تشغل هايتي ثلث مساحة جزيرة هيسبانيولا الواقعة بين كوبا وبورتوريكو. تتقاسم الدومينكان الجزيرة مع هايتي، ويسكن هايتي قرابة 11.5 مليون مواطن. هايتي هي أول جمهورية سوداء تحصل على استقلالها. ففي عام 1804 حصلت أخيرًا على استقلالها من المحتل الفرنسي الذي احتلها بعد الإسبان.

لكن استقلالها لم يعنِ بداية الازدهار كما كانت تتوقع، بل رزحت الدولة تحت صخرة الجباية الفرنسية والديكتاتورية الداخلية. فلم توافق فرنسا على منحها حريتها إلا بعد فرض ضريبة وصلت إلى 90 مليون فرنك ذهبي. رقم ضخم ظلت هايتي تسدد فيه قرابة قرن ونصف. في تلك الأثناء لم تكن حتى الحكومات الداخلية عاملًا مساعدًا لأبناء الوطن على تحمل مصاعب الحياة، بل كانوا صخرةً إضافية على صدورهم.

فأضحت هايتي أفقر دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. يعيش 60% من سكانها تحت خط الفقر. وتحتل مرتبة شديدة التأخر فيما يتعلق بالتنمية، فطبقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي فإنها تقع في المرتبة 170 من أصل 189 دولة. ولا تستقر أوضاعها عند درجة واحدة من التردي، بل تستمر المعدلات المتعلقة بها في الانكماش عامًا بعد الآخر. فالناتج المحلي الخاص بها انكمش بنسبة 3.8% عام 2020. وأدى جائحة «كوفيد- 19» إلى انهيار البنى التحتية الهشة وتفاقم التدهور الاقتصادي.

من المصاعب التي تحيا هايتي في ظلها دائمًا هي صعوبات الطبيعة وكوارثها. فـ96% من سكانها يتعرضون لكوارث طبيعية باستمرار. ففي يناير/ كانون الثاني عام 2010 ضُربت العاصمة بورت أُوبرنس بزالزل ضخم بلغت قوته 7 درجات كاملة على مقياس ريختر. أسفر الزلزال عن مقتل 200 ألف شخص، وجرح 300 ألف، وتشريد أكثر من 1.5 مليون إنسان. ليس الزلزال وحده من قتل هذا العدد الضخم، بل يقع النصيب الأكبر على عدم الاستقرار السياسي الذي أدى لتأخر المساعدات الدولية التي وعد بها العالم، أو كانت الصدمة بعدم وصول تلك المساعدات للضحايا من الأساس.

فرق الموت تحكم

التردي السياسي بدأ في هايتي مبكرًا للغاية. بدأه فرانسوا دوفالييه المعروف شعبيًا باسم بابا دوك. الذي حكم البلاد في الفترة ما بين عامي 1957 و1971. ثم تلاه ابنه جان كلود دوفالييه، المعروف شعبيًا باسم بيبي دوك. كان الابن في عمر الـ19 عامًا حين ورث عن أبيه منصب الرئيس مدى الحياة عام 1971.

اتهم الاثنان بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان والقمع أثناء الحكم. ولم يكن الشعب يطيق الحكم من قبل دوفالييه مدى الحياة فقاموا بانتفاضة شعبية ألجأته إلى الهرب إلى فرنسا. لكنه عاد إلى هايتي مرة أخرى بشكل مفاجئ عام 2011، بعد قرابة 25 عامًا في فرنسا. لكنه ظل طوال تلك الفترة ينفي أي مسئولية عن أي أحداث حدثت في عهده أو عهد والده، وينسب الأمر للشرطة السرية التي أجبرتهما على الحكم بطريقة معينة.

الشرطة السرية أو الميليشيا أو فرق الموت، ليست سوى أسماء مختلفة لعصابة واحدة أسسها دوفالييه الأب أثناء فترة حكمه. ساعدته تلك الفرق على التخلص من معارضيه السياسيين، وفرض حالة من الإرهاب على المواطنين. كان فوز دوفلييه الأب من الأساس قائمًا على أساس وعود بمنح الأفارقة في هاييتي حقوقًا أكبر من المولاتو، العرق الأكبر في البلاد، الذي انتمت إليه معظم الحكومات.

فاز الأب عام 1957 بالانتخابات، لكن على إثر محاولة انقلابية عليه عام 1958 أعلن الرجل حالة الطوارئ بالبلاد. وأجبر البرلمان على منحه صلاحيات كاملة وصلت إلى السلطة المطلقة. حينها بدأ الرجل يستخدم الجيش النظامي دون مواربة في إزاحة معارضيه السياسيين.

الغرب يغض الطرف

ولكي يضمن صمت كافة الشعب قام بإنشاء ميليشيا مسلحة تتكون من آلاف العناصر. وعلى مدار فترة حكمه كانت تلك الميليشيا هي ذراعه في قتل وإرهاب الجميع. لكن خوفًا من وصول الثورة الكوبية والشيوعية إلى هايتي قامت الولايات المتحدة وكندا بدعم دوفلييه بكل ما يريد، وغضت الطرف عن جرائمه. فقام الرجل بحل البرلمان ولاحق الكنيسة الكاثوليكية باعتبارها كيانًا قادرًا على الحشد ضده.

بهذا القمع الأعمى قام عشرات الآلاف من الهايتيين بالفرار للولايات المتحدة وكندا. استقبلت الدولتان الموجة الأولى من الهجرة بحفاوة بالغة بسبب احتوائها على أطباء وحرفيين في مجالات متعددة ويتقنون الفرنسية والإنجليزية. لكن أثارت الموجة الثانية سخطهم بسبب احتوائها على مواطنين عاديين لا يتقنون حرفًا ولا لغات سوى لغتهم المحلية.

