– التاريخ: 12 يوليو/تموز عام 1998

– المكان: العاصمة الفرنسية باريس- ضاحية سان دوني، استاد فرنسا.

– المناسبة: نهائي كأس العالم بين المنتخب الفرنسي مستضيف البطولة، ومنتخب السامبا البرازيلي صاحب السجل العالمي في عدد الألقاب العالمية.

– النهاية: مثالية للفريق وللدولة ككل. المنتخب الفرنسي ينجح في تحقيق البطولة للمرة الأولى في تاريخ منتخب الديكة الفرنسي. وفرنسا الدولة تستعيد حالة الوحدة ومفهوم الجمهورية بعد سنوات عصيبة من التوتر العنصري والمشاكل بين المهاجرين والشرطة.

هذه النهاية السعيدة للفرنسيين كانت بسبب هدفي «زين الدين زيدان» صاحب الأصول الجزائرية، والذي ترعرع في الضواحي الفقيرة. في طرفة عين أصبح ابن المهاجر الجزائري «إسماعيل زيدان» رمزًا وطنيًا يضاهي بشهرته أبرز السياسيين والشخصيات الاجتماعية المعروفة. لتنتهي تلك الاحتفالات المذهلة بترديد الفرنسيين لجملة «الرئيس زيدان» طوال تلك الليلة.

بطبيعة الحال، لم يأت الفرنسيون بشكل خاص لرؤية إبداعات لاعب يوفنتوس، فهو لم يحظ بتلك الشهرة قبل انطلاق صافرة المباراة النهائية. لكن عندما فاز المنتخب الأزرق بكأس العالم، احتضنت فرنسا ابنها الجديد وكأنه ملاك أو إله.

لكن كيف غير زيدان بهدفيه مفهوم الدولة والأمة الفرنسية بعد إيصال بلاده إلى اللقب؟ كيف حول دولة ذات تاريخ استعماري دموي طويل وتفرقها الأعراق والأجناس، إلى فريق وطني أشبه بمنارة للتعددية الثقافية، يمثل فرنسا جديدة مع مواطنين فرنسيين موحدين.


1954: سان دوني فيما مضى

بدأ العمل في بناء استاد فرنسا، الملعب الرئيسي لكأس العالم في مايو/آيار 1995. المنطقة التي تم اختيارها هي «سان دوني» إحدى ضواحي باريس سيئة السمعة. ضواحٍ فوضوية فقيرة، والتي غالبًا ما تُصور في المقام الأول على أنها مواقع للفقر والبطالة، مناطق مليئة بالحرمان والتوتر العنصري مع رجال الشرطة.

إسماعيل زيدان — والد زين الدين زيدان

عندما جاء «إسماعيل زيدان» والد زين الدين إلى فرنسا بحثًا عن العمل في خمسينيات القرن الماضي، عمل كعامل في بناء الضاحية على بعد ياردات من الموقع المستقبلي للملعب. نام هناك لأنه لم يكن لديه ما يكفي من المال للإيجار.

لم يجرؤ إسماعيل على الحلم، أو حتى تخيل أنه على تلك التربة نفسها التي أنهكته في العمل، ووضع عليها رأسه للنوم، سيتم تكريم ابنه بعد 4 عقود كبطل قومي للبلاد التي أتاها مهاجرًا.


أوائل يوليو/تموز 1998: قلة ثقة وتشكيك

قبل أيام قليلة من انطلاق المباراة الافتتاحية للمنتخب الفرنسي في نهائيات كأس العالم عام 1998، قام المدرب «إيمي جاكيه» بتجميع عناصر المنتخب في غرفة تغيير الملابس في معسكر المنتخب التحضيري في «كليرفونتين»،وخاطبهم بطريقة مغايرة هذه المرة.

