إن كنت من متابعي السياسة وغير مهتم بالشؤون الرياضية لا من بعيد أو قريب، فأهلًا بك لأنك ستجد ما يرضي شغفك حتى لو كان من خلال الحديث عن أمر لا يستهويك ولا ترى أنه يقدم الفائدة لك، و إن كنت ممن يبحثون عن راحة البال من الأزمات التي تعصف بنا وحولنا، ولا يعنيك ما هو مصير التوتر السياسي العسكري للمنطقة، وتجد أن كرة القدم والرياضة تشكل لك مهربًا و ملاذًا آمنًا من هذا الصراع المتأجج، فأيضًا ستجد ما يلامس توجهاتك رغم الخوض فيما يزعجك.

مرة أخرى وكما اعتدنا دائمًا، صراع شرق أوسطي جديد يتصدر العناوين الإقليمية والعالمية، لدرجة أنك تخال أن الأمر أصبح شبيهًا بصراعات الموضة الموسمية التي يجب أن نعاصرها بين الفترة والأخرى، لم يعد مستغربًا أن تسمع بمشكلة تنشب هناك، وأخرى تطفو على السطح في إحدى مناطق الوطن العربي والشرق الأوسط، أو مشكلة أخرى كان العرب سبب حدوثها وتأزمها في أماكن بعيدة لم يكن أحد ليظن أننا سنؤثر في مجتمعاتها وقراراتها قبل نصف قرن من الآن، وكأن الموضة قد ناسبت الفترة الحالية وطرحت لنا تشكيلتها الصيفية بعد مشكلة تدفق اللاجئين إلى أوروبا في الشتاء.

فمع دخول فصل الصيف ظهرت مشكلة لم يكن أحد يتوقع أن تسير بهذا التسارع، دول الخليج في صراع شرس غير مسبوق، ومصالح سياسية متضاربة كانت حبيسة الغرف والمجالس السرية ظهرت للعلن بطريقة واضحة شكلًا وملوثة في مضمونها. هذه النزاعات أفضت إلى قرار بعزل قطر من البيت الخليجي بقرار سعودي إماراتي، وأدت لإعلان القطيعة الكاملة معها سياسيًا، اقتصاديًا، و حتى اجتماعيًا. ولأن الرياضة ليست بمعزل عن المشاكل السياسية كما علمتنا التجارب المشابهة السابقة، فكان لها نصيبها من هذا الجنون الحاصل، حيث أعلن نادي الأهلي السعودي في أول انعكاسات المأزق رياضيًا عن إنهاء العقد التجاري الذي يربطه بالخطوط القطرية للطيران والتي ترعى قميص النادي تجاريًا.


الرياضة في خدمة السياسة

لم تكن كرة القدم والرياضة عمومًا تلقى اهتمامًا مماثلًا من الحكومة القطرية كالذي حصلت عليه منذ بداية الألفية الجديدة، فمع الرغبة السياسية الواضحة من قبل الحكومة القطرية التي تسعى فيها لتعزيز دورها في السياسة الخارجية سواء الإقليمية أو العالمية، أدرك القطريون أن الأموال وحدها لن تكفي لنيل ما يسعون إليه، وأن الطريق لتعزيز هذا الطموح سيكون أقصر من خلال الاستثمار المدروس في المجال الرياضي، والذي أصبح له دور نافذ وهام في العصر الحالي مع تحول الرياضة بشكل عام لصناعة رئيسية لها أثر كبير في المجتمعات وتوجهاتها، حيث سعت بعض التجمعات «الألتراس المصري في الثورة المصرية» والأندية والدول لاعتماد خطاب يطرح آراء فيها مضامين سياسية أو اجتماعية أو دينية، والهدف هو تجيير النجاح الرياضي لخدمة هذه الغايات، وخاصة في الأنظمة الديكتاتورية التي تسعى لتعزيز شرعيتها من خلال استغلال الأحداث الرياضية.

