دائمًا ما كان التصور الرومانسي لجمهور اللعبة من البرازيليين يدور في فلك فضاؤه مكون من بيليه وزيكو ورونالدو وآخرين، إلا أن هناك بعض الأسماء التي لا تمتلك الموهبة نفسها، لكن استطاعت أن تكسر هذه الصورة النمطية وصنعت لنفسها اسمًا يصعب تجاهله أو تخطيه عند ذكر النجاحات والألقاب.

«جيلبرتو سيلفا» لم يكن يمتلك الأسس التي يقيم بها المشجع البرازيلي نجاح لاعبي منتخبه الوطني من سرعة وموهبة وفنيات مهارية عالية، لكنه جعل من نفسه أيقونة بجانب هذه الأسماء البارزة. أيقونة قد يكون إشعاعها خافتًا، لكن الطاقة التي تولدها كانت أساسية لكي تلمع أسماء أخرى. أمر شبهته صحيفة فيجا البرازيلية عام 2002 بأن سيلفا حمل البيانو على كاهليه لكي يتمكن ثنائي الهجوم «ريفالدو» و «رنالدو» من عزف إبداعاتهما في خط المقدمة.

والأمر سيان بالنسبة لأرسنال، قد لا يكون جيلبرتو اللاعب الأول الذي يخطر ببالك عندما تفكر في دوري اللا هزيمة. لكنه كان بلا شك أحد أهم الأسماء في هذا الإنجاز. لم يكن سيلفا جذابًا كروبيرت بيريس، ولا ضخمًا كباتريك فييرا، ولم يمتلك مهارة «بيركامب» ولا القدرة التهديفية العالية لتيري هنري، لكنه كان حصنًا وجدارًا غير مرئي ساعد هؤلاء جميعًا بجعلهم يفكرون بالتهديف فقط، وليس الدفاع والذود عن المرمى. مسيرة البرازيلي لم تمتد طويلًا بسبب تأخره في احتراف اللعبة، لكنه نجح في وقت قياسي في ترك بصمة مميزة من خلال إتقانه لعمله بالشكل الأمثل وبحرفية عالية.

لقد كنت دائمًا عاملًا، لم أكن أبدًا لاعبًا ماهرًا كما المعتاد في كرة القدم البرازيلية. لم أكن ذلك اللاعب وكنت أعرف ذلك دائمًا. أعلم أنه طوال الوقت سأكون خلف الخصم لأخذ الكرة. حاولت أن أتقن الأمر وأطوره باستمرار. كنت لاعبًا جماعيًا مستعدًا للمساعدة وللتضحية بنفسي من أجل الآخرين.
جيلبرتو سيلفا متحدثًا عن نفسه

«نيزيو» القيم والمبادئ

نشأ جيلبرتو سيلفا في قرية «لوسيايا» الصغيرة الواقعة في المناطق الداخلية للبرازيل. والده «نيزيو» عمل في مهن كثيرة، منها الحدادة وعامل في مصنع للسكر والكحول، وكانت والدته «ماريا إيزابيل» ربة منزل.

جيلبرتو سيلفا أثناء طفولته وشبابه

كان جيلبرتو طفلًا هادئًا يحب اللعب بالكرة دائمًا. هذا الأمر كان متاحًا بشكل كبير، حيث كان يركض حافي القدمين في مزرعة قصب السكر. كان يركل الكرة إلى وسط المزرعة ويبحث عنها، لكنه يعود متسخ الفم بسبب امتصاص القصب. كان الأمر كذلك بالنسبة له، كان بعضًا من التسلية والتلذذ بالطعم الحلو للقصب.

لم تكن حياة البرازيلي تحمل الطعم الحلو نفسه، فلديه بعض الذكريات والأوقات المريرة في طفولته من الفقر ومعاناة عائلته في تأمين لقمة العيش. أولها عندما رأى والده يعمل بجد لتقطيع قصب السكر لدعم المنزل المتهالك. والأخرى هي مرض والدته الذي جعله يبتعد عن ممارسة اللعبة عندما قرر وضع يده في يد والده في سن الـ 16 للمساعدة في دخل الأسرة.

بغض النظر عن الأموال التي قام بتأمينها لعائلته، فقد اكتسب جيلبرتو شيئًا يفوق قيمته تلك القروش. أمرًا أكثر قيمة، كالمبادئ والقيم التي تعلمها من والده.

بالنسبة لي، والدي هو بطلي ومرجعي في الحياة، الإنسان، الأب، الصديق، المستشار، كل شيء. إنه شخص ناضل دائمًا، ولم يشتك أبدًا من أي شيء في الحياة. على العكس من ذلك، عندما ازدادت الصعوبة، عمل بجد أكبر.
جيلبرتو متحدثًا عن والده

فطريقك طويل يا ولدي

كبر جيلبرتو بسرعة كبير أمام أعين والديه، وسرعان ما أراد الانضمام إلى إحدى فرق الهواة في المنطقة. بالنسبة للأطفال في سنه، كان سيلفا أطول من الأولاد الآخرين، حتى أنهم أطلقوا عليه «ديك الميدان» بسبب ساقيه الطويلتين، لكن لحسن حظه لم يستمر معه في باقي مسيرته المهنية.

