«لابد من جلسة غسيل كلوي عاجلة هذا المساء»

ألقى الطبيب بهذا القالب الحجري الثقيل، فبعثر ما تبقى من أمله كرذاذ منثور… وبعد نصف دقيقة من الصمت الذاهل استخرج من بقية نفسه هذا الاستنكار الحزين: «أمي لم تتجاوز الخمسين من عمرها، كيف وصلنا للغسيل؟!!! إنها لم تشكُ من الكلى قبل هذا الأسبوع الكئيب».

أجاب الطبيب في نوع من التحفز: « لقد دمرت -سامحها الله- كليتها من حيث لا تدري، و…».

قاطع الطبيبَ بنبرة يائسة مستجدية: «ولكن لم يبدُ عليها أعراض مرضية مطلقا، فمتى فشلت الكلى هذا الفشل المروع؟!».

رد الطبيب بشيءٍ من نفاد الصبر: «أعضاء الجسم المهمة تحاول مقاومة الضرر الذي يلحق بها في عناد، وإنفاذ آليات الطوارئ لتعويض ما تفقده من وظيفة، إنما للصبر والتحمل حدود، وفي لحظة معينة ينهار السد، سأبد تجهيزها لجلسة الغسيل».

ترك الطبيب، ومضى يخاطب نفسه في ألم وتعجب: «سامحك الله يا أمي، تخفين عنا ما تعانين من الصداع المستمر لخوفك من الأطباء، وتتعايشين مع الألم سنواتٍ بالمسكنات، حتى فتكت هي والضغط بكليتك.. وقلوبنا»، وهنا لم يعد يستطيع تمالك دموعه.

أشد الأعداء فتكًا هو الذي تألفه وتستهين به، بينما يؤذيك من حيث لا تحتسب. ومن هنا تأتي أهمية أشهر ألم يصيب الإنسان، وهو الصداع.

ليس منا من لم يصِبْهُ الصداع. ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن له أسبابا لا تعد ولا تُحصى، تتدرج من منعدمة الخطورة، إلى مميتة.

الاستشارة الطبية هي الطريقة الوحيدة للتأكد من سبب الصداع وتحديد العلاج المناسب له، فيجب ألا نكتفي بالتعامل الشائع مع الصداع بعبّ المسكنات عبًّا دون البحث عن أسبابه، خاصة إذا كان متكررا وشديدا. فقد يكون ذلك الألم هو جرس الإنذار الأول أو الوحيد لكارثة كبرى قد تعصف بالصحة والعمر.

منابع الصداع

نسيج المخ نفسه يخلو من مستقبلات الألم، وغالبا ما يكون مصدر الصداع مشكلة داخلية في الرأس، مثل تمدد الأوعية الدموية داخلها، أو من الأعصاب، أو من الأغشية المحيطة بالمخ meninges، أو من العين، أو الجيوب الأنفية، أو الأذن الوسطى، أو من تقلص عضلات الوجه أو الرقبة… إلخ من أجزاء الرأس. وهناك عوامل وراثية تجعل بعض الناس عرضة أكثر من غيرهم.

وهناك حالات أخرى يكون فيها سبب الصداع هو مشكلة عامة في الجسم، كارتفاع ضغط الدم Systemic hypertension.

إذا أصابك صداعٌ عارض، محدود الشدة، فلا تقلق، فالأرجح أنه حالة مؤقتة علاجها الاسترخاء والنوم الجيد، أو تخفيف ضغوط العمل… إلخ، وإذا اضطررت للمسكنات فابدأ بالـ باراسيتامول والأدوية التي تحتوي عليه، فهو أقلها خطورة على الكلى والمعدة والقلب.

لكن لا تتساهل مع الصداع الشديد المتكرر على مدى أسابيع. خصوصًا إذا دفعك للإسراف في المسكنات. لا بد حينها من الكشف الطبي.

سنناقش الآن أهم وأشهر أسباب للصداع المستمر، وكيف يمكن أن تشك في إصابتك بأحدها، وكيف يكون التعامل الأمثل معها.

1. ارتفاع ضغط الدم

غالبا ما يكون الصداع أول أعراض ظهور مرض الضغط. وقد يصحبه ضيق في التنفس، أو ميل للقيء، أو اهتزاز في الرؤية blurred vision.

إذا تكرر معك الصداع وكان سنك فوق الأربعين، أو كنت مصاباً بالسمنة والوزن الزائد، أو ارتفاع الكولسترول ودهون الدم dyslipidemia، أو كان في عائلتك تاريخ مرضي للإصابة بالضغط، فأول ما تشك فيه هو ارتفاع الضغط. إذا كانت قراءة الضغط أكثر من 140/90 في 3 مناسبات مختلفة على الأقل، بأوقات مختلفة في اليوم، فأنت مصاب بالضغط.

