على حافة الهاوية؛ تدير الأوبك بقيادة المملكة العربية السعودية معركة اقتصادية مع روسيا، حيث لا وقت للنجاة، سنتيمترات فقط متاحة للمناورة، ونتائج كارثية اقتصاديًا إن استمرت هذه المعركة.

ما زال الوقود الأحفوري هو محرك الاقتصاد العالمي، هو قوته الدافعة، وأي تغيير في سعره يعني تغييرات تطرأ على جميع القطاعات في مقدمتها الصناعة والشحن. أي تباطؤ في نمو اقتصادات الدول الصناعية الكبرى يؤثر بصورة مباشرة على سعره، بما يترتب عليه تغيرات في اقتصادات دول العالم.

لكي نستعرض حساسية الصراع النفطي ومآلاته علينا التطرق لأزمة النفط المستعرة بين دول العالم، ومن جهة أخرى كيف لجائحة فيروس كورونا أن تعمق الأزمة، وتضيق مجال المناورة النفطية في الوقت الحالي.

قصة تراجع الطلب الحرجة

توقع الاقتصاديون أن يدخل العالم هذا العام أزمة مالية أشد وطأة من أزمة عام 2008، مستندين إلى مؤشرات تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني. كان يُتوقع للأزمة أن تبدأ من قطاع التكنولوجيا، لذا كانت تقارير الشركات العملاقة كـ«أبل» الربع سنوية في قائمة اهتمام المحللين.

سيتبع ذلك التراجع في مبيعات الشركات بعد ربعين مخيبين للآمال إلى تسريح جزء من العمالة، مما سيؤدي إلى تراجع الطلب عالميًا، لتمتد الأزمة من قطاع التكنولوجيا إلى قطاعات الكماليات، والتي بدورها ستفاقم الأزمة بالتسريح، ويدخل الاقتصاد العالمي في ركود.

لا تستطيع العمالة المسرحة من أعمالها الوفاء بالتزاماتها، كالقروض وسداد الأقساط، لتتوسع الأزمة فتضرب المجال العقاري. يتبع ذلك بالطبع هلع المستثمرين وضخ أموالهم في الملاذات الآمنة كشراء الذهب، أو ضخها في أذونات الخزانة الأمريكية.

يتطلب ذلك من الدول عمل برنامج إصلاح عملاق، خلطة بوش السرية؛ أن يتم ضخ أموال من الدولة لدعم رجال الأعمال وقطاع الاستثمارات، برامج إصلاح هدفها وقف نزيف الشركات والحفاظ على العمالة التي بدورها ستحرك المياه الراكدة وستستهلك السلع المختلفة.

تقتضي تلك الإصلاحات التضحية بالعامل لحساب الحفاظ على طبقات المستثمرين، والذين بالطبع بعد استقرار الأسواق سيبدؤون في النمو من جديد، ليفتحوا أسواقًا جديدة.

تؤثر الأزمة على أسعار النفط، فالدول المصنعة لم تعد بحاجة لتلك الكميات الضخمة من النفط، مما يؤدي لانهيار سعره، هذه كانت التوقعات الاقتصادية لنهاية عام 2020، إلا أن المستقبل كان أشد قسوة مما توقعنا.

حين خيم الوباء

ضربت كورونا الصين. ولأن الموتى لا يعملون، فقد توقف كل شيء حتى لا تموت العمالة. مدت الصين إجازة السنة القمرية في أول فبراير/ شباط 2020، وأخضعت مناطق كاملة للعزل التام بالتدريج، وتوقف الاقتصاد الصيني وعمل في حدوده الدنيا.

خسائر ضخمة في قطاع السياحة والصناعة والاستثمارات الأجنبية في الصين، أدت إلى تسريح ما يقرب من 5 ملايين موظف خلال شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط. خسر الناتج المحلي الصيني 9.9% من قيمته في الربع الأول لعام 2020. تباطؤ الاقتصاد الصيني والمخاوف من انتشار الفيروس عالميًا، أدى إلى تراجع الطلب مع شبح الركود الذي يلوح في الأفق، وبالتالي ستتراجع أسعار النفط تدريجيًا، لعدم حاجة الدول المصنعة له.

اقرأ أيضًا: كيف دفعت المواجهة السعودية الروسية أسعار النفط إلى الإنهيار؟

لُعبتي البترودولار ونزع الفائض

يُقال غالبًا إن سياسة الشرق الأوسط قد تشكلت بفعل قوة صناعة البترول الدولية، لكن الأفضل أن نقول إنها تشكلت بفعل ضعفها.
تيموثي ميتشل

يتساءل البعض لماذا تتواجد السعودية في قائمة الدول الأكثر شراءً للسلاح، الإجابة لعبة البترودولار؛ حيث كانت شركة أرمكو تصدر النفط للولايات المتحدة، يعني ذلك هروب الدولار إلى خزائن المملكة، التي كانت لديها فرصة ذهبية للاستحواذ على السوق، أو على الأقل من خلال المستفيدين منها بشكل مباشر.

