بضع عشرات من الأمتار، وبضع دقائق من المسير، وعمر طويل من الانتظار… هذا هو الطريق الذي قطعته «هديّة» لتصل إلى بيت السيد «حسن مصطفى».[1]

اقتربتْ من المبنى الصغير وأطلّت من شبّاك مفتوح على ما بدا لها غرفة جلوس في مدخل الدار، فشدّت طرف طرحتها البيضاء على وجهها، تحاول إخفاء بعضه أو كله. وخطت الخطوات الباقية حتى الباب ببطء وحكمة، وجدت الباب مفتوحًا فوقفت على عتبته.

– صباح الخير

– صباح النور هديّة، تفضّلي.

– عمي حسن، أريد أن أكلّمك.

نظر إلى الإصرار الواضح في ملامحها، فأراح هو ملامح وجهه من المفاجأة، ونظر إليها مبتسمًا.

– عمي، سجّلني في مدرسة البنات.

انطلقت من الرجل ضحكة عالية قصيرة.

– المدرسة الابتدائية يا هديّة؟

– نعم، أريد أن أقرأ.

– فقط؟ ولا تريدين أن تكتبي؟

– أريد أن أقرأ، ويمكن في المقابل أن أساعد في المستوصف، وسأكون أفضل إذا تعلمت في المدرسة.

نظرت إليه نظرة خجولًة مخلوطة بحزن ورجاء. لم تكن بحاجة الى عرض صفقة عليه كي يقتنع بطلب إنسان أن يتعلم. هديّة قد اقتربت من الثلاثين أو تخطّتها، فهي مناسبة لمشروع تعليم آخر، لن يتحقق في القريب. لكن لهذا بقي هو وبقوا جميعًا، لهذا أشعلوا قناديل بيوت القرية المهجورة أثناء الحرب، ولهذا نشروا غسيلهم على الحبال، كي لا تضيع القرية فيضيعوا، فأن تُصنّف في النهاية كنصف لاجئ أفضل من أن تصنّف لاجئًا كاملًا.

ما زال لا يفهم معنى أن تكون لاجئًا في بلادك، لكن الناس حولهم أصبحوا لاجئين، وحيرته في الأمر لا تضير الواقع ولا تغيّره. التظاهر بالحياة هو الذي ردع عدوهم المتربّص عن الاقتراب منهم. والآن على الحياة نفسها أن تستمر، وكي تستمر عليهم أن يتقدموا، وكي يتقدموا، على البنات أن تتعلّم، فكيف يردّ طلب هديّة؟

أجابها بعد تردّد قصير وجدل مع ذاته:

– اذهبي إلى الدوام من الغد، سأكون هناك لترتيب الأمور، لا تقلقي.

شكرته بعينيها وزادت شكرها بالكلام. ثم خرجت مُسرعة بالغنيمة خشية سرقتها أو ضياعها. لا تستطيع وصف قبولها للتعليم في مدرسة الوكالة، لا تجد الوصف المناسب للنشوة. إذ مرت أربع سنوات منذ افتُتِحَت مدرسة البنات الأولى في القرية، وولدت الفكرة في قلبها وكبرت يومًا بعد يوم، هي أيضًا تريد أن تقرأ. كم من عقاب عليها أن تُعاقب لأنها ولدت في الزمن الخطأ؟ هي تريد أن تقرأ.

بحثت الأمر مع نفسها طويلًا وأصبحت المدرسة وما يدور حول المدرسة شغلها الشاغل، تتحيّن الفرص لتقترب، تشترك بتشجيع أقاربها على بعث بناتهم للتعليم في المدرسة. وفي طريق العودة من الأرض مُحمَّلة بالخضار والتعب، تتوقّف لتكتشف الصف والمعلمة من بعيد. خلا بيتهم الصغير إلا منها ومن أمها من بعد وفاة أبيها. مات في الخامسة والخمسين من عمره، عام بعد رجوع أهل القرية إلى بيوتهم وعام بعد قرار التقسيم. ليجد أرضه مرهونة عند اليهود خلف الحدود. كان يردد كل يوم:

سأموت قهرًا. إن وصلت إلى أرضي بإذن وتصريح سأموت، وإن لم أصل سأموت.

فنام يومًا ولم يقم. قهروه بالحدود وقهروه بـ هديّة، المعقود قرانها على ابن خالتها من «بيت صفافا»، العروس المتروكة دون عرس في انتظار عودة بلادها وعودة عريسها. كان «أحمد» محاربًا، خرج من قريته في بداية الحرب وانقطعت أخباره مبكرًا. وبعد وقف إطلاق النار انقطعت أخبار بيت خالتها أيضًا، فقد مرت الحدود الجديدة في قلب قرية أحمد وفي قلب هديّة. ووصل خبر عودته إلى بيت أهله بعد وفاة أبيها بعدة شهور، قد نجا.

