ما زال في مرحلة الصدمة منذ لقائه بالطبيب أول أمس. «الزرع أو الغسيل» ما زالت الكلمات تنفجر في عقله وروحه كل ثانية. يشعر أنه في عالم آخر منفصل عن واقعه. لا بد أن هناك خطأ ما فيما حوله. سيجد الخطأ، فيتأكد عقله أنه في كابوس، فيوقظه فجأة ليجد نفسه في صباح يومٍ عادي من سائر أيام عمره، ويهب من سريره ليغسل وجهه وينسى كل شيء.

لا يصدق أن ينتهي عمره – وهو في ريعانه – إلى التنقل بين المشافي والرعايات المركزة وأقسام الغسيل الكلوي. إن أقرب معارفه الذي يُعالَج بالغسيل الكلوي في سن الخامسة والستين!

والأشد ألمًا من كل هذا هو الندم. يكاد يصدم رأسه بالحائط ألف مرة في الدقيقة كلما تذكر أن له ضلعًا هامًا في هذه المأساة.

كان يشعر بالصداع يضرب رأسه، فيبدأ في استخدام المسكنات. يزيد الصداع، فيعُبُّ من المسكنات عباًّ. نصحه حينها أحد الأصدقاء بأن يقيس ضغط دمه. وبعد تردد وسلبية نفذ النصيحة. وبالفعل كان ضغط الدم مرتفعًا في عدة قياسات مختلفة. لكنه أدخل نفسه في حلقة مفرغة من الإنكار لكونه مريضًا بالضغط. وبدلًا من الكشف الطبي لدى المتخصصين لمعرفة أسباب الضغط وعلاجه، فإنه اكتفى بتسكين الصداع وواصل حياته كأن شيئًا لم يكن …. أو هكذا ظنَّ.

يحاول أحيانًا أن يخفف من مشقة الأمر على نفسه، فيذكر نفسه بأن حاله أحسن من غيره. فهو مقتدر ماديًا، ويستطيع أن يتكلف نفقة عملية زرع الكلى في خارج البلاد ويرحم نفسه من عذاب الغسيل ويعود طبيعًا كما كان، ولو جزئيًا.

تبخرت لمحة التفاؤل سريعًا، وعاود التشاؤم والاكتئاب والندم زحفهم على نفسه المكدودة …… وبكى بحرارة كما يفعل كل ليلة.


الكُلى: مرور فسيولوجي خاطف

http://gty.im/56571972

في الجزء السابق ألقينا أضواء عديدة على قصة سوء استخدام المسكنات. وكيف أنها نموذج واضح من آلاف النماذج على ضيق أفق الإنسان، وسوء تدبيره للنعم التي يمن الله بها عليه.

ولأهمية قصة الكلى مع المسكنات، آثرت إفراد هذا الجزء لها. خاصة وقد قابلت في حياتي الاجتماعية والعملية عشرات النماذج على هذا، وبعضها يفيض بالألم والمرارة فعلًا.

تعد الكلى من أهم الأجهزة «السيادية» في جسمنا. وهي سيادة حقيقية فعلًا تنبع من أهميتها الحيوية لحياة الإنسان، وكذلك من تعدد وتنوع الوظائف التي تقوم بها.

تقوم الكلى بأكثر من نصف عمليات التخلص من الفضلات والسموم من أجسامنا. ولها دور محوري في تنظيم التوازن المائي بأجسامنا، وكذلك أملاح الدم، وكذلك الحفاظ على التوازن القاعدي الحامضي acid-base balance في أجسامنا. كما تفرز بعض الهرمونات الهامة مثل الإريثروبيوتين Erythropoietin المحفز لنخاع العظام لإنتاج كرات الدم الحمراء. كما تقوم بتنشيط مواد هامة أخرى مثل فيتامين د الهام جدًا للعظام وللحفاظ على اتزان الكالسيوم في الدم. كما للكلى دور هام في تنظيم ضغط الدم، وفي محاولة إعادة ترتيب النظام الداخلي للجسم في حالات فشل وظيفة عضلة القلب.

ما سبق هو غيض من فيض من أهمية الكلى، وهذا لتوضيح مدى الاختلال الذي يتعرض له الجسم كله عندما تتعطل الكلى أو تفشل في أداء دورها. فما بالنا بخطورة مجموعات من الأدوية ذائعة الانتشار كالمسكنات، والتي يعد لها العلماء حتى الآن على الأقل 6 آليات متنوعة لإفشال الكلى!


