الزمان: الثالث من سبتمبر/أيلول 2018، المكان: العاصمة أمستردام، الحدث: حفل توزيع جوائز الدوري الهولندي. يستعد مراسل شبكة BeIN sports «عبد الإله العافري» لبدء حوار صحفي مع الفائز بجائزة أفضل لاعب بالبطولة. إنه «حكيم زيّاش»، صانع الألعاب الذي حضر رفقة والدته ووكيل أعماله «مصطفى النخيلي». يسأله العافري: لمن تهدي جائزتك؟ ليرد حكيم: بالطبع لوالدتي. ثم يسأل الوالدة عن شعورها، لتبدأ في الحديث بلهجة مغربية واضحة: أنا فخورة بالزاف. وأخيرًا يلتفت نحو مصطفى ليسأله عن انطباعه، فيجيب: حكيم وصل لتلك المكانة بتصميمه، وبدعم أسرته. هذه الكلمات التي اختارها النخيلي ليست جديدة، وتتكرر عادة في مثل تلك المناسبات، إلا أنها تعبر هذه المرة فعلًا عن التحول الضخم في مسيرة زيّاش. تلك المسيرة التي لم تبدأ أبدًا بهذه الصورة الرائعة، بل بدأت في أجواء من الاضطراب والتشتت كادت تعصف بموهبة حكيم بعدما تورط في عالم المخدرات والجريمة، لكن كرة القدم منحته الفرصة كي يصحح أوضاعه، ومن ثم يتغلب على هذا الواقع الذي كان يهدد مستقبل أسرته كلها.


أسوأ شيء في الحياة

إذا كنت تتابع حساب حكيم على إنستجرام، فلابد أنك لاحظت مدى اهتمامه بأمه. وهو ما دفع البعض للتساؤل: لماذا يحرص على التواجد مع والدته أغلب الوقت؟ وأين والده من كل ذلك الاهتمام؟ في الواقع حكيم لم يقضِ مع أبيه سوى بضع سنوات معدودة، إذ توفي وترك خلفه عشرة أطفال قبل أن يتم زيّاش عامه العاشر. نشأ حكيم في ظروف شديدة الصعوبة، إذ بات يواجه صدمة قاسية، وقد وصف موت والده خلال حواره مع جريدة التليغراف الهولندية بأسوأ شيء قد يمر به طفل صغير في الحياة. ما زاد الأمر تعقيدًا هو أن الأب لم يترك له ولإخوته إرثًا يعينهم على الحياة والغربة، وهنا أصبحت الأم مسئولة عن تربية عشرة أبناء والإنفاق عليهم دون سند. لم تستسلم الأم لهذه الظروف، وعزمت أن تبذل قصارى جهدها وتفني عمرها كله في سبيل أولادها. أولًا حرصت على تعلم اللغة الهولندية، ثم بحثت عن فرصة عمل، وما إن وجدتها إلا وشرعت في العمل بجد للحصول على الأموال، وهذا كله بالتأكيد إلى جانب رعاية الأبناء والقيام على حاجتهم في المنزل. كان العبء ثقيلاً للغاية. ولهذا فإن الأم لم تتمكن من إحكام سيطرتها بالكامل على الأبناء، خصوصًا عندما خرج بعضهم للشارع وبدأ في التعرف على عالم آخر، وكان تبعات ذلك هو انخراط اثنين من أشقاء حكيم الكبار داخل إحدى عصابات السطو بهولندا، واشتراكهما في عمليات سرقة ونهب، حتى تم القبض عليهما وإيداعهما السجن!خافت الأم أن يلقى الآخرون نفس المصير، فأخذت تبحث لكل واحد منهم عن عمل أو هواية تشغل وقته. في حالة حكيم، لم تبذل جهدًا في اختيار ما يناسبه، حيث كان يحب لعب كرة القدم ويشارك في المباريات الصغيرة بالأحياء والشوارع. وقد نجحت في إدراج اسمه باختبارات أكاديمية نادي هيرنفين عام 2007 وهو ابن الرابعة عشر.


