نعرف أن العنوان قد يوحي بأنه مقال يندرج تحت تصنيف الفانتازيا، وربما تحمست لفكرة مقاربة أداء طارق حامد بأداء أندريا بيرلو في إطار خيالي، لكن دعني أؤكد لك أن المقال يقوم على بحث علمي قدمه أستاذ مهووس بكرة القدم، اسمه «جير جوردت» وقد فشل في أن يكون بيرلو أو تشافي أو زين الدين زيدان، فعكف خلال العقدين الأخيرين على دراسة أهم ما يميزهم على أرضية الملعب. 

هل بإمكانك تخمين ما هو؟ نعم بالطبع رؤية الملعب الخارقة التي يتمتع بها الثلاثي الفذ، تلك المهارة التي جعلت البعض يظن أن زيزو يمتلك عينًا ثالثة خلف رأسه، ودفعت روبيرتو باجيو للتصريح عن قدرة بيرلو على توقع حركات زملائه قبل أن يقوموا بها، وجعلت من تشافي الذي لا يزيد طوله عن 1.7 متر أحد أفضل لاعبي وسط الملعب في جيله. أهلًا بكم في ثورة الاستكشاف البصري.

إياك أن تتوقف عن التقاط الصور

تخيل أنك تشاهد إحدى مباريات الناشئين من الملعب، وفجأة قام أحد آباء اللاعبين ينادي باسم ابنه صارخًا: «الصور! لا تتوقف عن التقاط الصور!» حينها ستتساءل: «من ذلك المعتوه؟ هل يظن أن وظيفة اللاعبين هي التقاط الصور؟ ربما يرتدي ابنه كاميرا حول عنقه!»

حسنًا، الآن ماذا لو أخبرتك أن ابنه صار فيما بعد: فرانك لامبارد؟ 

في الحقيقة والد لامبارد لم يكن معتوهًا، بل هو لاعب كرة قدم سابق، وكان يعني ما يقول. ببساطة كان يريد لابنه أن يلتقط صورًا مختلفة للملعب، ليس بالكاميرا طبعًا ولكن بعينيه، وذلك كي يحدد تمركز زملائه وخصومه، وبالتالي يتخذ القرار الأفضل حين يستحوذ فريقه على الكرة أو يفقدها. 

بعد سنوات من تدريب ابنه على هذا النمط، أصبح لامبارد متمكنًا للغاية من كشف الملعب، بل أستاذًا كما يصفه زميله: جو كول. اعتقد كول أن فرانك ولد بهذه القدرة الهائلة على توقع حركات اللاعبين، ويبدو أنه شهد عدة مواقف معقدة استطاع فيها زميله قراءة ثغرات الخصوم ليخرج بذلك الحكم، من بينها ما حدث خلال مواجهة البلوز لنادي بلاكبيرن أواخر عام 2009.

هل أدركت أهمية الصور؟

ﻷغلب المتابعين، كان أبرز ما في المباراة هو الأهداف الخمسة التي سجلها تشيلسي، لكن مشهدًا بعينه يبرز كيف يتصرف لامبارد كان كل شيء بالنسبة للبروفيسور: جوردت. المشهد باختصار يكشف عن حركة فرانك بدون كرة، إذ يلتفت مع كل خطوة يمينًا ويسارًا بمعدل مرتفع للغاية، لينجح في النهاية باستلام الكرة بدون رقابة، ومن ثم يرسل تمريرة خطيرة كادت تنتهي بهدف لتشيلسي. 

للوهلة الأولى يبدو الأمر عاديًا، لكن حين تعرف أنه قام بالالتفات عشر مرات خلال سبع ثوانِ فقط، ثم يؤكد السيد جوردت أن هذا الرقم لم يكن صدفة أبدًا، وأخيرًا تدرك ما كتبه عن اختيار لامبارد لكل قرار بالتمركز في أي مكان، والتمرير لأي لاعب، وفقًا لتلك النظرات الخاطفة، فربما تغير وجهة نظرك قليلًا، وتفهم أهمية التقاط فرانك الصغير للصور.

زيدان في بحث علمي

الآن دعني أعرفك على السيد جوردت، هو باحث نرويجي درس علم النفس الرياضي وله إسهامات بحثية حول أهميته إلى جانب أهمية إدراك اللاعبين ورؤيتهم للملعب في تطوير الأداء ورفع الكفاءة. أحد هذه الأبحاث يحمل على غلافه صورة لزيدان، ويتناول في مضمونه كيف يتخذ اللاعبون قراراتهم. 

وكي يصل إلى نتيجة سليمة، كان جوردت يتجول بين الملاعب مصحطبًا الكاميرا، ثم يبدأ في تصوير لاعب معين خلال المباراة بالكامل. الهدف من ذلك معرفة ماذا سيفعل اللاعب سواء بالكرة أو بدونها. لذلك فإنه امتلك أرشيفًا عن مجمل تصرفات لاعب واحد خلال أكثر من مباراة، وبالتالي شرع في ملاحظة أنماط معينة يكررها اللاعبون أصحاب رؤية الملعب الأفضل.

