شَكَّل مصطلح «الأتاتوركية» لعشرات السنين مرادفًا للنظام الكمالي العلماني الرافض للإسلام والذي يتبنى القومية التركية كهوية وحيدة، حيث ارتبط بشخصية «مصطفى كمال»، الذي أسس الجمهورية التركية الحديثة وألغى الخلافة العثمانية عام 1924، ومنحه البرلمان لقب «أتاتورك» الذي يعني «أبو الأتراك» تقديرًا لجهوده في قيادة الأمة التركية.

إلا أن عملية إعادة تعريف للأتاتوركية تشهدها تركيا الآن في ظل حكم العدالة والتنمية، بل وبات يُنظر لأتاتورك نفسه باعتباره جزءًا من المشروع الحضاري التركي الذي يمتد في التاريخ عبر قرون طويلة والذي تـُمثل حقبة الخلافة العثمانية فترة ازدهاره وتألقه، وفي هذا الإطار تشكل القومية والدين معًا دعامتي المشروع الحضاري لتركيا المعاصرة.

تبني مفهوم الأتاتوركية الجديدة النظرة إلي الأمة التركية باعتبارها الجزء المركزي من الأمة الإسلامية، والتي يتولي الأتراك زمام قيادتها

وتعني الأتاتوركية الجديدة -غير الكمالية- أن تصبح تركيا قائدة للشعوب التركية، وأن يصبح الرئيس التركي أبًا للأتراك في جميع أنحاء العالم، والمقصود بـالأتراك هنا هي الشعوب المتحدثة باللغات التركية أو التي تنتمي للجنس التركي -حتى ولو تحدثت بلغات أخرى- والتي تنتمي للـ 24 قبيلة التي تنحدر منها أصول الأتراك الحاليين وينتشر معظمها من هضبة منغوليا وشمال الصين شرقًا، إلى منطقة البحر الأسود غربًا وتمثل منطقة وسط آسيا العمود الفقري لها.

وتعني تلك الأتاتوركية أيضًا في نسختها المعدلة تبني مفهوم الأمة الإسلامية بحيث يـُنظر للأمة التركية باعتبارها الجزء المركزي من هذه الأمة، ويتولى الأتراك زمام قيادتها، كما كان الحال في عهد الدولة العثمانية التي ظلت لأكثر من ستة قرون تمثل مركز الحضارة الاسلامية، وتتحكم في النظام والدولي، وبحسب الدراسات الغربية فإن الدولة التركية الحالية في طريقها لأن تصبح قوة عالمية كبرى، وعاملًا مؤثرًا على طبيعة التوازنات في النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب الذي يمر حاليًا بطور التكوين.

وبالتزامن مع عملية «العثمنة» التي تمضي حكومة «العدالة والتنمية» فيها قدمًا بالداخل التركي، يقطع مشروع استعادة النفوذ الخارجي أشواطًا كبيرة وإن اختلفت الأساليب اليوم تبعًا لاختلاف طبيعة النظام الدولي؛ ففي إطار المشروع الحضاري التركي الحديث الذي يعتمد على العاملين: الديني والقومي، يمتد النفوذ التركي إلى أعماق آسيا.

في المناطق النائية بمنغوليا تجد المساعدات التركية تصل إلى القبائل الرعوية البدائية في أكثر المناطق المنغولية عزلة، بالرغم من اعتناقهم لديانات وثنية، لكن لمجرد أن الدماء التي تجري في عروق أبنائها تعود لأصول تركية قديمة ويربطها بالأتراك نسب بعيد، إذ تمثل منغوليا نقطة مهمة في هذا المشروع باعتبارها المعقل الأول للأتراك الأوائل، الذي انطلقت منه أولى الهجرات التركية في الماضي، لتستقر في النهاية في آسيا الصغرى حيث تركيا الحالية.

فضمن نشاطات «وقف الديانة التركي» في 135 دولة حول العالم، تحظى الأقلية المسلمة في منغوليا بمكانة مميزة بعدما عانت من التهميش والتجهيل لعشرات السنين، إذ يتكفل الأتراك بتوفير المصاحف وبناء المساجد وإعداد ترجمات للقرآن الكريم باللغات المحلية، بل إن حكومة «أولان باتور» أجرت مباحثات مع أنقرة حول خطةٍ لتشجيع الشباب التركي على الهجرة إلى منغوليا بهدف الزواج من النساء المنغوليات‏، إذ تواجه منغوليا مشكلة زيادة عدد المواليد من الإناث 6 أضعاف عدد الذكور، ويرى المسئولون المنغوليون في تلك الخطة الوسيلة المثلى للحفاظ على مكانة العرق التركي بالبلاد.