(2-3)

بعد شهر في إحدى مشافي الخارج المتقدمة

فتح عينيه ببطء، فبدأت ترتسم صورة مهتزة لما حوله. وجه شديد البياض فوق رداءٍ أبيض يحاول أن يضاهيه في النور، يبتسم له ابتسامة حانية. «هل مِتُّ في العملية وأنا الآن في الجنة؟!» لم يكَد يسأل نفسَه السؤال حتى تبخر سريعًا، فهذه رائحة المستشفيات التي لا يختلف عليها ولا على كرهها اثنان. حاول الاعتدال في سريره، فأشارت له الممرضة بأن يرتاح قليلًا ولا يتعب نفسه.

خرجت، ولم تمر خمس دقائق حتى دخل عليه زوجته وأخوه. لم يستطِع أن يتمالك دموعه عندما رآهما، خاصة وهو لا يستطيع الاقتراب منهما، أو حتى رؤية وجهيهما كاملًا تحت القناع الطبي. وتذكر في تلك اللحظة طفليه اللذين تركهما منذ أكثر من أسبوعين قبل قدومه إلى هنا من أجل زرع الكلى. أكثر من أسبوعين من التحاليل والأشعات والكشوفات. وقائمة انتظار لحسن الحظ لم تكن طويلة جدًا في هذا المشفى الهائل الضخامة والفخامة.

دخل الطبيب بعد 10 دقائق، وطلب من أهله الانتظار قليلا. وعن طريق المترجم شرح له أن عملية زرع الكلى نجحت. وكرّر عليه ما تم إيضاحه من قبل أن هذا هو الجزء الأول فقط. والجزء الثاني لا يقل خطورة. حيث سيتم إعطاؤه جرعات كبيرة من مثبطات المناعة immunosuppressants وذلك لمنع تفاعل مناعة الجسم ضد الكلى الجديدة Graft rejection لكونها جسمًا غريبًا على الجسم. وهذه الأدوية سلاح ذو حدين. فهي تضرب مناعة الجسم ككل، وليس فقط الجزء المسؤول عن مهاجمة الكلى المزروعة. وبالتالي تعرض الجسم لأنواعٍ عديدة من البكتيريا والفيروسات والفطريات … إلخ من مسببات المرض. وهذه الإصابات تكون شديدة الخطورة في حالات ضعف المناعة كحالته. ولذا فإنه سيوضع فيما يشبه العزل الطبي لمنع انتقال أي عدوى إلى جسمه الأعزل.


المسكنات والكلى، قصة موجعة

تبدأ بعض خلايا المناعة في مهاجمة الكلى، والتي يوجد فيها تركيزات من هذه المسكنات، إذ هي عضو الإخراج الرئيسي لها.

للمسكنات قدرات متعددة على إيذاء الكلى. بعضها عاجل، وهذه تندرج تحت بند الحساسية، مثل التهاب النسيج الكلوي البيني التحسسي Allergic interstitial nephritis ، وهذه الحالة لحسن الحظ غالبًا ما تكون مؤقتة self-limited وتبدأ في الانكسار بمجرد التوقف عن تعاطي العقار المسبب لها. وهي نوع من فرط حساسية الجسم ضد بعض مجموعات الأدوية ومنها مسكنات الـ NSAIDs حتى بالجرعات العادية منها. فتبدأ بعض خلايا المناعة في مهاجمة الكلى والتي يوجد فيها تركيزات من هذه المسكنات، إذ هي عضو الإخراج الرئيسي لها.

وهناك حالة مرضية أخرى سريعة الحدوث هي Renal papillary necrosis والتي يحدث فيها تضرر وموت لبعض الأجزاء الداخلية من نسيج الكلى نتيجة عدم كفاية الدم الواصل لها. وهي تنتج عن استخدام مسكنات الـ NSAIDs والتي تمتاز جميعها بأنها مثبطات للبروستاجلاندين prostaglandin. فرغم أن البروستاجلاندين من أهم وسائط الالتهاب والألم في أجسامنا، إلا أن له بعض الأدوار المفيدة جدًا والتي تتأثر لدى استخدام المسكنات وتسبب الآثار الجانبية لها. ومنها دورها في الكلى. إذ أنها تحافظ على تمدد أوعية الكلى الدموية، وذلك لزيادة التغذية الدموية لأنسجتها الحيوية. وبالتالي في غياب البروستاجلاندين – خاصة مع جرعات مكثفة من الـ NSAIDs – يحدث انقباض وضيق في الأوعية الدموية خاصة الصغيرة منها والبعيدة عن الأوعية الكبرى. فتتضرر الأنسجة الداخلية وتموت. فيعاني المريض من آلام كلوية حادة، وتدمم في البول hematuria. ولحسن الحظ لا تصل هذه الحالة في غالب الأحيان إلى الفشل الكلوى التام أو المزمن.