أريد أن نكون معًا في هذا الأمر، نحن بحاجة إلى الكثير من التركيز. لأن ما سيحدث أمر في غاية الأهمية، ولا أعتقد أنكم مدركون لذلك بعد.
«إيمي جاكي» مدرب المنتخب الفرنسي عام 1998

لم يكن اللاعبون واثقين بأنفسهم، وكان هناك القليل من الإيمان بقدرتهم على المضي بعيدًا في البطولة. سواء في غرفة خلع الملابس أو حتى في الشارع الفرنسي بشكل عام. باعتقادهم لم يمتلك الديوك ما يتطلبه الأمر للحصول على الكأس الذهبية في نهاية المطاف. لم يتخيل اللاعبون أنفسهم يحملون الكأس حتى في أجمل أحلامهم.

على المستوى الرياضي، قدم المنتخب الفرنسي الذي كان يمثله العديد من اللاعبين من أصحاب البشرة السوداء وأبناء المهاجرين أداءً باهتًا في المباريات التحضرية للبطولة. لم يكن من المتوقع أن يقوموا بعمل جيد خلال المونديال بعد تعثرهم أمام كل من روسيا والسويد والمغرب في المباريات الودية.

جان ماري لوبين – زعيم حزب الجبهة الوطنية اليميني

أما على المستوى الشعبي، فكان الشارع والرأي العام رافضًا بشدة لاختيارات المدير الفني جاكيه. على رأس هذه الأصوات المعارضة، كان «جان ماري لوبين» زعيم حزب الجبهة الوطنية اليميني صاحب الرأي الأكثر تطرفًا بخصوص المنتخب الأزرق. حيث وصف الفريق بأنه مصطنع وليس فريقًا فرنسيًّا حقيقيًّا. كان جليًا أن الديوك كانوا يقاتلون لأكثر من كأس العالم، وأكثر من مجرد لقب وميدالية ذهبية.


12 يونيو/حزيران 1998: مارسيليا – نقطة البداية

على عكس العادة لم تلعب المباراة الافتتاحية في باريس، لذلك وقع الخيار على مرسيليا التي ولد بها زين الدين، أو كما يحب والده مناداته بـ«يزيد». اختيار مرسيليا كخطوة أولى للحلم، كان بهدف إبعاد المنتخب عن الضغوط، من أجل اللعب أمام حشد متنوع يشمل الفرنسيين والمهاجرين معًا.

منتخب جنوب أفريقيا ليس لديه سجل حافل في البطولات العالمية، لكن رغم ذلك مازال اللاعبون يشعرون بالخوف والتوتر رغم الثقة التي حاول زرعها جاكيه في أنفس لاعبيه.

أنهى الديوك المهمة الأولى بنجاح بتخطيهم عقبة جنوب «البافانا بافانا» بثلاثية نظيفة. ومع توالي الانتصارات أصبح الفريق يشعر بالثقة، وأدركوا أنهم جزء من قصة غير عادية. وبدأ الناس يؤمنون، ليس فقط بالفريق ولكن ببلدهم، بأنفسهم. البلد متحد، وكأن الأمر كما لو لم يكن هناك فروق مطلقًا.

الأغنياء والفقراء والطبقة الوسطى والعاملة بغض النظر عن خلفيتهم يحتفلون في الشوارع تحت راية المنتخب ذي الألوان الثلاثة، وكأنهم يلتمسون إحساسًا جديدًا بالهوية.


12 يوليو/تموز: سان دوني- تاريخ جديد مشرق

جان ماري لوبين, الجبهة الوطنية اليميني, كرة القدم

الفريق لم يكن رمزًا تعقد عليه الآمال قبل أيام معدودة، وخلال مدة قصيرة كان بمثابة إشارة إلى ما يمكن أن يكون كحالة استثنائية. كان بمثابة نقطة تَحوُّل نحو فرنسا مختلفة، بعيدة كل البعد عن التاريخ الاستعماري والتفرقة العنصرية.