آسيا الوسطى .. الثروة والحضارة والنفوذ

آسيا الوسطى

وتتشكل منطقة آسيا الوسطى بشكل أساسي من خمس جمهوريات؛ هي أوزبكستان، وتركمانستان، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وكلها تتحدث بلغات تركية عدا الأخيرة التي تتحدث بإحدى لهجات اللغة الفارسية، وقد تأسس مجلس تعاون بين الدول الناطقة بالتركية يعرف باسم «المجلس التركي» في عام 2010 ليكون بمثابة النواة لتشكيل رابطة قومية من أجل ترسيخ الهوية التركية على غرار الاتحاد الأوروبي.

وأقيم مقر الأمانة العامة للمجلس في إسطنبول، وتُقدم تركيا المساعدات التقنية لهذه الدول، كما تقدم منحًا دراسية لطلابها من أجل ربطها بشبكة من المنافع والمصالح المتبادلة، و بقدر ما تُعتبر أسواقًا اقتصادية مهمة لأنقرة إلا أنها في الآن نفسه تمثل امتدادًا حضاريًا، له دور مهم في تشكيل المشروع التركي.

وتشكل المنطقة المرتكز الرئيسي للمشروع لاعتبارات كثيرة، فطبقًا للنظرية الشهيرة لعالم الجغرافيا السياسية البريطاني «هالفورد ماكيندر»، فهذه هي المنطقة المركزية العالمية التي يعتمد عليها مصير الإمبراطوريات الكبرى، هذا من ناحية الأهمية الاستراتيجية، أما من الناحية الاقتصادية، فإن دولة مثل تركمانستان تمتلك وحدها ثالث أكبر احتياطي للغاز الطبيعي بالعالم، وتمتلك دول المنطقة مجتمعة مخزونًا هائلًا من النفط، والغاز، والفحم، واليورانيوم، والذهب، والفضة، والمعادن الاستراتيجية التي لم تُستخرج بعد.

وتمثل منطقة القوقاز أيضًا بقعة جغرافية مهمة لأنقرة فأذربيجان وحدها باستطاعتها ضمان اكتفاء تركيا من إمدادات النفط والغاز وقد أدرك الأتراك ذلك، وشرعوا في إنشاء مشروع «تاناب» لنقل الغاز من أذربيجان ويتوقع أن يتم الانتهاء منه في عام 2018، بالإضافة إلى المخزونات الكبيرة من الذهب والفضة والحديد والنحاس والتيتانيوم.

وبالرغم من التنافس المحموم بين الدول الكبرى كروسيا والصين والولايات المتحدة والصراع على النفوذ في واحدة من أغنى مناطق العالم بالثروات المعدنية، إلا أن الميزة النسبية التي تتمتع بها تركيا هنا هي أنها جزء من نسيج المنطقة وليست كيانًا غريبًا عنها .

صحيح أن المشروع التركي بصيغته الحالية قد لاقى معوقات كثيرة كما حدث في الحالة الأوزبكية عندما شكل البعد الإسلامي للمشروع عامل رفض من قبل نظام كريموف العلماني المتطرف، إلا أن الوضع في تلك المنطقة يظل أفضل بكثير من الوضع في المنطقة العربية التي تعرض فيها نفوذ تركيا لانتكاسات شديدة خلال الفترة الماضية، فالأقليات التركمانية المتواجدة في العراق وبلاد الشام لم تكن من القوة بحيث تشكل داعمًا فاعلًا للنفوذ التركي الحديث نسبيًا في الدول العربية، والذي لم يأخذ فرصة كافية كي يمد جذوره في أرض المنطقة.


أردوغان محامي الشعوب التركية

أردوغان في لقاء صحفي جمعه بالرئيس الروسي، مارس/آذار 2017

يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للاضطلاع بدور «محامي الشعوب التركية» في العالم، بالقدر الذي تسمح به ظروفه وقدراته، فعندما يتعرض مسلمو الإيغور الأتراك للقمع على يد السلطات الصينية لا يجدون من يقف بجوارهم في العالم الإسلامي سوى أبناء عمومتهم الأتراك، فلم تصبح إسطنبول فقط مأوى لمن استطاع الفرار من الاضطهاد الصيني، بل سخرت الحكومة إمكانياتها ونفوذها لتهريب أعداد منهم.

وتدخل أردوغان شخصيًا في قضية مسلمي الأيغور المحتجزين في تايلاند وضغط على السلطات التايلاندية لمنعها من تسليمهم للصين، وتتبنى الدولة التركية قضيتهم باعتبارهم جزءًا من الأمة القومية التي تمثلها، وما إن يشتد قمع بكين لمسلمي الإيغور حتى تشتعل المدن التركية بالمظاهرات ضد الصين، في الوقت الذي لا يكاد يدري سكان معظم العالم الإسلامي عن الأمر شيئًا.