لم يبال الرجل برحيلهم بل استغل فراغ البلاد وأجرى استفتاء ليكون بموجبه الرئيس مدى الحياة فاز فيه بنسبة 99.99%. وعمد الرجل لتغيير ألوان العلم. والأهم أنه عين ابنه خليفة له، فحكم الابن بنفس سياسة الأبيه. ورغم سقوط نظام الابن عام 1986 فإن الجماهير لم تنس أن الأب هو السبب في كل ما حدث، فهاجموا قبره واستخرجوا جثمانه ومثلوا به.

انقلاب واغتيال وثورة

لم يفارق التردي السياسي ذلك البلد الصغير. ففي عام 1990 تم تنصيب القس جان برتران رئيسًا في أول انتخابات حرىة تشهدها البلاد. لكن بعد مضي عام واحد أُطيح به عبر انقلاب عسكري ونفاه. ظل الرجل 3 سنوات في منفاه إلى أن عاد إلى هايتي مرة أخرى بتدخل أمريكي. وبعد 4 سنوات تولى رينيه بريفال السلطة، كان مقربًا من القس جان.

بعد خروج رينية من الرئاسة عام 2001 تولى جان برتران السلطة مرة أخرى بانتخابات شعبية. لكن بعد 3 سنوات استقال الرجل. كانت الضغوط تحاصره من كافة الأطراف، الأمريكية والكندية والفرنسية، والأهم أن تمردًا مسلحًا ثم ثورةً شعبية قاما في فترة حكمه الأخيرة فلم يجد الرجل مناصًا من الاستقالة عام 2004 والذهاب إلى المنفى.

عاد رينيه إلى السلطة مرة أخرى عام 2006، ليكون بذلك الرئيس الهايتي الوحيد الذي أكمل مدتين رئاسيتين بشكل دستوري وشعبي. بعد رينيه ذهبت الرئاسة إلى جوفينيل مويز عام 2017. لم تذهب بسلاسة، بل دخلت البلاد في أزمة انتخابية طويلة وطاحنة. أدت تلك الأزمة إلى عدم وجود برلمان بالكامل عام 2020. ظل مويز في الحكم حتى أصدر القضاء في فبراير/ شباط 2021 انتهاء ولايته.

لم يستجب مويز للحكم وأصر أنه لم يزل لديه عام في السلطة. أتت تلك القناعة من أن الرجل أُنتخب عبر اقتراع شعبي، ثم ثارت اتهامات بالتزوير، فأُلغيت نتائج الاقتراع وأُعيد مرة أخرى. ففاز الرجل في الانتخابات الجديدة، فرأى أنه ولايته بدأت بالاقتراع الجديد، بينما رأى القضاء أن العام الذي سبق الاقتراع كان ضمن ولايته. وصولًا لحل وسط عيّن مويز رئيسًا للوزراء يشرف على تنظيم انتخابات جديدة، لكن بعد يومين فقط من تعيين رئيس الوزاء اُغتيل مويز في منزله.

الأمم المتحدة نشرت الكوليرا

بعد ذلك الحادث بات رئيس الوزراء أريل هنري هو المفوض من الحكومة بقيادة الدولة والتحدث باسمها دوليًا. لم تسعفه الأيام كثيرًا فغرق في أزمات أكثر. وجه الرجل نداءًا دوليًا طلبًا للمساعدة الخارجية، ولو بالتدخل العسكري في البلاد. فقد قامت العصابات المسلحة بإغلاق محطات الوقود الأساسية في البلاد، ما أدى لشلل كامل في كافة الخدمات والإمدادات اللوجيستية.

لم ترد الدول الغربية على هذا الطلب لأنها تطلب تأمين فرقها التي ستقوم بالأعمال الإغاثية أولًا. خصوصًا أن الأوضاع المتردية وصلت إلى قيام العصابات المسلحة بإغلاق المستشفيات وخدمات النقل العام. جانب من تلك الأفعال هو احتجاج على قرار رئيس الوزراء برفع الدعم عن الوقود ما أدى لارتفاع الأسعار بنسبة كبيرة. فانتشرت أعمال النهب، فقد نُهبت مواد غذائية من متاجر كبرى وصلت إلى 5 ملايين دولار أمريكي.

المهمة الأممية لحفظ السلام إذا دخلت لهايتي فلن تكون تلك هي مرتها الأولى، فقد خرجت من البلاد منذ 5 سنوات فقط. خرجت قوات الأمم المتحدة جراء السخط الشعبي بسبب تفشي وباء الكوليرا. وقد اعترفت تلك البعثة عن مسئوليتها عن تفشي الوباء، ما أدى لمقتل 10 آلاف شخص. لكن قيام العصابات بمنع إمدادات المياه النظيفة سببًا إضافيًا لانتشار الوباء بصورة أكبر.

لا يبدو أن الدولة توشك على الإفاقة من عثرتها. وأن ما غرسه الاستعمار والدكتاتورية من بعده لن تختفي آثاره قريبًا. فعلى البلاد أن تعيش أيامًا أسوأ، وأن ترى في التدخل العسكري الخارجي ملاذًا أخيرًا لحل معضلة مستعصية سببها هو التدخل الخارجي والاحتلال في البداية. لكن ما يدعو به كل سكان هايتي أن تترأف بهم الطبيعة، ولا ترميهم بزلزال جديد كالذي حديث في الأسابيع الماضية وأودى بحياة 2200 شخص.