لكن استعارت الولايات المتحدة استراتيجية بريطانيا القذرة مع إيران، وانتزعت قليلاً من الفائض لدى السعودية ودول النفط عمومًا عبر بيع السلاح، الذي يضخ أموالًا مهولة في الاقتصاد الأمريكي موجدًا فرص عمل بالملايين، ومساهمًا في نمو الاقتصاد.

السلاح والنفط يتكاملان بطريقة معينة.
تيموثي ميتشل

ومع تقلص حجم الواردات النفطية الأمريكية إلى ما دون 7 ملايين برميل يوميًا، تحولت لعبة تدوير الدولار، إلى لعبة أشد مكرًا، وهي نزع الفائض من دول شرق آسيا وضخها في اقتصادات الدول الغربية من خلال بيع النفط لدول شرق آسيا بالدولار، ثم ضخها للولايات المتحدة والعالم الغربي عبر شراء السلاح أو استثمارات في قطاعات اقتصادية أخرى.

اعتداء روسيا على الغرب

كانت الاستراتيجية الأمريكية تقتضي إما أن تكون شركاتها من تستحوذ على تلك الاحتياطيات، أو أنها تقوم بلعبة البترودلار ونزع الفائض عبر الدول الضعيفة التي تخضع لها كالسعودية، إلا أن ما لم يكن مقبولًا أن تذهب الدولارات إلى روسيا او إيران أو فنزويلا، التي تعتبرها الولايات المتحدة دولًا معتدية.

في سبعينيات القرن العشرين دخل إلى حلبة الصراع جيل جديد من الدول التي يمكن تسميتها «الدول النفطية المعتدية» أبرزها روسيا وإيران وفنزويلا، ومع نمو الفائض من بيع النفط إلى خزائن تلك الدول أصبحت أكثر خشونة.

في 1917 كانت روسيا تنتج 15% من الاحتياج العالمي من النفط وقتها، لكنها لم تتلق عائدات منه إلا في التسعينيات.
روبرت سيلتر

في مايو/ آيار 2002 ذهب جورج بوش إلى بوتين في موسكو، وبدأ عهد الاستثمارات في القطاعات الروسية، عمليات نزع الفائض كانت محفوفة بالمخاطر، فبعد عامين انقلب بوتين على تلك الوعود ورفع من إنتاج النفط وطرد المستثمرين الأجانب.

خاض حربًا ضد النخبة فاعتقل رجال الأعمال، كما حدث مع ميخائيل خودركوفيسكي الذي أدين بالتهرب الضريبي. كانت تلك الحرب ضد الغرب، الذي تعمد أن يخنق روسيا بترك منظومته المتهالكة لنقل الغاز في الحضيض، لأنها لم تذعن لسياسات العم سام.

توسعت شركات روسيا القومية وطردت شركة شل، وصارت روسيا عام 2006 ثاني أكبر مصدر للنفط للعالم، نفط رخيص للدول غير الغربية، كالصين والهند ودول شرق آسيا. وعليه خاضت روسيا حرب جورجيا واستحوذت على القرم لتأمن نمو مريح عبر مد شبكاتها للغاز.

مع استمرار نمو دول شرق آسيا المبشرة كانت روسيا تتقدم بهدوء، لذا تحول الصراع نحو ما سمتها الرأسمالية الغربية الدول المعتدية كروسيا وفنزويلا والصين، التي تكتنز فائضًا ليس للغرب إليه سبيل.

النيولبرله وعبور القومية

جاء عهد أوباما المُحمل بآمال اليسار وخطاب العولمة بعد أزمة مالية طاحنة في نهاية عهد بوش الابن، كانت سياسة أوباما كحال أي رئيس أمريكي توظيف عمالة جديدة بالملايين، من خلال إحداث نمو اقتصادي عالٍ. أقر حزمة مالية ضخمة لحفز الاقتصاد، ودعم البنوك التي أعلنت إفلاسها، إلا أن الأداة الأهم جاءت من خلال اقتصادات النيوليبرالية، الشركات متعددة الجنسيات العابرة للقوميات، دعم ذلك القطاع من خلال نمو ما يعرف بالاقتصاد التشاركي من فئات طبقة متوسطة، غالبيتها كانت يسار.