الدين كمتمم للثنائية

أردوغان، تركيا، بوتين

تحتل تركيا اليوم المرتبة الأولى في العالم من حيث استضافة اللاجئين وتقديم الخدمات الضرورية لهم، وعلى رأسهم بالطبع اللاجئين السوريين، التي تستضيف أنقرة منهم وحدهم قرابة الـ3 ملايين لاجئ، ويستحضر الأتراك في هذا المقام الدور التاريخي لأجدادهم العثمانيين في حماية اللاجئين عندما فتحوا أراضيهم لاستقبال المهجّرين من الأندلس من اليهود والمسلمين على السواء، في عهد السلطان بايزيد الثاني، واللاجئين المجريين والبولنديين في عهد السلطان عبد المجيد الأول، وجهود السلطان سليمان القانوني في نصرة مسلمي الأندلس وشمال أفريقيا، والتي وإن لم تسفر عن استعادة الأندلس لكنها وفرت الحماية والدعم لأعداد غفيرة من المسلمين الفارين من جحيم الكاثوليك بالأندلس في ذلك الحين.

وتسعى أنقرة للانضمام إلى رابطة جنوب شرق آسيا رغم عدم انتمائها جغرافيًا لتلك المنطقة، لكن من أجل ضمان مزيد من التواجد والنفوذ في تلك المنطقة المهمة التي تضم واحدًا من أكبر التجمعات الإسلامية في العالم، فبعيدًا عن وسط آسيا حيث مناطق انتشار العرق التركي، يرفع الأتراك راية الإسلام، كرابطة عظمى تربط بينهم وبين شعوب لا يجمعهم بهم جنس ولا لون ولا لغة.

في ميانمار -بورما سابقًا- التي تتعرض فيها أقلية الروهينجا المسلمة للإبادة الجماعية على يد الرهبان البوذيين، ويضطر الكثير منهم للهرب عبر البحر، شارك الجيش التركي في جهود إنقاذ هؤلاء المشردين المحاصرين في قوارب الموت البدائية في بحار تقع على بعد آلاف الأميال من بلاده، بعدما رفضت جميع الدول المجاورة استقبالهم.

أسهم الدور الذي تقوم به تركيا في دول مثل الفلبين وفيتنام، في فتح قنوات اتصال وتأثير مهمة وسط هذه التجمعات المسلمة رغم حداثة تلك العلاقات

بالإضافة إلى الجهود الإغاثية التي شملت مناطق الروهينجا في ميانمار ومخيمات اللجوء في بنجلاديش، والتي توجت بزيارة أردوغان نفسه لتلك المناطق وتسليمه المساعدات للمسلمين هناك، والذي يعد الحاكم المسلم الوحيد الذي زار ميانمار ولم يجد من ينافسه في ذلك رغم مرور خمس سنوات على تلك الزيارة حتى الآن.

ويختلف شكل التواجد التركي في شرق آسيا من بلد لآخر؛ ففي كوريا واليابان يركز الأتراك على الأنشطة الثقافية والدعوية، ولهم قصب السبق في هذه البلاد في رعاية الشئون الدينية الإسلامية، لكن الأمر يختلف تمامًا في دول مثل الفلبين وفيتنام حيث تزداد أهمية الدور الإغاثي وتقديم المساعدات للفقراء وبناء المساجد في المناطق المحرومة وغيرها مما يتناسب مع احتياجات المسلمين المحليين، الأمر الذي أسهم في فتح قنوات اتصال وتأثير مهمة لأنقرة وسط هذه التجمعات المسلمة رغم حداثة تلك العلاقة مقارنة بدول أخرى كثيرة.

وفي الوقت الذي تحتل فيه قارة آسيا القدر الأكبر من الاهتمام والرعاية من قبل الساسة الأتراك إلا أن المتابع لخريطة التواجد والنفوذ التركي لا يملك أن يمنع نفسه من الاندهاش من شمول نفوذ أنقرة لمناطق نائية في قلب أفريقيا، وأماكن لم يكن للأتراك فيها حتى وقت قريب تأثير حضاري بارز مثل العاصمة الصومالية مقديشو، التي أصبحت أيضًا عاصمة للنفوذ التركي في القارة السمراء لاسيما بعد احتضانها للقاعدة العسكرية التي تعد الأكبر على مستوى العالم خارج الحدود التركية.

وتلعب وكالة التعاون والتنسيق التركية المعروفة باسم «وكالة تيكا» دورًا محوريًا في السياسة الخارجية لتركيا إذ تعمل على مد جسور التواصل مع العالم الخارجي عبر مشاريعها التنموية والإنسانية التي تطلقها في الدول الفقيرة كبناء المدارس والمساكن والمساعدات الطبية، وتوفير الخدمات وإغاثة المناطق المنكوبة.

وتعتبر «تيكا» إحدى أبرز أدوات القوة التركية الناعمة في العالم أجمع، وليس في الدول الإسلامية أو الآسيوية فحسب، فالوكالة توزع مساعدات بعشرات الآلاف من الدولارات على قبائل الهنود الحمر التي تعيش في الشمال الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية، وتوزع أجهزة الحواسيب في دور رعاية الأطفال بالمكسيك، وترمم المدارس في أمريكا اللاتينية، وتمتد أذرعها عبر خمس قارات لتصطنع الأصدقاء والحلفاء وتبني جسورًا بين الشعوب لا تحدها الحدود السياسية أو تعقيدات الجغرافيا.