للذهاب إلى ملعب التدريب كان يتوجب عليه الذهاب لمسافة 3 أميال برفقة صديقه كلاوديو. كان الأمر متعبًا بالنسبة لهما. فالذهاب عبر الحافلة يكلف الأموال، وشراء دراجة كان سيكلف عائلته عبئًا ماديًا هم في غنى عنه.

اضطر الطفل لترك المدرسة في الصف السابع والعمل لمساعدة والده في إعالة المنزل، فبدأ العمل وهو في الـ 11 من عمره. كان سيلفا يذهب من العمل إلى التدريب مباشرة رغم طبيعة العمل الصعبة في إحدى مزارع البن. يتذكر سيلفا أنه بعد أول أجر تلقاه من العمل قرر ابتياع دجاجة لكي تطبخها والدته عشاء يوم الأحد، ما أسعد والديه بأن طفلهما أصبح شخصًا مسؤولًا في سن مبكرة.

تنقل البرازيلي وبدل صنعته مرات عديدة خلال فترة قصيرة بحثًا عن أجر أفضل. من مزارع البن، إلى تنجيد الأرائك، وانتهاءً بورشات البناء. تعلم كثيرًا من الأمور وبات يعرف أكثر أن الحياة ليست مفروشة بالورود، ويجب عليك أن تحارب من أجل تأمين لقمة العيش.


«ماريا إيزابيل» من أجلك سأضحي

بعد إجرائه اختبارًا ورفضه في نادي أتلتيكو مينيرو، لم يستسلم وحاول مرة أخرى طرق الأبواب مجددًا. حزم سيلفا حقيبته وانتقل إلى بيلو هوريزونتي. بدأ التدريب في فئة الشباب، وعاش في مساكن النادي.

اعقتد الشاب أن حلمه بأن يصبح لاعبًا محترفًا أصبح مسألة وقت فقط. لكن دراما برازيلية عائلية جعلت الأمور تنقلب رأسًا على عقب وأجبرته على العودة. حيث أصيبت والدته بمرض الفشل الكلوي واحتاجت لزراعة كلية جديدة. أصبحت حياة عائلة سيلفا، التي كانت صعبة بالفعل أكثر سوءًا مع مرض الأم.

قضى جيلبرتو عدة أيام في التدريب قبل أن يقرر التخلي عن حلمه والعودة إلى لوسيايا. كان قرارًا بالغ الصعوبة، لكن قلبه من قرر ذلك رغم محاولة المدرب إقناعه بالبقاء. بهدوء كما عادته كان الشاب البرازيلي مستعدًا للتخلي عن حلمه بأن يصبح لاعبًا محترفًا في كرة قدم وهو في بداية الطريق.

“لأنني كنت الابن الأكبر شعرت بأنني مضطر للعودة إلى المنزل. لقد كان الوضع معقدًا في المنزل وتوجب عليَّ ترك كل شيء لمساعدة والدي في جمع الأموال لمعالجة والدتي. لم أكن أرغب في حصول حالة من الندم في المستقبل في حال حدوث أمر سيئ.
جيلبرتو متحدثًا عن مرض والدته

بمساعدة أصدقاء العائلة، تمكن الشاب من الحصول على وظيفة في مصنع للحلوى. لقد كسب مالًا أعان به والده الذي كان يضطر أسبوعيًا إلى ترك العمل من أجل السفر مع والدته مسافة 100 كم من أجل غسل الكلى.

سيلفا بقي بعيدًا عن اللعبة لمدة قاربت سنتين و5 أشهر. كان الأمر مدمرًا لأي شاب آخر لديه في مخيلته حلم صغير يطمح لتحقيقه ذات يوم. لكن كانت العودة حتمية لأنه حافظ على هذا الحلم في صندوق صغير يقبع في مخليته. سيلفا احتفظ بالمفتاح ولم يرمه بعيدًا لأنه كان متأكدًا من شفاء والدته وعودته إلى الملاعب يومًا ما.

شيئًا فشيئًا وصلت حياة العائلة إلى بر الأمان. تمكنت دونا ماريا إيزابيل من إجراء عملية زرع كلية. وظهرت الرغبة في اللعب مرة أخرى. أتيحت الفرصة للعب في نادي أميريكا وهو في سن الـ19، ووقع العقد الأول له كمحترف لكرة القدم.