تلك الشركات طرقت أسواقاً جديدة تعتمد بشكل أساسي على حق الحركة والنقل والمسكن والبيئة، إلا أنها أدت بخسائر فادحة للاقتصاد الأفقر والفردي. مثال ذلك وجود شركة أوبر للنقل، والذي أضر بالطبع المستثمرين الصغار في ذلك القطاع في البلدان غير الغربية، إلا أنه كان مناسبًا جدًا في الشركات الغربية، حيث حولت صغار المستثمرين إلى تكتلات إقتصادية قادمة بقوة.

كانت التكنولوجيا حاضرة ككل العصور، فتقنيات إنتاج النفط من الطفل جاءت ببشرى سارة لفتح ذلك الكنز الكبير الذي كان من الصعوبة استخراجه، وبأسعار تكلف بين 32 و35 دولاراً للبرميل، مما يرفع من احتياطات النفط عالميًا، ويطيل عمر الوقود الأحفوري كعصب الاقتصاد والحياة عالميًا.

بالطبع ذهبت تلك التقنيات للشركات متعددة الجنسيات، والأخوات السبع الأمريكية. هنا عصر جديد يتشكل، تتراجع فيه الشركات القومية لصالح الشركات متعددة الجنسيات. انخفض سعر النفط عالميًا ما دون 20 دولاراً، مع إعلان الولايات المتحدة أنها ستكتفي ذاتيًا من النفط، قُصد منها إخضاع روسيا التي تعتدي على دول الاتحاد الأوروبي والعالم الغربي.

تعتمد ميزانية الحكومة الروسية على 41% من دخل النفط، انهار الروبل وعانى الاقتصاد الروسي في حين كانت الصين مستفيدة من انخفاض تكلفة التصنيع والشحن.

لم تكن الولايات المتحدة ترغب في أن يستمر الانخفاض كثيرًا، وإنما بشكل مؤقت، حتى تنتج من الزيت الصخري بشكل مستقر، مجبِرة دول الأوبك على تقليل الإنتاج وبالتالي يرتفع السعر مرة أخرى، لكنها لم تكن ترغب أيضًا أن يتجاوز حدود 68 دولارًا، من أجل حصتها الصناعية.

كيف اعتدى ترامب على العالم؟

اتفقت دول الأوبك مع روسيا على تخفيض الإنتاج في نهاية 2016، ثم استمرت في الخفض بحلول مايو/ آيار 2017. أدى ذلك الخفض لتراجع حصة الشركات القومية من الأسواق العالمية، مع بقاء لعبة تدوير الدولار الخليجية وتقديم الإتاوات بشراء كميات ضخمة من الأسلحة الغربية.

بدأت الحكاية من إيران، في مايو/ آيار 2018 بانسحاب ترامب من الاتفاق الإيراني الغربي الذي وقع في عهد أوباما، كانت إيران تستحوذ على 5% من صادرات النفط عالميًا. شدد ترامب العقوبات في أبريل/ نيسان 2019 على إيران، مما اضطرها إلى محاولة تحريك سعر النفط عبر استخدام سياسة شفير الهاوية، بافتعال شبه حرب في هرمز، كان مقصد إيران منها أن يصل سعر النفط إلى 100 دولار، بما يضر بالمصالح الأمريكية الصناعية التي تريده تحت 70 دولاراً، ويمنع مفاقمة عجز الميزانية لما فوق التريليون دولار، ناهيك عن تسريح العمالة بسبب التكلفة المرتفعة للتصنيع.

وعلى الجانب الآخر للحد من عجز الموازنة الإيراني، استطاعت إيران بالفعل تحريك سعر النفط إلى 68 دولاراً للبرميل، إلا أن المؤكد أنها خسرت حصتها من صادرات النفط عالميًا. حاولت السعودية تغطية ذلك العجز لصالح العالم الغربي قبل روسيا.

إلا أن خطة أوباما بعبور الشركات القومية كانت قد آتت ثمارها عامي 2018-2019، حيث رفع الكونجرس الأمريكي الحظر على تصدير النفط عام 2015، وبدأت الشركات متعددة الجنسيات في ملء الفراغ الإيراني بنفطها الصخري، والمستورد الذي لا يقبلها عليه التوجه شرقًا، نحو روسيا.

خسرت السعودية جزءاً من حصتها مع خفض الإنتاج، والآن قد تخسر تربعها على عرش المصدرين عالميًا لصالح الولايات المتحدة وفي أسوأ الظروف لصالح روسيا، لكن الحكاية لا تتوقف عند حدود السعودية بل تضرب اقتصادات السلاح والاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة، التي تقتات على فوائض الخليج.