الأب الروحي

انضم زيّاش بالفعل للأكاديمية بعدما نجح في تجاوز الاختبارات. وكان الانطباع الأول الذي تركه عند مدربي هيرنفين مركبًا؛ فهو ولد موهوب للغاية، لكنه عنيد ومتهور أيضًا للغاية. وقد تعزز هذا الشعور بمرور الوقت، إذ لم يُبدِ حكيم الاحترام الكافي لمدربيه ولزملائه، وكان يلعب الكرة كما يريد دون تعليمات وقيود.وبعد عامين من انضمامه لناشئي هيرنفين، بدأ سلوك حكيم يزداد توترًا وانفعالًا. فدخل في شجارات داخل الأكاديمية وفي مدرسته، انتهت بتخلفه تمامًا عن الدراسة. كما أهمل تدريباته، وبدا غير مبالٍ بردة فعل أحد من المسئولين. ويؤكد موقعا Sportinfo و Soccernews أن زيّاش اتجه تلك الفترة للتدخين، وشرب الكحول، بل وتعاطى الكوكايين! كان الولد صاحب الـ16 عامًا يملؤه الغضب، غضب بسبب فقدان الأب. وغضب بسبب فقر الأسرة، وغضب بسبب لجوء الأم للعمل، وغضب لسجن إخوته، وغضب بسبب نظرات الناس له كمهاجر مشاغب، وكل هذا الغضب كان يخطو به سريعًا نحو تدمير موهبته قبل أن يقابل الشخص الذي سيغيّر حياته للأبد. في تلك الأثناء التي كان يتجه فيها زيّاش نحو الهاوية، كان رجل ذو ملامح عربية يراقبه من بعيد، يعرفه، ويعرف ظروفه، وقد قرر مساعدته وانتشاله مما هو فيه. اسمه «عزيز ذو الفقار»، وهو أول لاعب كرة قدم مغربي يحترف في الدوري الهولندي خلال سبعينيات القرن الفائت، يعمل حاليًا مستشارًا في مركز رياضي وثقافي خاص بتدريب الشباب في مدينة: درونتن التي نشأ فيها حكيم.

بعد موت والده، سارت الأمور مع زيّاش في الاتجاه الخاطئ. لقد لجأ للتدخين، والكحول، وتعاطي المخدرات. وهنا قررت أن ألعب دور الأب في حياته، وأساعده فنيًا ومعنويًا.
تصريح لعزيز ذو الفقار.

يهتم السيد عزيز، صاحب الـ54 عامًا، بالعمل مع الشباب على تجاوز مشكلاتهم النفسية والاجتماعية. وهو يحظى بمكانة خاصة لدى مهاجري شمال أفريقيا، خصوصًا هؤلاء الذين يمارسون الكرة. وربما كان ذلك أحد الأسباب التي مكنته من التقرب لحكيم. فبعد مشاهدته للمرة الأولى يلعب مع هيرنفين، اندهش ذو الفقار من قدراته وأخبر المدربين هناك: هذا الولد يمكنه أن يذهب بعيدًا. بعدها بدأ عزيز في جمع المعلومات عنه، وقد تعاطف جدًا معه لأنه مر بظروف مشابهة للغاية. فهو أيضًا ذاق مرارة الغربة، وهو أيضًا مات أبوه قبل أن يراه لاعبًا محترفًا، وهو أيضًا كان سيسلك طريقًا خاطئًا لو لم يجد من يهتم لأمره. انتظر عزيز اللحظة المناسبة، وشرع في التقرب لحكيم. كان يدرك أن كسب ثقة مراهق متهور مثله مهمة صعبة، فاختار أن تنشأ بينهما علاقة صداقة حقيقية، تقوم في ظاهرها على الأحاديث الودية وتبادل النكات، أما في مضمونها فعلى التفهم والاحتواء. رويدًا رويدًا، نجح عزيز في مهمته بعد أن وجد حكيم أنه أمام شخص يريد بالفعل أن يساعده. أولًا أقنعه بالعودة لتدريبات الأكاديمية، وحثه على توجيه طاقته في الملعب وليس في وجوه مدربيه. أما ثانيًا فشرح له أن المخدرات لن تزيد حياته إلا بؤسًا وشقاءً، وعليه التخلي عنها بمحض إرادته لينقذ نفسه. وثالثًا فقد عمل على دمجه داخل المجتمع الشبابي في هولندا، وهذا بإشراكه في الفاعليات والمباريات التي ينظمها المركز الرياضي.