لم نكن نرغب في تركه لكرة القدم، لكن قلبه جعله يعود إلى العمل ويساعدنا. كان مجتهدًا للغاية، وكان دائمًا يريد دعمنا جميعًا
ماريا إيزابيل عن ولدها جيلبرتو

طريق العودة

جيلبرتو سيلفا مع منتخب السامبا

كالغالبية العظمى من البرازيليين كان اللاعب المهاري هو التجسيد الحقيقي للرمز الكروي أمثال «زيكو» و«روماريو» و«رونالدو». عندما كان جيلبرتو طفلًا أحب طريقة لعب زيكو كثيرًا، وتمنى أن يصبح بمكانته وموهبته، لكن عندما بدأ بممارسة اللعل بشكل جدي تحولت أنظاره إلى «دونجا» كنموذج لقائد خط المنتصف، درس جيلبرتو تصميم دونجا وقدرته على استخدام الكرة، وحاول أن يتبع نفس النهج.

بعد توقيعه مع نادي أميريكا سرعان ما أثبت نفسه بسبب كسبه لثقة المدربين وقدراته الكبيرة في قطع الكرات والذود عن مرمى فريقه. كان بمثابة جندي يخوض الحرب دفاعًا عن بلاده بكل ما امتلك من عزيمة وقوة. لم يمض سوى موسمين حتى انتقل إلى أتلتيكو مينيرو أحد أكبر الأندية في البرازيل. رغم ابتعاده عن اللعبة خلال نشأته، لكنه أثبت نفسه بسرعة كبيرة بسبب هدوئه وانضباطه والتزامه بالقيام بواجباته على أكمل وجه.

لم يتوقع جيلبرتو الوصول إلى قائمة المنتخب بشكل سريع عند عودته للعبة، بكل تأكيد كان حلمه تمثيل السيليساو كما أي لاعب آخر، لكن بالنسبة للاعب شارك للمرة الأولى في الدرجة الأولى عام 2000 وهو في عمر الـ24 لم يكن يفكر بالمنتخب بالدرجة الأولى. لكن الصدفة والقدر كانا بجانبه كتعويض عن المعاناة والتضحية التي قدمها في شبابه.

قبيل انطلاق المونديال بأيام تعرض قائد المنتخب «إيمرسون» لإصابة في الكتف خلال إحدى الحصص التدريبية استعدادًا للبطولة. إصابة جعلت سكولاري يفكر كثيرًا بتعويض الخسارة الفادحة للاعب خبير كإيمرسون. كلا الخيارين المتاحين لا يمتلكان الخبرة الدولية، سواء «فامبيتا» أو «جيلبرتو»، لكن وقع اختيار المدرب على سيلفا لتعويض القائد.

سيلفا شارك في جميع مباريات البطولة بكل دقائقها دون أن يستبدل، وساعد منتخبه في حصد اللقب العالمي الخامس بعد الانتصار على المنتخب الألماني في المباراة النهائية.


مكافأة النجاح

جيلبرتو سيلفا, السامبا, منتخب البرازيل, كأس العالم, كرة القدم العالمية

بعد نهاية المونديال على الفور، قام أرسنال بالتوقيع مع البرازيلي بسبب المستوى المميز الذي قدمه خلال البطولة. كان الأمر بمثابة المكافأة للمجهود المميز للبرازيلي خلال 5 أعوام من عودته إلى اللعبة التي يحب.

لم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق. بيئة جديدة وثقافة مختلقة وفريق مميز يمتلك العديد من الأسماء اللامعة. لكن تمكن البرازيلي من حجز مقعد أساسي له منذ البداية وشارك مع فريقه في 35 مباراة منذ الموسم الأول له.

في عام 2004 تمكن البرازيلي من تحقيق لقب الدوري الإنجليزي بلا أي هزيمة طوال الموسم بفضل الثنائية المميزة بين جيلبرتو وفييرا. إنجاز لم ينجح فريق آخر في تحقيقه حتى يومنا هذا. عند مغادرة الفريق لملعب هايبوري عام 2006 شعر سيلفا بالحزن؛ لأن نجاحاته الكروية البارزة كانت هناك. كان الأمر عاطفيًا للغاية بالنسبة له وللجميع.

كان الأمر غريبًا لأننا لن نلعب هناك مرة أخرى. لم يكن أحد يريد مغادرة الملعب. شعرت بأن جزءًا من جسدي قد مات هناك
جيبلرتو متحدثًا عن مغادرة استاد هايبوري

لم يغير النجاح الكثير من ذاك الطفل الذي نشأ في لوسيايا، كان خجولًا هادئًا وغادر كذلك. خجله كان مستمرًا أمام الكاميرات، ولكن بعيدًا عنها داخل أرض الملعب كان عكس ذلك تمامًا. كرة القدم أتاحت له إمكانية مساعدة أسرته، وفتحت له الأبواب لمقابلة ثقافات جديدة ،لكن كل هذا لم يغير من معدن جيلبرتو وشخصه. برازيلي فخور بجذوره، عانى كثيرًا في نشأته، وحظي بحياة جيدة لاحقًا كانت أكثر حلاوة مما كانت عليه في الأيام التي عمل فيها في مصنع الحلوى.