منتخب فرنسا المتوج بلقب كأس العالم 1998

مع تحقيق اللقب أصبح التنوع العرقي للفريق موضع ثناء وتميز بالنسبة للإعلام والمجتمع الفرنسي. زيدان تنحدر أصوله من قبائل في الجزائر، «فييرا» من السنغال، «مارسيل ديسايي» من مواليد أكرا في غانا، «كاريمبو» و «تورام» من جزر تحت سيطرة السيادة الفرنسية. كان انتصارًا ساعد على توحيد الأمة ولو مؤقتًا.

بالنسبة للفرنسيين، لن ينسوا مطلقًا ليلة النهائي في سان دوني، فهي بمثابة لحظة حاسمة في حياتهم. واحدة من تلك المناسبات النادرة التي تصبح فيها حياة الفرد ضمن الصفحات الأولى للتاريخ. الجميع في فرنسا يذكرون أين قضوا ذلك اليوم، أين سهروا وغنوا، وماذا شربوا، لكل شخص قصته الخاصة عن تلك الليلة.

ربما كان الأشخاص الوحيدون بالبلد الذين لم يشاركوا في هذه الاحتفالات وأغلقوا أبوابهم على أنفسهم داخل منازلهم، هم أنصار الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة وجان ماري لوبين. في وقت لاحق من تلك الليلة، تم عرض صورة زيدان على قوس النصر الشهير في الشانزليزيه أمام ما يفوق مليون مواطن فرنسي يعيشون نشوة كرة القدم التي لم يتذوقوا حلاوتها من قبل.

لقد حوّل لوبين بتصريحاته الفريق إلى رمز لفرنسا متعددة الثقافات بعد مهاجمته التنوع العرقي للمنتخب، وأدى الفوز باللقب إلى تراجع شعبيته في العام التالي. حيث شهدت الجبهة الوطنية تراجعًا في الانتخابات البرلمانية في العام التالي. كانت نتائج استطلاعها في العام السابق 15%، وفي عام 1998 تراجعت شعبيتها وتقلصت إلى 5.7% في انتخابات 1998.

بصراحة، لم أكن أهتم بذلك. أنا فرنسي من أصل أفريقي. كان من الجيد أن يكون هناك مواطن جزائري الأصل، وآخر غاني وسنغالي. في نهاية المطاف، كنا جميعًا فرنسيين وحاربنا من أجل العلم نفسه، وهذا جلب روحًا إيجابية للبلد.
«مارسيل ديسايي» عن تحقيق فرنسا للقب.

لأجل القدر والصدفة، كان الشخص الوحيد الذي لم يحضر تلك الفرحة هو إسماعيل زيدان. في تلك الليلة كان بيت العائلة مقصدًا للعديد من الأصدقاء والأقارب الذين أتوا لمتابعة المباراة. إسماعيل فضل عدم التوجه إلى الملعب، ولا حتى مشاركة الجميع بمتابعة المباراة على التلفاز.

حيث كان مضطرًا لرعاية «لوكا» الذي كان يبلغ شهرين فقط. خرج به إلى الحديقة هربًا من الضجة والصراخ لمساعدته على النوم، وكان غالبًا الشخص الوحيد في البلاد الذي لم يتابع المباراة.

كان ابني «نور الدين» يطلعني على آخر تطورات المباراة، جاء إليَّ مسرعًا وأخبرني أن يزيد أحرز الهدف الأول، ثم عاد مرة أخرى، وقال لي إنه أضاف الهدف الثاني، كان يعتريني شعور لا يمكن وصفه، وشكرت الله على فضله وأنا أهمس في أذن لوكا.
«إسماعيل زيدان» عن ليلة النهائي.

لم يكن إسماعيل بحاجة إلى ابنه ليخبره عن مجريات اللقاء، فالحي بأكمله والبلاد بأسرها كانت تصرخ باسم «زيزو» وتشكره على هذا الرأس الذهبي الذي جعل من فرنسا بلدًا أفضل ولو لأعوام قليلة فقط.