من زيدان إلى إنيستا، ومن تشافي إلى بيرلو، وحتى لاعبي الدرجات الدنيا في إنجلترا وإسبانيا؛ انصب تركيز جوردت على لاعبي وسط الملعب، حتى وصل عددهم لنحو 250 لاعبًا، قضى ساعات طويلة يعمل بدأب لتتبع ماذا يفعل كل واحد منهم في مختلف المواقف على أرضية الملعب. 

لماذا لاعبو الوسط تحديدًا؟ ربما ﻷنهم أكثر من يتميزون برؤية الملعب، فكان أهم ما توصل إليه في بحثه هو تقسيم عملية اتخاذ القرار لثلاث مراحل؛ الأولى سماها الإدراك البصري، أما الثانية فتأتي تحت عنوان الاستكشاف البصري، وأخيرًا الثالثة وهي الترقب أو القدرة على توقع حركات الغير. 

إدراك-استكشاف-توقع

لنبدأ بشرح المرحلة الأولى، والمقصود بها هو إمكانية اللاعب تحليل المعلومات بواسطة ما يراه مباشرة، بحيث يعرف هل فريقه في موقف قوة أم ضعف؟ أي ثغرة في الخصم يمكنه التوغل من خلالها؟ وطبعًا أي زميل يحظى بأفضلية بسبب تمركزه؟ وهكذا تتكوّن عند اللاعب صورة عما يدور حوله.

المرحلة الثانية، أي الاستكشاف البصري، تقوم على بحث اللاعب عن المعلومات من حوله باستمرار، ببساطة ﻷن تمركزات زملائه وخصومه لا تبقى ثابتة، بل تتغير بسبب حركتهم، وهنا يجب عليه تحديث معلوماته، ليحظى بتحليل أدق قبل اتخاذ قراره، ولذلك تحديدًا كان لامبارد يلتفت من حوله يمينًا ويسارًا. 

أخيرًا يأتي التوقع، بمعنى إحساس اللاعب بردة فعل خصمه أو زميله، وبناء عليه يقرر شيئًا ما، كالتمرير في اتجاه معين، تحويل مجريات اللعب من جهة ﻷخرى، أو إعادة الكرة من حيث أتت دون القيام بشيء.   

عشر ثوانٍ مع إنيستا

المشكلة ليست في تعقيد تلك المراحل، بل في أن القيام بها وحده ليس كافيًا، إنما ينبغي أن يقوم بها اللاعب بكفاءة وسرعة، لتتحول بمرور الوقت واكتساب الخبرة لنشاط عفوي يكرره دون تفكير. ولذلك حدد جوردت إطارًا زمنيًا لقيام اللاعب بتلك المراحل، هذا الإطار هو عشر ثوانٍ فقط.

لحسن الحظ، يمتلك تسجيلًا لإنيستا وهو ينفذها بنجاح، في أهم لحظات مسيرته أثناء تسجيله هدف الفوز بمونديال 2010.

يبدأ المقطع بأندريس في وسط الملعب، ينظر بعيدًا عن الكرة لتحليل الموقف، ليشرع بالحركة وفقًا لهذا التحليل، ثم يستكشف ما يحدث من حوله بالنظر يمينًا ويسارًا مستعينًا بذاكرته، يتخذ القرار بالانطلاق نحو المساحة التي يتوقع عدم تمكن مدافعي هولندا من تغطيتها، يطلب الكرة من فابريجاس وأخيرًا هدف.

كل ذلك النشاط البصري والذهني والبدني في عشر ثوانٍ فقط؟ نعم هو كذلك، وهذا ما يجعل إنيستا عبقريًا.

ميسي على وحدة القياس

بالطبع هدف إنيستا لا يعد تأكيدًا لنظرية جوردت، وإن كان لا يستبعدها أيضًا، لذلك كان الرجل النرويجي بحاجة لدليل أكثر إقناعًا. هو باحث، وبالتالي يميل تلقائيًا لقياس الأمور وتحويلها لإحصائيات. وجد ضالته في وحدة قياس تدعى: Visual Exploratory Frequency، أو تردد الاستكشاف البصري. 

وخلال لقائه مع سكاي سبورت، قام بتعريفها كالتالي: مجموع حركات الرأس والجسم بعيدًا عن مكان الكرة خلال 10 ثوانِ، بهدف البحث عن معلومات وتحليل الموقف، وهو ما سيؤثر لاحقًا على تنفيذ فعل بالكرة. هل يحتاج التعريف إلى شرح؟ إن كان كذلك، فالمقصود باختصار هو ماذا يفعل تشافي قبل القيام بتمريرة لم تكن تتوقعها أبدًا، وأدت في النهاية لهدف؟ 

أسقط جوردت المثابر هذا التعريف على 64 لاعبًا، خلال 118 مباراة، وأكثر من 1270 موقفًا داخل الملعب، ليخرج بتقسيم اللاعبين لثلاث فئات؛ الذين يفحصون ما حولهم بدرجة كبيرة، ثم بدرجة متوسطة، وأخيرًا بدرجة قليلة. اللافت هنا أن أغلب اللاعبين المتميزين يقعون ضمن التصنيف الأول والثاني، محققين معدلات لا تقل عن 0.5، أي القيام بخمس حركات بالرأس بعيدًا عن الكرة بحثًا عن المعلومات. 