قطر أدركت أنها مهما قامت بأدوار الوساطات ومهما صرفت من أموال، لن تتمكن من بناء درع يحمي خاصرتها الهشة بين فكي السعودية وإيران، لذلك كان التوجه يسعى للبناء على قاعدة ثابتة وصلبة من أجل إبراز نفوذها وحماية أمنها الوطني الداخلي، وليس البناء على أُسُس رخوة واهية، تتغير بين الفينة والأخرى وفقًا لأهواء حكام المنطقة الذين لا يمارسون السياسة، بل يسعون لاستعراض القوة ولَيّ الأذرع، حيث بدأ التفكير منذ أعوام عديدة باعتماد قوانين تساعد على إبراز الدولة رياضيًا، حيث تم استضافة العديد من البطولات الهامة مثل الألعاب الآسيوية 2006، و أيضًا تم دعم أندية كرة القدم من أجل تطوير الدوري القطري لكرة القدم بهدف استقطاب لاعبين مهمين لهم وزنهم في الكرة العالمية أمثال جابرييل باتيستوتا وجوزيب جوارديولا.


تحت مظلة الفيفا الآمنة

قطر كانت تحاول بناء كرة القدم من الصفر بسبب عدم الاهتمام من قبل الشعب القطري والأندية باللعبة، لذلك تزامن هذا الاهتمام باللعبة بعمل جاد على إكمال الملحقات التي تتعلق وتترابط معها، فقامت بتأسيس أكاديميات رياضية «أكاديمية أسباير» تستهدف الرياضيين الشباب من الوطن العربي وأفريقيا وآسيا، ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل كان المسعى أيضًا لتعزيز دور الدولة الصغيرة في كافة المجالات الأخرى المتصلة بالرياضة، مثل الطب الرياضي «مشفى سبيتار» والذي يضم أهم الخبرات الطبية الرياضية في العالم، والأمن الرياضي «المركز الدولي للأمن الرياضي» الذي يهدف لمكافحة الجرائم الرياضية. هذا الاهتمام لم يكن يهدف إلى تطوير اللعبة بالمقام الأول، أو يسعى لإبراز دور قطر وجعلها عاصمة ووجهة الرياضيين، بل له أهداف أخرى أكثر أهمية وتأثيرًا، و تكللت هذه المساعي بكسب قطر لثقة الاتحاد الدولي لكرة القدم ونيلها شرف تنظيم كأس العالم لكرة القدم 2022 للمرة الأولى في الشرق الأوسط، والهدف جذب الاهتمام الإعلامي العالمي، ووضع اسم قطر على الخارطة الدولية.

سيب بلاتر- رئيس الفيفا السابق(يمين) – الشيخة موزة (وسط) – حمد بن خليفة أمير قطر السابق (يسار)

و بالرغم من تنظيم قطر لبطولات عالمية في التنس وبعض الرياضات الأخرى، إلا أن الأحداث الرياضية تحت كنف الفيفا لها وزن مختلف عن باقي المنظمات الرياضية الأخرى؛ لأن الفيفا تعتبر أبرز المؤسسات والمنظمات العالمية، ولها دورها الفاعل في الحياة العامة والاقتصادية، لذلك كانت استضافة كأس العالم خطوة سياسية واجتماعية مهمة جدًا للقطريين، وحاولوا الحصول على حق تنظيم البطولة العالمية بكافة الوسائل الشرعية وغير الشرعية لكسب المزيد من القوة والنفوذ على الساحة المحلية والإقليمية؛ لأن قطر تعتبر الفوز بأحقية تنظيم المونديال بمثابة السلاح الجديد الذي سيمنحها مظلة دفاعية تمنح الأمان لها وباستطاعته مجاراة التفوق العسكري والبشري للدول المحيطة بها.


الدبلوماسية والقوة الناعمة

حكومة قطر راهنت على الرياضة منذ البداية واعتبرتها خيارًا إستراتيجيًا هامًا، وترى قطر أن دبلوماسيتها الرياضية بمثابة القوة الناعمة لحمايتها من الاضطراب الدائم في المنطقة، ومن أجل مواجهة دول تفوقها قوةً وتعدادًا سكانيًا، فتنظيم الفعاليات الرياضية الكبرى وزيادة حجم الاستثمارات في كافة أصقاع العالم هو بُعد أساسي لإستراتيجيتها ضمن الإستراتيجيات التي تتبعها في سياستها الخارجية.