حكيم زياش رفقة عزيز ذو الفقار.


برشلونة سيطرق بابك

حكيم زياش، هولندا، المغرب، رياضة، كرة القدم، عزيز ذو الفقار.
كان هذا هو وعد ذو الفقار لحكيم إذا ركّز جهوده في كرة القدم. وقد أثبت بالفعل جدارة كبيرة داخل الأكاديمية، هذه الجدارة أهلته للصعود للفريق الأول في أغسطس 2012 وهو ابن التاسعة عشر، حيث تم توظيفه كصانع ألعاب. والحق أنه لفت الانتباه بلمسة قدمه اليسرى السحرية وقدرته على خلق الفرص من موسمه الأول هناك، وهذا ما منحه المشاركة الأساسية بالدوري خلال الموسم التالي. بهذا الموسم. ظهرت جودة زيّاش بشكل أفضل، فتمكن من تسجيل 9 أهداف وصنع 10 أخرى؛ أي ساهم في 19 هدفًا خلال 31 مشاركة، وهذه الأرقام جعلت من بقائه في ناديه أمرًا مستحيلًا. وبالفعل في أغسطس 2014 وصل لنادي هيرنفين عرض لبيع زيّاش، إنه نادي تفينتي الهولندي الذي يهتم بالناشئين الواعدين. هناك تم استقبال حكيم كلاعب يصنع الفارق، وتم تقديمه بالقميص رقم 10. وقد أضافت له هذه التجربة كثيرًا على صعيدين؛ الأول هو الشخصية، إذ بدا أكثر ثقة وقدرة على فهم مجريات المباراة، كما حصل على شارة القيادة وأصبح مسئولًا عن زملائه. أما الثاني فهو الفاعلية، إذ تضاعفت إحصائيات حكيم في كل شيء تقريبًا، حيث وصل معدل تمريراته المفتاحية Key-passes عبر موسمين لـ2.7 تمريرة/المباراة، كما بلغ معدل تسديده على المرمى لـ4.9 تسديدة/المباراة. وقد كانت نتيجة كل ذلك التحسن في أدائه، هو نجاحه في إنهاء موسم 2015/2016 مسجلًا 17 هدفًا وصانعًا 12 آخرين في 31 ظهور له بالدوري، أي ساهم في 29 هدفًا خلال 31 مباراة! هذه المعدلات الرائعة جعلت أكثر من نادٍ يسعى للتعاقد معه، لكن نادي أياكس ظفر في اللحظات الأخيرة من سوق انتقالات صيف 2016 بخدماته، وهنا بدأ فصل جديد من مسيرة حكيم. حيث كان عليه اللعب داخل أسلوب لعب مميز، وفي مستوى أعلى من المنافسات، خصوصًا مع الثورة الإدارية والفنية التي كان يعيشها النادي العاصمي، إلا أنه نجح في الاندماج سريعًا داخل المنظومة الهجومية للفريق وخصوصًا بعد تولي المدرب «إيريك تان هاج» المسئولية. إحصائيات استحق عليها الفوز بلقب أفضل لاعب في هولندا بالحفل الذي اصطحب خلاله أمه ووكيل أعماله.
«عزيز ذو الفقار» يحمل صورة تجمعه مع «حكيم زيّاش» خلال إحدى مباريات الناشئين

أما اليوم، فيجلس السيد عزيز ذو الفقار بمكتبه في درونتن، أمامه برواز يحمل قميص حكيم مع هيرنفين، وعلى مقربة منه صور له رفقة زيّاش أثناء إحدى المباريات التي كان ينظمها. يضع الرجل المغربي هذا القميص وتلك الصورة لتكون مصدر إلهام لكل شاب يأتي إلى مكتبه لأنه يواجه مشكلة يظن أنها لن تُحل. حكيم زيّاش قدم درسًا للجميع بعدما عاش ظروفًا قاسية، وتورط في عالم المخدرات، وكان أقرب للسجن منه إلى النجومية، لكنه نجح في النهاية بقلب الواقع رأسًا على عقب.