في كل مرة أشاهد فيها شخصية «حسن النعماني» أو «أرابيسك»، كما كان يُطلق عليه في رائعة الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، أقع في أسر شباكها أكثر من ذي قبل. فحسن أرابيسك لم يكن مجرد شخصية عابرة في أحد المسلسلات الدرامية، بل رمز لكل هؤلاء الذين امتلكوا موهبة، في زمنٍ لا يعترف إلا بأشباه الأشياء والأشخاص.

امتلك أرابيسك موهبة فذة، لكنها لم تحُل بينه وبين وقوعه في بئر الزمان الغادر، وهو ما أنتج شخصية تمتلك موهبة لا يمتلكها أحد، لكن تشعر دائمًا بالمظلومية، وتلعن غدر الزمان.

لم يتعنت حسن النعماني في الاعتراف بحتمية دوران الزمان، لكنه رأى طيلة الوقت أنه كان يستحق أكثر من ذلك.

وهنا بالتحديد تكمن الرمزية التي أراد عكاشة إيصالها لنا، والتي مفادها:

أن العالم مليء بهؤلاء الموهوبين الذين لم يحظوا بما كانوا يستحقونه من تقدير، وذلك بسبب التغير الحتمي لقواعد الزمن، وأن التقدير لهم سيأتي لا محالة، لكن دون تحميل الجميع عبء مسئولية المظلومية.

دعنا نفتش في صفحات تاريخ الدوري المصري عن بعض هؤلاء المظاليم، الذين لم ينالوا نصف التقدير الذي يستحقونه، علَّنا نعطيهم ولو جزءًا قليلًا من هذا التقدير.

حسام باولو: وينفلت من بين إيدينا الزمان

وينفلت من بين إيدينا الزمان
كأنه سحبة قوس في أوتار كمان
وتنفرط الأيام عود كهرمان

بالتأكيد وبمجرد قراءة الاسم أعلاه، والذي يحمل اسم «باولو»، مرَّ على ذاكرتك تلك الثواني الشهيرة التي سقط فيها باولو بلفظ خادش للحياء على الهواء في أحد مداخلاته التليفونية، والتي ستصير بعد ذلك أشهر ما يُعرف به اللاعب، ويُذكر به الآن.

قصة باولو قصة «أرابيسكية» بامتياز، لعب الزمان فيها دور البطولة، فهو المهاجم الذي ظهر فجأة في الدوري المصري موسم 2014-2015 وأحرز لقب هداف الدوري حينها برصيد 20 هدفًا رفقة فريق الداخلية. لم يتوقف الإبهار عند هذا الحد، حيث حقق لقب الهداف مرة أخرى في الموسم التالي رفقة فريق سموحة برصيد 17 هدفًا.

لكن لكي نصل إلى هذه المحطة التي لمع فيها نجم باولو، مرَّ حسام على جسر الكثير من مآزق الحياة، وترك الزمان ندوبه على جسده، لكن بدون هذه الندوب ما كنا لنكتب عنه الآن بصفته أحد هؤلاء الموهوبين المظاليم.

بدأ شغفه بكرة القدم منذ طفولته، لكنه ما إن أراد أن يحترف اللعبة حتى اصطدم بواقعها المرير في اختبارات ناشئي الأهلي والزمالك، ففشل في كليهما، ليحول ناظريه صوب الكرة الطائرة، والتي تعثر فيها مشواره أيضًا.

لم تُثنِ السنوات الطويلة باولو عن حلم احتراف كرة القدم الذي راوده من صغره، لكنه تيقن أن لا سبيل لذلك الحلم سوى الطريق الصعب، فقرر أن يخوضه غير آبه بما ستئول إليه النتائج نهايةً.

كانت البداية مع مركز شباب صنافير، ورحل منه إلى مركز شباب قها، ثم إلى فريق نادي طوخ في الدرجة الثالثة، ومنها إلى نادي منوف، الذي أدى تألقه معه إلى تقديم نادي غزل المحلة عرضًا لشرائه، إلا أن تأخر طوخ في الرد، دفع الغزل لسحب العرض، ليقرر باولو ترك الكرة.

ترك باولو كرة القدم لمدة عام، ثم عاد من بوابة نادي سكر أبو قرقاص، ليتألق معه وينتقل إلى نادي سكر الحوامدية، ومنه إلى نادي الشمس.