اعتراف اللجنة الأولمبية الدولية أهم من اعتراف منظمة الأمم المتحدة؛ لأن الجميع يحترم قرارات اللجنة الأولمبية الدولية.

الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني – أمير قطر السابق

الفعاليات الرياضية التي استضافتها  وستستضيفها قطر منذ بداية الألفية.

وتسوق الحكومة لهذه الاستثمارات الرياضية من خلال أفراد العائلة المالكة والنخب السياسية في الدولة، ويرون أن الرياضة تلبي «حاجات عقلانية» بعيدة المدى، لذلك لجأت قطر دائمًا لاستضافة جميع الفعاليات الرياضية الكبرى، وتسعى لتعزيز دورها في أماكن صنع القرار حتى لو كان بعيدًا عن المجالس السياسية والقصور الرئاسية.


ماذا سيحدث لاحقًا؟

رغم خطورة التوتر «الخليجي-الخليجي» الحالي وتأثيره السلبي على المنطقة، إلا أن المشكلة التي أشعلتها زيارة ترامب الأخيرة لم تمتد حتى الآن خارج حدود الدول الخليجية، فلم تعلن الدول الأوروبية والتي تربطها بقطر علاقات تجارية واقتصادية عن موقفها من هذه القرارات التي تتهم قطر بدعم الإرهاب في المنطقة. وإذا أردنا أن نتكلم عن التأثير القطري في اللعبة أوروبيًا وعالميًا، فإنه يفوق الدور السعودي بكل تأكيد، ابتداءً من أهمية تواجد شبكات Bein sport وتوزعها على مناطق جغرافية تمتد من آسيا إلى أوروبا، وانتهاءً بالولايات المتحدة وسيطرتها على حقوق البث لأهم البطولات الرياضية حول العالم.

المؤسسات القطرية الفاعلة في العالم في المجال الإعلامي والاقتصادي والرياضي، المصدر: صحيفة الجارديان البريطانية.

أيضًا لا يمكن إغفال الدور الاقتصادي الذي تقوم به المؤسسات القطرية سواء كشراكة أو رعاية في مواقع يمكن اعتبارها عصب اللعبة، وأبرزها امتلاك شركة قطر للاستثمارات لنادي باريس سان جيرمان الفرنسي، ورعاية الخطوط القطرية للطيران للفيفا واعتبارها شريكًا رسميًا، وأيضًا رعاية بعض الأندية الأوروبية الكبرى؛ مثل الصفقة السابقة بين نادي برشلونة والقطرية للطيران، والصفقة التي تجمع بين نادي بايرن ميونخ ومطار حمد واعتباره أحد الرعاة الرسميين للنادي الألماني، وأيضًا مع نادي فالنسيا الإسباني الذي ترعاه شبكة قنوات Bein sports.

الأزمة لم تنضج بعد، وما زالت في شهور حملها الأولى، والتزامات قطر مع الفيفا هي طويلة الأجل وليست مستعجلة، لذلك لا يمكن التكهن بما سيحصل لاحقًا في حال طال أمد النزاع، وما هو موقف الفيفا حينها في حال استمر الحصار الاقتصادي والسياسي على قطر؛ لأن للفيفا الكلمة العليا في النهاية فيما يخص سحب حق التنظيم أو الاستمرار به. و منذ اللحظات الأولى ظهر اهتمام إعلامي «بريطاني- أمريكي» بالمشكلة الحاصلة، و يهدف لإحياء ملفات الفساد الرياضي القطري في المجال الكروي، وإعادتها للواجهة من جديد أملًا بسحب حق تنظيم المونديال وإوكاله لإحدى الدولتين، وخاصة الولايات المتحدة التي خسرت المعركة أمام القطريين في عام 2010، والتي أصبح لأجهزتها المخابراتية دور في كشف عناصر الجريمة الكروية في محاولة منهم للسيطرة على الفيفا.