في بعض الأحيان، تنجذب مسامعنا إلى مقطوعة موسيقية بالغة الجمال، تتسلل داخلنا، فتأخذنا إلى عالم آخر خارج الوسيط الأني، فضاء رحب نجهل عنه كل شيء لكننا وفي الوقت نفسه نعتقد أننا نعرفه جيدًا، ولكن سرعان ما تنجلي الحقيقة أمام أعيننا رويدًا رويدًا لنكتشف أن هذا العالم أبعد ما يكون عن تصورنا وخيالنا الجامح.

تلك هي السينما الفلسطينية التي قد يُخيَّل إلى قطاع عريض من محبيها أن موضوعاتها وإشكاليتها تتمحور فقط حول قضايا الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي والمعاناة الواقعة على شعب فلسطين. ولكن كما نعلم الحقيقة لها أوجه كثيرة وكلٌ منّا يراها حسب وجهة نظره وتجاربه في الحياة، وهذا بالتأكيد واحد من أوجهها المتعددة التي إذا أمعنا النظر خلالها بدقة، سنجد أن هذا البلد المُحاصَر حاضر الآن بسينما قوية قادرة على نقل نبض أناسها بصدق وشاعرية.

في السطور التالية، سنبحر معًا داخل عالم فلسطين الساحر، ونغوص في أرجاء «الضفة» حيث تكسيها أغصان الزيتون خضرة، و«قلقيلية» مصنع الشهداء وقاهرة الأعداء، و«الناصرة» حيث عاش المسيح، لنتعرف على قصص مليئة بالمغامرات وحكايات بسيطة مشوقة دون التطرق إلى العبارات الرنانة والشعارات الفجة الفارغة.

1. عيد ميلاد ليلى

لطالما انحسرت نظرتنا للسينما الفلسطينية داخل قالب المقاومة ضد المحتل والآمال المبتورة لتحرير الأقصى وغيرها من الشعارات الحماسية، التي باتت حجرًا ثقيلاً يحمله المواطن الفلسطيني -رغمًا عنه- فوق كتفيه. ولكن ماذا عن الإنسان ذاته؟ ألا يستدعي مقاومته للواقع وتحرير نفسه من قيود مجتمع لا عقلاني فرصة للحديث عنه وعن كفاحه ضد متلازمة عبثية الحياة، التي تأبى أن تمنحنا أجمل لحظاتها للاستمتاع بها؟

في فيلمه الروائي الطويل الخامس، يُدخلنا المخرج «رشيد مشهراوي» داخل عالم «أبو ليلى»، القاضي السابق والذي اضطرته ظروف الحرب للعمل كسائق تاكسي، يأخذنا في رحلة داخل سيارته الأجرة على مدار يوم واحد لنرى من منظوره كيف تدب الحياة داخل الضفة الغربية، نشاهد قاطنيها ونتعرف على آمالهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة.

بالرغم من بساطة الفيلم في تصويره ليوم عابر من حياة سائق تاكسي، إلا أنه رصد بعدسة شاعرية واقع المتجمع الفلسطيني دون فجاجة أو تذييل؛ فهذا البطل المهزوم يجاهد للوصول إلى منزله كي يحتفل بعيد ميلاد صغيرته، لكنه يتعرقل داخل دوائر البيروقراطية والإهمال والفوضى وغياب الذوق العام.

رصد مشهراوي الواقع دون تفلسف أو فوقية، ففاض الفيلم بمشاعر وأحاسيس غنية لشخص يحاول أن ينعم بالقليل من ملذات الحياة مقابل الكثير من الكفاح والصبر والخروج عن النص إذا تطلب الأمر. فلا عجب إن شاهدت الفيلم وتقبلت المصائب المتعاقبة على رأس بطلنا على أنها استثناء؛ لكننا مخطئون، هذا هو العادي في بلد صار فيه الاستثنائي مألوفًا، وهو ما تجلى في الخاتمة السلسة للفيلم حين أخبرت الزوجة زوجها: كيف كان يومك؟… ليرد: يوم عادي.