لفت باولو الأنظار إليه مرة أخرى، وأراد نادي الداخلية بقيادة علاء عبد العال التعاقد معه، لكن نادي الشمس طلب مبلغ 56 ألف جنيه قيمة ما تقاضاه باولو مع الفريق، ووافق الداخلية على دفع المبلغ، لكن نادي الشمس أراد 7 آلاف جنيه أخرى قيمة المكافآت، فاضطر باولو لاقتراض مبلغ من صديق، وباعت زوجة شقيقه سلسلة ذهبية لمساعدته في تحقيق حلمه باللعب في الدوري، وسدد المبلغ لناديه القديم، وتحقق حلم باولو للعب بالدوري في عمر الـ30 سنة.

حقق باولو لقب هداف الدوري مرتين متتاليتين، وهو ما جعل نادي الزمالك يسعى للتعاقد معه بمبلغ 7 ملايين جنيه وهو في سن الـ 34 عامًا.

خلال 4 أعوام، لعب حسام باولو مع 4 أندية مختلفة في الدوري الممتاز، قبل أن ينتقل إلى نادي الترسانة في عمر 37 عامًا، ويرحل منه إلى فريق بايونيرز، ومنه إلى القناة.

قاد باولو منتخب مصر لكرة القدم الشاطئية إلى نهائي تصفيات كأس العالم في السنغال، وسجل 9 أهداف، احتل بها وصافة هدافي البطولة، وقاد المنتخب نحو كأس العالم 2023 لأول مرة في تاريخ مصر، ليثبت باولو أنه حتى ولو انفلت الزمان من بين يديه، فهو أحد هؤلاء الموهوبين العظام الذين مروا على كرة القدم المصرية، وتستحق قصصهم أن تُرى دائمًا.

محسن هنداوي: شاب الزمان وشقيت

شاب الزمان وشقيت .. مش شكل أبويا
شاهت وشوشنا تهنا بين شين وزين
ولسه ياما وياما حنشوف كمان

إذا كنت أحد هؤلاء المتابعين للدوري المصري في عشريته الذهبية من بداية الألفية لما بعد عام 2011، فبالتأكيد تعرف تمام المعرفة الاسم أعلاه، محسن هنداوي.

هنداوي هو أحد أبرز هؤلاء المظاليم الذين نتحدث عنهم. ظهر هنداوي مع فريق غزل المحلة موسم 2000-2001، وقدم مواسم قوية معه في مركز الظهير الأيمن، كان أبرزها قيادة الفريق للحصول على المركز الرابع في موسمين.

لعب هنداوي أيضًا لفرق طلائع الجيش من 2008 إلى 2010، وسموحة من 2010 إلى 2013، ثم عاد إلى فرق الدرجة الثانية والثالثة أمثال: السكة الحديد، ودسوق، وغيرهما.

لم يكن هنداوي مجرد ظهير مر مرور الكرام في الدوري المصري، بل كان أحد الأظهرة القلائل الذين جمعوا بين السرعة الفائقة، والمهارة، إضافة إلى إمكانية لعبه في أكثر من مركز، وإتقانه للضربات الثابتة، فهو أول لاعب يسجل ثلاثة أهداف من ضربات ثابتة في الدوري المصري في مباراة واحدة، وهو السبب في تسميته بـ «بيكهام مصر».

كان هنداوي أغلب الوقت محط أنظار الأهلي والزمالك، وفرق الخليج، لكن الفرصة لم تسنح أن يُمثل أحد هذه الفرق، لكن ذلك لم يمنع أن يُشيد به نجوم هذه الفرق.

هنداوي هو أصعب ظهير أيمن واجهته في مسيرتي الكروية.
سيد معوض

بابا أركو: وندور نلف ما بين حقيقة وظنون

ويرفرف العمر الجميل الحنون
ويفر ويفرفر في رفة قانون
وندور ونلف ما بين حقيقة وظنون

دار الزمان ولم يعد الدوري المصري عامل جذب للاعبي الصف الأول الأفارقة، وعند مقارنة اللاعبين الحاليين بالسابقين نتذكر جميعًا بحسرة لاعبين أمثال: فلافيو وجليبرتو وإيمانويل أمونيكي أو جون أوتاكا وغيرهم من الأفارقة الذين سطروا تاريخًا طويلاً في الكرة المصرية.