ومعظم النار من مستصغر الشرر

أكثرية الآليات المؤذية للكلى بسبب المسكنات، تكون نتاج الإسراف المزمن في استخدامها. وتزداد خطورة الحالات وتقدمها مع زيادة الكمية المستخدمة، وطول المدة الزمنية لتتابع استخدامها، خاصة إذا كان الاستخدام يومي، أو شبه يومي.

حتى وقت قريب كان البعض يقول أن نصف كيلوجرام من المسكنات يكفي لإتلاف الكلى. ليست هذه من النظريات القوية. لكن تخيل معي موظفًا يعاني من آلام الرقبة والظهر نتيجة الجلوس المستمر على مكتبه واستخدام الحاسوب. فيلجأ لاستخدام جرعة من المسكنات مثل بروفين 400 مجم أو 600 مجم مرتين يوميًا، أي حوالي 1 جم يوميًا. فإنه يكون قد تجاوز النصف كيلوجرام خلال 500 يوم أي أقل من عام ونصف!

كلمة السر الرئيسية في تضرر الكلى المزمن من المسكنات analgesic nephropathy هي تثبيط البروستاجلاندين.

يؤدي تثبيط البروستاجلاندين إلى حدوث ضيق في الأوعية الدموية الكلوية. ومن أخطرها الشُّرَيَّان – تصغير شُريان – الوارد afferent arteriole. الوحدة الوظيفية للكلى هي النفرونات. تمتلك كل كلية ملايين النفرونات، وكل نفرون يغذيه شُريَّانٌ وارد، يستخلص منه النفرون ما يشاء ويوجهه إلى الأنابيب الكلوية والتي تكمل إما إخراج هذه المواد، أو إعادة امتصاص بعضها حسب حاجة الجسم وطبيعة المواد. ثم يخرج باقي الدم المصفى من النفرون عبر الشُّريَّان الصادر efferent arteriole.

عندما ينقص البروستاجلاندين، يحدث ضيق في الشريَّان الوارد. ينجم عن هذا ضعف في وظيفة النفرون. يدق أهم جرس إنذار في الكلية عن طريق قرون استشعارها في الخلايا الجار نفرونية juxta-glomerular apparatus. فتقوم الكلى ببدأ تفاعل متسلسل ينتهي بتنشيط منظومة الرنين – أنجيوتينسين الرهيبة renin-angiotensin system، والتي يدخرها الجسم للحفاظ على الدورة الدموية في بعض الحالات الخطيرة كفشل عضلة القلب والهبوط الحاد في الدورة الدموية … إلخ.

تقوم هذه المنظومة بتحفيز هرمون الأنجيوتنسين 2 والذي يحفظ هرمون الألدوستيرون من الغدد فوق الكلوية. فيقوم الأخير باختزان الماء والصوديوم في الجسم عن طريق الأنابيب الكلوية. كما يسبب هرمون الأنجيوتنسين 2 – وهو قابض قوي للأوعية – ضيقًا في الشريَّان الصادر، مما يزيد احتقان النفرون بالدم، وزيادة الضغط داخله، لمحاولة لزيادة وظيفته في ترشيح المواد glomerular filtration.

لكن مع الوقت، يتسبب ارتفاع ضغط النفرونات في تلفها، مما يؤدي في النهاية إلى مزيد من الفشل في وظائفها، فتدخل الكلى في حلقة مفرغة من فشل الفعل ورد الفعل، حتى نصل إلى المراحل الأخيرة من الفشل الكلوي التام End stage renal failure.


