعملاء الثورة المضادة في الداخل، كل ذلك كان من شأنه الإسهام في عرقلة استمرار الثورة.


الخسائر البشرية

اعتبر كنفاني أن أفضل تقدير للخسائر البشرية العربية في ثورة 1936-1939، هو التقدير الذي يقول إن الخسائر البشرية بلغت نحو 190.792 ما بين قتلى وجرحى، مُشيرًا إلى أن الخسائر الحقيقية والأكثر خطورة على الإطلاق تتمثل في النمو السريع لأسس الوجود الاستيطاني في فلسطين عسكريًا واقتصاديًا.

فقد عملت المخططات الصهيونية على إرساء دعائمها من خلال السير في خطين متوازيين: فمن جهة تحالفت مع البريطانين لأقصى حد، ومن جهة أخرى عملت على تعبئة الوجود الاستيطاني داخليًا تعبئة متواصلة تحت شعار «لا بديل»، وأرست وجودها العسكري وأدواته الحربية والاقتصادية.

فقد كانت البرجوازية اليهودية هي المستفيد الأول من انشغال العرب بالثورة، إذ حاولت استغلال تلك الفترة في إنجاز الكثير من المشاريع التي لم تكن لتفعلها في ظروف مغايرة.


سبب الركود

لقد خيّم على الواقع الوطني الفلسطيني طوال الأعوام الممتدة بين 1936-1939 حالة من الركود، وبانتهاء الحرب العالمية الثانية تشتت وتحطم النسيج الاجتماعي للحركة الوطنية الفلسطينية، نتيجة التحول العنيف الذي مرت به وإخفاق قادتها في تنظيمها وتعبئتها، بالإضافة إلى ضعف الحركة الوطنية في الدول العربية المجاورة.

فكان الميدان أمام الحركة الصهيونية في الأربعينيات فارغًا، إذ استغلت المأزق التاريخي الذي وقعت فيه الأنظمة العربية، وانعدام قوتها في فلسطين، وعدم وجود حركة يسارية قوية لتضغط في الاتجاه المعاكس، واستطاعت في أواسط الأربعينيات أن ترفع درجة تناقضها الجزئي مع الاستعمار البريطاني في فلسطين بعد سنوات طويلة من التحالف.

الخلاصة، لقد ضُربت الثورة الفلسطينية في الفترة بين 1936-1939 على مفاصلها الثلاثة، المفصل الذاتي: المُتمثل في عجز وتذبذب وضعف قيادتها، والمفصل العربي: إذ تواطأت الأنظمة العربية على إجهاضها، والمفصل العالمي: الكامن في تحالف مجموع المعسكر الاستعماري فيما بينه، وكذلك فيما بينه وبين الحركة الصهيونية التي تمتعت بقوة داخلية لا يُستهان بها عشية الحرب العالمية الثانية.