تجمدت حياة هديّة في الوقت الذي بدأت فيه القرية تتعافى ببطء نحو واقعها الجديد. يُتْم جماعي، اكتسبت لغتهم من خلاله كلمات جديدة، تحمل دلالات باقية فيهم. اعتادها الكبار سريعًا وتشرّبها الصغار مع المفردات الأُوَل. مهجّرون ولاجئون وحكومة ووكالة ووقف إطلاق نار ووثيقة. لم تنشغل هديّة بمعنى الكلام ولا بانتصار القرية الصغيرة ببقائها وبقاء أهلها فيها. فانسابت الكلمات الجديدة من فمها بسلاسة مثل الجميع، وانسابت منها أيضًا أنوثنها وأمومتها. في ثالث أيام العزاء، انتبهت إن دورتها انقطعت منذ شهور، لم تنتبه لذلك من قبل أو لم تدرك أن هذا ما حدث، وكأن الفقدان يبحث عن الفقدان.

اغتالتها موجات حر مقيتة خارجة عن منطق فصول السنة وعن سيطرة هواء القرية البارد. فسّر الجميع أن مزاجها وحزنها المكتوم هما لاختفاء أحمد ومن ثَمَّ أبيها. لم تخبر أحدًا حتى وصلت الرسالة من أحمد، يومها أخبرت أمها، فأضافت الأم لطمة أخرى على خدها المحمر من لطمات الخبر في الرسالة.

– حسرة عليك يا هديّة، حسرة عليك. مثل عمتك صفية، لكنها كانت مع ثلاثة أولاد في سنك.

دخلت هديّة البيت، فوجدت أمها جالسة على الأرض مشغولة بتنظيف حبوب العدس المنثورة في صينية معدنية قديمة. تماسكت وحبست فرحتها وأخرجت صوتًا هادئًا عميقًا.

– عندي خبر.

– وعليكم السلام

– السلام عليكم يا أم صالح.

جلست بقربها، والتصقت بها كما كانت تفعل وهي طفلة، وأمسكت بطرف ثوبها وعدّلت لها طرحتها.

– خير يا هدية. ما عندك؟

– سأذهب إلى المدرسة، مدرسة البنات، من الغد.

واصلت يدا الأم حركتهما الدورية، تنغمسان في الصينية وتخرجان منها لتقذفا الشوائب في صينية قش صغيرة.

– طيب، وما عملك في المدرسة؟

– سأتعلّم مع البنات.

توقفت دورة اليدين وهما في الهواء، ثم سقطتا على جانبي الأم.

– سأتعلم القراءة والكتابة.

– إخوتك لم يبعثوا بناتهم، وأنت تريدين أن تتعلّمي في المدرسة؟ ومن سيقبلك في سنك هذه؟

وصلت مرارة السؤال إلى هدية.

– يجب أن تذهب البنات إلى المدرسة. أمّا أنا، فعمي حسن وافق وسيساعدني غدًا.

– القوّة لله. متى رأيته؟

– اليوم. اليوم.

نهضت من جانبها وابتعدت عنها ببطء.

– أريد أن أعيش، من عشر سنين مضت وأنا أريد أن أعيش. من بعد الحرب ومن بعد ما طلقني أحمد غيابي ليعطيني حريتي، وأنا لا أتنفس. رجعنا على دورنا؟ لكني لم أرجع، راح أحمد وراح أبي وراح عمري وعجّزت في العشرين، لا أملك شيئًا في هذه الدنيا.  سأساعد في الأرض قبل الدوام وبعده، بلّغي إخوتي.

بيتهما غرفة واحدة للنوم والمعيشة وبجانبها مطبخ صغير وأمامها ساحة. تضاءل البيت بعد زواج الإخوة واقتطاع غرفِهِ وموت أبيها. تنازلت أمها عن كل شيء إلا عن ساحة البيت، وأوضحت للجميع أن ساحة الدار لها ولـ هديّة، وكل الباقين ضيوف. وهكذا بقيتا حرتين في الساحة، لهما الزرع والعتبة والسماء والقطار. تتسليان بمراقبته وهو يمشي بحذر فوق سكة الحديد أسفل الوادي.