المصائب لا تأتي فرادى

وتزداد احتمالات التضرر الكلوي من المسكنات مع وجود حالات مرضية أخرى تؤثر على الكلى كالسكر، والضغط، أو أمراض المناعة الذاتية كالذئبة الحمراء والروماتويد … إلخ. وتكمن المأساة في أن هذه الحالات من الدواعي المشهورة لاستخدام المسكنات خاصة التهابات المفاصل الشديدة التي تصاحب معظم أمراض المناعة. ولذا فالأمثل هو إعطاء العلاج الأساسي للقضاء على أصل الحالة المرضية أو على الأقل إيقاف تقدمها. بدلًا من الاكتفاء بتسكين الأعراض.

والفشل الكلوي المزمن يصاحبه أنيميا، ووهن بالعظام. وتزداد خطورته عندما يصاحبه حالات مرضية مزمنة خطيرة كفشل عضلة القلب المزمن. إذ يقلل الفشل الكلوي من كمية البول، ويحفز منظومة الرنين – أنجيوتنسين، والتي تسبب احتباس السوائل بالجسم، مما يسبب ضغطًا إضافيًا على مضخة القلب الضعيفة، فيحدث الارتشاح الرئوي الخطير، وكذلك ارتشاح السوائل في أماكن عديدة بالجسم.

ولذا يقترن الفشل الكلوي المزمن بارتفاع الضغط المزمن سببًا ونتيجة. ودائما ما يسبب الفشل الكلوي ارتفاعًا شديدًا بالضغط، يكون مقاومًا لمعظم مضادات الضغط. كما أن فشل الكلى يغُلُّ يد الأطباء عن استخدام أنواع قوية من أدوية الضغط نظرًا لضررها على الكلى. ولذا يكون مرضى الكلى معرضين لكافة مشاكل ارتفاع الضغط وخاصة جلطات المخ والقلب.

والفشل الكلوي الحاد خطير للغاية، ويعد من الطوارئ الطبية التي تحتاج إلى دخول المريض إلى العناية المركزة ومتابعته جيدًا. إذ تتراكم السموم في دم المريض خاصة البولينا Uremia فتسبب حموضة الدم acidosis والتي تفسد عمل المخ والقلب والتنفس، وقد تؤدي إلى توقف القلب cardiac arrest. كما قد تسبب البولينا التهابات في غشاء القلب، أو حساسية تنفسية شديدة، أو التهاب بالمخ يؤثر على درجة وعي المريض uremic encephalopathy.

كما يحدث اختلال كبير في أملاح الدم، خاصة تراكم البوتاسيوم بالدم، والذي قد يوقف عضلة القلب.

وكل ما سبق، هو تلخيص شديد للغاية، أخشى أن يكون قد وصل إلى مرحلة الاختصار المخل. ومن يتوسع، سيعرف أكثر. ومن يعرف أكثر، سيرتعب أكثر وأكثر.


(2-4)

الفشل الكلوي المزمن يصاحبه أنيميا، ووهن بالعظام. وتزداد خطورته عندما يصاحبه حالات مرضية مزمنة خطيرة كفشل عضلة القلب المزمن.

لم تكد تمر 3 أسابيع على العملية. حتى كانت الزوجة عائدة إلى أرض الوطن مع زوجها على نفس الطائرة.

لكنها تجلس في مقعدها تصاحبها دموعها التي لم تنقطع منذ يومين، بينما جسد زوجها في جوف الطائرة داخل تابوت ينتظر أن يلتهمه تراب الوطن لدى وصوله.

ما زالت لا تصدق ما حدث. كانت الأمور جيدة للغاية أول أسبوعين. وبدأت تشعر كأن زوجها وحياتها ولدت من جديد. لكن فجأة بدأت أعراض خطيرة في الظهور. وبدأ الأطباء يتحدثون عن تفاعل حاد لجهاز المناعة ضد الكلى المزروعة acute graft rejection رغم الجرعات العالية من المثبطات المناعية. قام الأطباء بتكثيف الجرعات دون جدوى. حدث فشل حاد في وظائف الكلى الجديدة. وعرفت من الأطباء أن الجرعات المكثفة من مثبطات المناعة تسبب تسممًا في الكلى. وبعد عدة أيام، حدثت الوفاة.

مادت بها الأرض – ولا تزال – وهي تتلقى النبأ المفجع. وكل ما تفكر فيه الآن هو القطعتين من روحها وروح زوجها اللتين تنتظران حضنها الدافئ في البيت.

المراجع
  1. Analgesic nephropathy
  2. webmd – Analgesic nephropathy