ستيفن جيرارد مثلًا يمتلك 0.61 على هذا المقياس، بينما لامبارد يسجل 0.62، تشافي لديه نسبة مرعبة تفوق 0.8، أما زيدان فهو يقوم بشيء أكثر رعبًا، وهو فحص محيطه ثلاث أو أربع مرات خلال ثانية واحدة فقط، ولذلك تشعر أنه يمتلك خيوطًا تربطه بكل أطراف الملعب. أين ميسي؟ لديه 0.51، وهذا رقم لا يستهان به أيضًا.

دقة وجودة

الآن بقى أمام جوردت إثبات علاقة بين امتلاك معدل استكشاف بصري مرتفع وبين دقة وجودة التمرير. لنبدأ بالدقة؛ قدم الباحث النرويجي لشبكة سكاي إحصائية مثيرة تفيد أن اللاعبين من التصنيف الثالث، حسب وحدة القياس المذكورة، يمتلكون تمريرات صحيحة بنسبة 64%، فيما أصحاب التصنيف الثاني يمتلكون 68%، ولدى التصنيف الأول نسبة 81%!

إحصائيات التمريرات الصحيحة. المصدر: skysport.

طبعًا 81% نسبة مرتفعة جدًا، لكنها قد تكون خادعة أيضًا، لماذا؟ ﻷن صاحبها ربما يكون اختار التمرير الآمن للخلف أو بعرض الملعب، وهنا يأتي الدور على قياس جودة تلك التمريرات. صديقنا جوردت لم يتركنا في حيرة، وقدم إحصائية أكثر إثارة تدعم وجهة نظره. 

تقيس هذه الإحصائية نسبة التمريرات الصحيحة للأمام، وداخل نصف ملعب الخصم، وفيها يسجل أصحاب التصنيف الأول نسبة 77% تمريرات ناجحة، فيما يتراوح التصنيف الثاني والثالث بين 50% و40%. وبذلك يتأكد أن اللاعب الذي يمتلك استكشافًا بصريًا قويًا، سيكون أكثر فاعلية لفريقه هجوميًا، سينتج تمريرات مفتاحية أكثر، ويصنع ويسجل أهدافًا أكثر، ويبهر المشاهدين والمعلقين بلمسات استثنائية أكثر.

فرصة طارق

دعنا نعود للعنوان، طارق حامد لاعب وسط ملعب شرس، لكن يعيبه التصرف بالكرة تحت الضغط ورؤية الملعب بشكل جيد. هل يمتلك حامد فرصة للاستفادة من خاصية الاستكشاف البصري؟ نظريًا، على الأقل، يبدو كذلك. 

والسبب هو أن الاستكشاف مهارة لا يولد اللاعب بها، إنما يكتسبها عبر التدريبات المتتالية. وهذا ما أكده تشافي في حواره مع جارديان، حين قال إن كل ما يفعله هو النظر وتوجيه عينيه يمينًا ويسارًا بحثًا عن المساحة، هكذا تعلم منذ كان ناشئًا في أكاديمية لامسيا. 

برشلونة ليس وحده في هذا الأمر، بل إن أياكس يولي اهتمامًا أكبر للاستكشاف البصري، يكفيك معرفة أن النادي الهولندي أبرم تعاقدًا مع جوردت لعرض تسجيلاته وشرحها للناشئين. أحد التسجيلات لأندريا بيرلو خلال فترته الأخيرة مع يوفنتوس، حيث يبدو المايسترو الإيطالي متراجعًا على صعيد اللياقة البدنية، لكنه تمكن من تعويض هذا التراجع بقدرته الرائعة على فحص الملعب، بدلًا من النظر للكرة.  

لم يكتفِ جوردت بتعاقده مع أياكس، وأطلق رفقة رائد أعمال نرويجي عام 2016 شركة تعمل على إنتاج تطبيق للواقع الافتراضي «Virtual reality application»، يمكن استخدامه في التدريبات. حيث يرتدي اللاعب النظارة، ويبدأ التطبيق في عرض عدة سيناريوهات في كل موقف، والمطلوب منه هو اختيار أفضل سيناريو يخدم فريقه في خلال 10 ثوانٍ فقط. 

اسم الشركة هو «Be your best»، وقد نجحت في تسويق منتجها لمنتخب النرويج تحت 19 عامًا، قبل أن يخرج المدرب «باكو جوهانسن» ويشيد بالتطبيق الذي ساعدهم في التغلب على منتخبات ألمانيا وهولندا، وربما يكون من المفيد لو حظي التطبيق بالتجربة في مصر، ولنبدأ بطارق حامد إذن.