العلاج الوحيد للصداع الذي يسببه الضغط، هو علاج الضغط، بالكشف عن أسبابه (10% من حالات الضغط تكون نتيجة أمراض الكلى، أوالغدد الصماء خاصة الكظرية والدرقية) ومعالجتها، وتنفيذ التعليمات الخاصة بالطعام وإنقاص الوزن، والانتظام على علاجه الدوائي يوميا دون توقف. ولا دور للمسكنات إطلاقا هنا.

2. الصداع النصفي Migraine

من أعنف أنواع الصداع، وأكثرها إعاقة للحياة اليومية للمصابين به. ولم يتم التوصل إلى سبب جذري له، فما زال دم أسبابه متفرقًا بين العوامل الوراثية والبيئية. وهو شائع ببعض العائلات، وبين السيدات أكثر من الرجال.

وهو نوبة شديدة من الألم بأحد جوانب الرأس (ومن هنا جاءت التسمية الشائعة) على هيئة نقح أو نبضات مؤلمة. وغالبًا ما يسبقها بساعات أو دقائق – وقد يستمر خلالها – أعراض إنذارية aura كالقيء أو الومضات البصرية أو عدم تحمل الشخص لأقل صوت أو ضوء… إلخ. وقد تستمر النوبة من بضعة سويعات إلى أكثر من 3 أيام ! إذا لم يتم علاجها.

وللتعامل مع هذا الصداع تهمنا النقاط الآتية:

  • الكشف الطبي الطارئ في حالة الإصابة لأول مرة بمثل هذا الصداع المؤلم. وذلك لاستبعاد الأسباب العاجلة الأخطر (الالتهابات السحائية، نزيف وجلطات المخ، الارتفاع الشديد لضغط الدم…)، ولوأد النوبة abortive treatment بالمسكنات العامة كالإيبوبروفين والباراسيتامول، والعلاجات الخاصة للصداع النصفي كمجموعة التربتان (وأشهرها السوماتريبتان) المحفزة للسيروتونين. وفي بعض الآلام الشديدة قد يلجأ الأطباء للمورفين.
  • الوعي بمحفزات نوبات الصداع النصفي (ما قبل الدورة الشهرية للسيدات – ضغوط العمل والدراسة – تغيير عادات النوم – الأصوات الصاخبة – الأضواء المبهرة – الجوع الشديد – الجبنة القديمة المالحة – سكر الدايت «الأسبارتام»…).
  • تقليل تعاطي المسكنات قدر الإمكان. و المواظبة – بناء على تعليمات طبيب الأمراض العصبية – على الأدوية الوقائية بين النوبات، والتي تقلل فرصها، وتقلل شدتها إذا حدثت (مضادات البيتا ك البروبرانولول – غالقات قنوات الكالسيوم ك الفراباميل – بعض أنواع مضادات الاكتئاب…).

3. الصداع الضاغط Tension headache والصداع العنقودي Cluster headache

يشتركان مع النصفي في أن كلها صداعات أولية، أي يكون الصداع هو المرض وليس عرضًا لمرض آخر. وبالتالي فالشك في أي منها يستدعي استشارة طبيب الأمراض العصبية.

الصداع الضاغط غالبًا ما يأتي على هيئة حلقة تضغط الرأس من الخارج وتضيق، ويصحبه تقلص شديد بعضلات الوجه والرأس. وقد تستمر النوبة دقائق أو ساعات أو أيام. وأيضًا لا سبب قاطع له، إنما وجد علاقة تحفيزية بين الضغوط الجسدية والنفسية والانفعال العاطفي الجارف وبينه. وعلاجه بالمسكنات – بعد استشارة طبية قطعًا – وبعض التعليمات الحياتية كتجنب الإرهاق الزائد، والأوضاع الخاطئة في الجلوس كالانحناء الزائد وإمالة الرأس للأمام… إلخ.

أما الصداع العنقودي فيأتي كنوبات يومية من الصداع حول أحد العينيْن ويصاحبها رشح أو انسداد بالأنف، ودموع واحمرار بالعين في نفس الجهة، وعرق غزير بالرأس… إلخ. وتأتي في نفس الموعد يوميًا (غالبًا توقظ المريض من نومه)، لمدة 6-12 أسبوع غالبًا، يعقبها فترة خالية تمامًا من الصداع قد تصل إلى سنة. وأيضًا لا يوجد له سبب محدد، لكن دائمًا ما يكون المريض ذكرًا، سنه 20-50 عامًا، مدخن، أو يتعاطى الكحوليات، أو هناك تاريخ مرضي عائلي.