النتيجة صراع منتجين ومستثمرين أمريكي-أمريكي، وصراع شركات قومية سعودي- روسي على الحصص السوقية للنفط، مع تباطؤ الاقتصاد العالمي، ودخول الاقتصاد العالمي في مرحلة ركود رسميًا.

الذهاب للحرب

في 6 مارس/ آذار 2020 تأخر اجتماع أوبك في فيينا ثلاث ساعات، قبلها كانت السعودية تجتمع بالأعضاء منفردة، لتقنعهم بقرار خفض إنتاج النفط، بسبب التراجع في سعره 4% متأثرًا بتباطوء الاقتصاد الصيني جراء كورونا.

الحل خفض الإنتاج ولا بديل عن ذلك، إلا أن روسيا رفضت المقترح، مع تمسكها بخيار الإبقاء على الخفض الحالي المتبع منذ منتصف 2017، وهو الخفض الذي لم يكن ليهوي بأسعار النفط بشكل ضخم. لكن السعودية التي تدرك أن حصتها السوقية تتراجع، في ظل تراجع الطلب الشرق أسيوي، قررت أن تغامر مع روسيا، مدعومة من قطاعات في أمريكا، ترغب في تأديب الروس والإيرانيين معًا مستغلة التباطؤ الصيني.

أشهرت السعودية السلاح وأعلنت انسحابها من قرار خفض الإنتاج 2017م ورفع إنتاجها إلى حدود 13 مليون برميل يوميًا بعد ما توقف عند 9.7 مليون برميل. الهدف الأول هو الروس، أما الهدف الثاني فهو الحفاظ على الحصة السوقية في مواجهة المنافسين سواء من الشركات متعددة الجنسيات، ليهبط النفط أكثر من 50% من قيمته خلال مارس/ آذار الجاري.

السعودية استطاعت أن تجرح الجميع بعد ما بدأت بيع عقود النفط الآجلة لشهر أبريل/ نيسان أقل 8 دولارات بدلًا من 6 دولارات، ثم استأجرت ناقلات شحن واستقبلت عروضًا ضخمة من الصين والهند ودول شرق آسيا بالأسعار الرخيصة، وهي استراتيجيتها لرفع السعر، إلا أن وباء كورونا كان له الدور الأساسي لخسارة ذلك الرهان.

سعر النفط عند حدود 26 دولاراً، سيكلف الجميع الكثير في ظل الركود العالمي الذي ضرب الاقتصاد بعد أزمة كورونا، أو أكثر دقة التي عمقتها كورونا إلى مستويات لم نعهدها منذ الكساد العظيم 1929.

ماذا بعد؟

 

خلاصة القول أن السعودية ستخسر الحرب، ولن تصمد كثيرًا في حرب النفط تلك، وستتخلى السعودية سريعًا عن سلاحها في أقرب فرصة، فآثار انخفاض أسعار النفط على المملكة كارثية، حيث خفضت المملكة نفقاتها الحكومية إلى مايقرب من 13.5 مليار دولار لعام 2020، كما أقرت حزمة دعم تبلغ 32 مليار دولار.

المرجح أيضًا أنه ستنهار خطط القطاع غير النفطي في رؤية 2030 للمملكة، حسب موقع أويل برايس الأمريكي، وبالتالي ستحاول المملكة التعويض من الصندوق السيادي، لكن مراهناتها على خضوع روسيا سينعكس على الجميع بالسلب.

كذلك ستتعمق الآثار السلبية على الجميع من أزمة الركود العالمية؛ على سبيل المثال ستخسر شركات الزيت الصخري وشركات النفط الكندية والإنجليزية الكثير، مما يؤدي إلى تسريح العمالة مع تراجع القطاع الصناعي مما يؤدي إلى تراجع الاستهلاك، وهذا أشبه بتوقف الاقتصاد العالمي.

روسيا تخسر 2% حتى اللحظة من ناتجها المحلي جراء تراجع الأسعار، وخسر الروبل 14% من قيمته، كما أنهت إيران ميزانيتها في 21 مارس/ آذار 2020 بعجز قيمته 36 مليار دولار.

لن يحتمل أحد استمرار الحرب في ظل تفشي الفيروس وحالة الركود التي أعلن صندوق النقد الدولي دخول العالم إليها، المؤكد أن أزمة تفشي فيروس كورونا قلصت مدة الحرب تلك، ستتدخل أمريكا وتضغط على السعودية، خصوصاً بعد دخولها والدول المصنعة نفق كورونا المظلم.

المراجع
  1. كتاب «ديقراطية الكربون» لـ تيموثي ميتشل
  2. كتاب «سلطة النفط والتحول في ميزان القوى العالمية» لـ روبرت سليتر