لكن عند الحديث عن اللاعبين الأفارقة الذين صالوا وجالوا في الدوري المصري، وبما أننا نتحدث عن المظاليم، فلا بد أن نقف عند أحد أهمهم، وأحد أكثرهم تأثيرًا في بطولة الدوري المصري، وهو الغاني «إرنست بابا أركو».

بابا أركو الذي تألق بقمصان طلائع الجيش، سموحة، المقاولون العرب، وأخيرًا الإنتاج الحربي، وسجل خلال هذه الرحلة الطويلة 61 هدفًا، كأكثر الأجانب تسجيلًا للأهداف في الدوري المصري، منهم 12 هدفًا في موسم 2008-2009 الذي كان هدافه، قبل أن يكسر هذا الرقم، الغاني الآخر جون أنطوي.

تعود بداية بابا أركو لعام 2004، عندما شاهده أحد مسئولي نادي الزمالك، خلال مباراة لمنتخب غانا تحت 20 عامًا، ضد منتخب مصر في الإسكندرية، لكنها لم تكن البداية التي تمناها، حيث وجد نفسه حبيسًا لمقاعد البدلاء، ليقرر الرحيل إلى طلائع الجيش.

 من هنا كانت بداية هذه الرحلة التاريخية، التي قرر فيها طواعية عدم الانضمام للأهلي أو الزمالك، حتى يستمر في المشاركة الأساسية، وتحقيق الأهداف، ليكتب أحد أكثر القصص تأثيرًا في تاريخ الدوري، وأكثرها مظلومية لعدم تسليط الضوء الكافي عليها.

أحمد عبد الغني: ما دريتش مين بلياتشو أو مين رزين

الغش طرطش رش ع الوش بُوية
ما دريتش مين بلياتشو أو مين رزين

بالنظر إلى جودة المهاجمين المصريين في الوقت الحالي، لم نجد أنسب من الكلمات السابقة لوصف الحال، فما أكثر المهاجمين الذين ينتقلون من صفوف أحد الأندية إلى الأهلي أو الزمالك، بمبالغ خيالية، والنتيجة لا شيء يُذكر، سواء مع هذه الفرق أو في البطولات القارية مع المنتخب المصري.

وعند ذِكر الأيام الخوالي للمهاجمين المصريين، من مطلع الألفية وحتى ما بعد 2011، يمكننا أن نُعدد عشرة مهاجمين على الأقل جميعهم أقوى بكثير من المهاجمين الحاليين، لكننا سنتحدث عن واحد منهم فقط للتدليل على ذلك، وهو أحمد عبد الغني، الهداف التاريخي لفريق حرس الحدود، الذي لم يكن حينها يعتبر حتى المهاجم رقم خمسة في ترتيب مهاجمي المنتخب.

عبد الغني هو الهداف التاريخي لحرس الحدود بـ 52 هدف في الدوري الممتاز و12 هدفًا في كأس مصر و10 أهداف في الكونفدرالية الأفريقية، وكان ضمن تشكيلة المنتخب الوطني في كأس القارات 2009 بجنوب أفريقيا، وتواجد في صفوف المنتخب منذ انضمامه لحرس الحدود وحتي عام 2009.

كان عبد الغني أحد أهم عناصرالتشكيلة الذهبية لحرس الحدود، والتي تمكنت من إحراز بطولة كأس مصر 2009، و2010، والفوز أيضًا ببطولة السوبر المصري 2009 .

لم تنتهِ قائمة المظاليم عند هذا الحد، بل لا نزال في بدايتها، وما تطرقنا إليه هي فقط أمثلة قليلة للاستدلال على جودة هؤلاء المنسيين في تاريخ صفحات الدوري، لكننا لن نتركك كذلك ونرحل، قبل أن نسألك سؤلاً مهمًّا؛ هل تظن أنه في العشر السنوات الأخيرة في الدوري المصري يوجد أحد اللاعبين يمكن وضعه في هذه القائمة؟

نعتقد أن الإجابة كانت عند حسن أرابيسك أيضًا، عندما حدث نفسه ذات مرة قائلًا:

ده مش زمانك يا حسن يا أرابيسك، ده زمان رمضان الخضري.

وللعلم أن رمضان الخضري كان الرجل الذي هجر فن الأرابيسك واتجه لنقش الأشكال الجديدة الخالية من أي صنعة أو أي فن يُذكر، لكن الجمهور الحالي يفضلها، باعتبار الأرابيسك موضة قد ولى الزمان عليها.