وهو نوع نادر،وعلاج الطوارئ له يتضمن استنشاق أكسجين 100%، والعلاج الدوائي باستشارة طبية. والعلاج الوقائي يشمل غالقات قنوات الكالسيوم كالفراباميل، وأحيانا الكورتيزون. لكن قد لا ينجح العلاج الدوائي في القضاء تمامًا عليه.

4.التهاب الجيوب الأنفية المزمن

غالبًا ما يصحبه رشح الأنف، وزيادة الإفرازات المخاطية، وارتفاع درجة الحرارة أحيانًا، ويكون ألم الرأس على هيئة ثقل في الجبهة أو الوجنتين… إلخ، حسب مكان الجيب الأنفي الملتهب. ويزيد بالانحناء لأسفل.

علاجه بعلاج السبب بالمضادات الحيوية المناسبة، أو التدخل الميكروسكوبي… وفق ما تأتي به استشارة طبيب الأنف والأذن.

5. كوارث بالمخ

قد يكون سبب الصداع المزمن مرضًا خطيرًا بالمخ، مثل أورام المخ الخبيثة أو الحميدة، أو تمدد شديد في أحد شرايينه cerebral artery aneurysm، أو نزيف مزمن بالمخ نتيجة صدمات متكررة بالرأس عند كبار السن،والمصابين بسيولة الدم… فقد يضغط أي منها على الأجزاء الحساسة للألم التي ذكرناها في فقرة منابع الصداع، فيحدث الصداع. كما أن ظهور جسم غريب زائد داخل علبة الجمجمة المغلقة، المليئة بالسائل المخي، يؤدي إلى رفع الضغط داخلها، فيحدث الصداع، وقد يصحبه أعراض أخرى مرجحة كتغير في الشخصية أو درجة الوعي، أو حركة الأطراف أو الإحساس… إلخ. نتيجة تأثر مراكز المخ.

ولذا فمن أهم خطوات المسار التشخيصي work-up للصداع المستمر التي سيطلبها طبيب الأمراض العصبية الأشعة المقطعية على المخ بالصبغة، وهي كفيلة بتشخيص معظم هذه الكوارث لا قدر الله.

٦. ورم المخ الكاذب pseudo-tumor cerebri

حالة نادرة، يحدث فيها زيادة في كمية السائل المخي داخل الجمجمة، مما يحاكي ما يحدث عند ظهور ورم داخل المخ كما ذكرنا سابقًا، فيسبب الصداع والذي غالبًا ما يكون مركزه خلف العين. تتزامن أعراضٌ أخرى مثل طنين الأذن، والغثيان، والترجيع، وتذبذب الرؤية، وقد يصل إلى العمى المؤقت لثوانٍ.

وأشهر أسبابها السمنة، الحمل، الذئبة الحمراء SLE، الفشل الكلوي، جرعات زائدة من فيتامين أ… وعلاجها بعلاج السبب، وبعض مدرات البول التي تقلل السائل المخي كالأسيتازولاميد acetazolamide. وقد تستدعي بعض الحالات إجراء جراحة لتسليك العصب البصري، أو تسريب shunt السائل المخي.

٧. الأنيميا

للأنيميا – نقص هيموجلوبين الدم – أسباب عديدة. تبدأ من نقص التغذية ولا تنتهي بسرطانات الدم كـ اللوكيميا و اللمفوما. ويصحب الصداع الذي تسببه أعراض الأنيميا العامة كضيق التنفس والشحوب، والدوخة والغثيان… إلخ. أو أعراض السبب كنقص الوزن مثلًا في حالة ديدان الجهاز الهضمي… إلخ.


الخلاصة

حساسية الضوء، الصداع، الصداع النصفي
  1. لا تستهِن بالصداع المتكرر، خاصة إذا طال وقته وبدأ يؤثر على نشاطك اليومي.
  2. لا تدمر كليتك ومعدتك بالإسراف في المسكنات دون البحث عن السبب وعلاجه. ( ناقشنا هذه القضية بالتفصيل في مقال المسكنات تؤلم.. وتقتل أيضًا، ومقال المسكنات والكلى قصة حزينة).
  3. أكثر المسكنات أمنًا هو الباراسيتامول (البنادول، الأبيمول…)، فلا تتجاوزه إلى مجموعة NSAIDs (الإيبوبروفين – الديكلوفين – الأوكسيكام…) إلا بعد فشل الباراسيتامول، ولمدة محددة، وبناء على تعليمات الطبيب.