دخلت الغرفة وتحسست في جيب ثوبها ورقة صغيرة لا تفارقها أبدًا، خشية أن تقع في يد أحد. سيدعمها الأستاذ «حسن»، لن يتنازل عنها، سيقنع إخوتها وسيبقيها في المدرسة، وستقرأ، وربما ستكتب أيضًا، وربما ستعمل في المستوصف الجديد، وربما أشياء أخرى كثيرة ستحدث لها بعد سكون طويل. سمعت صوت أخيها صالح يناديها، فخرجت إليه جاهزة بكل الردود لكل الأسئلة. وبادرته هي بالكلام:

– لا تقسُ أنت أيضًا يا صالح، تكفيني الدنيا.

– لماذا يا هديّة؟

– لأنّ هذا الشيء الوحيد الذي أريد.

– سيتحدّث الناس بك وبنا.

– ثم ينسونني كما نسَوْني من قبل، هم لن يؤذونني، إلا إذا تخلّيتم أنتم عني. فهل ستحميني منهم؟

في الصباح توجّهت إلى المدرسة، وانتظرت قرب الباب، ولم يخب ظنها أبدًا. كان الأستاذ «حسن» هناك، وبعد همسات قليلة مع معلّمة الصف الأول، شابة رقيقة من بيت جالا، دنت منها قائلة:

– هديّة أدخلي الصف الآن، وتعالي إلى بيت المعلمات بعد الظهر، ستقرئين قريبًا جدًا، أعدك.

– سلمتِ وسلمتْ يداك، أنا شاطرة يا معلمة، لا تخافي. وسأساعدك مع البنات الصغار في الصف.

لم تقترب هديّة من الرسالة طيلة شهور التعليم، عزمت على ألّا تفتحها حتى تتقن القراءة. ففي العشر سنين الماضية لم يمر يوم لم تفتحها فيه، تتأمّل الحروف الموصولة دون أن تميّز بينها، تتراءى لها كرسم مطبوع في روحها، لا تحتاج لفتحه بعد الآن لتقرأه، فكلّما تعلمت حرفًا جديدًا قرأته من ذاكرتها، وبدأت ألغازُ الرسالة تتبيّن لها كلمة كلمة. خرجت اليوم مبكرة جدًا، تحمل جرّتها، ومرّت عن العين وعن البركة وصعدت الطريق الجبلي بحذر شديد، حتى وصلت الى الركن المقصود، تجويفه جميلة في بطن الجبل. مجلس جميل محفور يطلّ على الدنيا وما فيها، على جبال «الوَلَجِة» والوادي ومدرجات الزرع الخضراء التي تقابل الشمس كل يوم، وهي مُهندمة كصبية عمرها ألف عام. ما إن وصلت حتى كان الضياء قد عمّ المكان، فاتّخذت موضعها في التجويف تمامًا كما تخيّلت نفسها من قبل، وفتحت ورقة صغيرة تعلو أطرافها صُفرة واهتراء.

إلى هديّة،
البلاد في خطر. سقطت القسطل، ولا نعرف ما الذي يجري. أكتب لك هذه الرسالة لأنّ الأوضاع تسوء.
فإذا اختفيتُ وكنت ميتًا، فأعرفي أني أحبك، ولم أقدر أن أصل إلى «بتّير». وإذا اختفيتُ وكنت حيًا، فاعرفي أني أحبك ولم أقدر أن أصل إلى بتّير.
أحمد الخطيب.

طوت الرسالة برقة بين أصابعها، أشبعتها كلمة أحبك في الخيال وعلى الورق. قد أصابت حين قرّرت ألّا يقرأ أحد الرسالة غيرها، فماذا كان سيظن بها من يقرأها بعد اعتراف الحب المكتوب، هكذا صانت نفسها وسمعتها. ففي الجانب الأزرق من الخط الأخضر حيث شقّوا قريته إلى شقيّن، بقي أحمد حيًا ويحبها، هو متزوج ويحبها، هو أب ويحبها، هذا ما تقول الرسالة، وهي تصدّق كل ما تقرأ.

«تمت».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. حسن مصطفى: ولد في قرية بتير-لواء القدس عام 1914. صحافي ومثقف فلسطيني، عمل في عدة صحف ومجلات وفي إذاعة الشرق الأدنى. وبعد النكبة عمل في وكالة الغوث حتى توفي عن عمر يناهز الـ 47، عام 1961. تصفه دائرة المعارف الفلسطينية بأنه: «متعدد المواهب والاهتمامات، وأول من سعى لفتح مدرسة للبنات في قريته بجهود ذاتية، وساهم فعليًا في مقاومة الاقتلاع والتشريد وإعادة من هاجر من قريته والصمود فيها».