2. رجل يغرق

الحياة ليست وردية في الوطن العربي بطبيعة الحال، فما بالك عندما تكون في دولة تعيش تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود طويلة؟

فاتح، شاب في أواخر العشرينيات من عمره. فتح عينيه على واقع مرير، فهو وُلد في فلسطين المحتلة بلا أمان أو مستقبل، والخوف هو شريكه لأكثرية الوقت، ليُغمض عينيه مرة أخرى ويفتحها في أثينا باليونان أملاً منه بنهاية المعاناة في حياته للأبد، ولكن هل حقًا ستنتهي؟

يأخذنا المخرج الفلسطيني «مهدي فليفل»، في رحلة خارج أسوار فلسطين السجينة لينقلنا إلى سجن آخر وهو أثينا، حيث يعيش فاتح حياة قاسية بلا فرصة عمل، مُحاط أغلب الوقت بالمجرمين الذين يأبون حتى تقديم سيجارة واحدة له تغنيه عن الطعام الذي لا يستطيع تأمينه.

أطلق فليفل على الفيلم اسم «رجل يغرق»، مع أنه كان قد غرق بالفعل، فمنذ مجيئه إلى هذه الدنيا وهو يسعى بشتى الطرق أن يتشبث بأي يد تمتد له، حتى عندما حاول أحد اليونانيين تقديم يد العون له يضطر بطلنا لمواجهة سلسلة من الخسائر والتنازلات لم يكن يدرك أنه سيُستدرج إلى فخاخها في يوم من الأيام.

ثلاث عشرة دقيقة فقط كانت كافية لفليفل كي ينقل معاناة فاتح التي لا تنتهي، فاستحق شريطه بجدارة الترشح لجائزة أفضل فيلم بريطاني قصير ضمن جوائز «بافتا»، كما شارك ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان تورنتو السينمائي لعام 2017، وأيضًا بمهرجان كان السينمائي من العام نفسه.

3. تل أبيب على نار

من الجلي للمتابعين أن السينما الفلسطينية نضجت بشكل مثير للاهتمام في السنوات الماضية وذلك فيما يتعلق بالأسلوب المُستخدم لمعالجة قضية الهوية والصراع مع المحتل، فبالنظر إلى شريط المخرج «هاني أبو أسعد» «الجنة الآن» إنتاج 2005، وما تقدمه مؤخرًا من أعمال كان آخرها الفيلم الساخر «إن شئت كما في السماء» لـ «إيليا سليمان»، نرى أن صُنّاع الأفلام قد نجحوا في الخروج من نمط المعالجة السياسية لموضوعاتهم واستبداله بقالب كوميدي ساخر، مُحمَّلاً بالقضية ذاتها، ما حوّلها لمتعة بصرية وسردية خالصة، نادرًا ما نراها في فيلم عربي.

هذا ما نجح المخرج الفلسطيني «سامح زعبي»، في توليفه بشريطه الأخير «تل أبيب على نار» لبطليه «قيس ناشف» و«ميساء عبد الهادي»، والفائز بجائزة أفضل ممثل بمسابقة آفاق ضمن فعاليات مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي. وتدور أحداثه حول كواليس صناعة مسلسل جاسوسية على طريقة «رأفت الهجان»، تتفجر خلاله مواقف هزلية تسمح بالسخرية اللاذعة من مخزون الشعارات القومية المتكدسة بقوالب الدراما العربية، واستخلاص الكوميديا من نمط الحياة الآلي في التعامل اليومي مع جنود الاحتلال.

4. جيرافادا

لا شك أن الذهاب إلى حديقة الحيوان يعد واحدًا من الأمور الرائعة، حيث تشاهد الزراف وهم يتناولون الأعشاب سويًا ويحكون أنوفهم ببعضهم البعض برقة، إلى جانب مشيتهم الهادئة الواثقة التي تبعث على الراحة والاسترخاء.

يأخذنا المخرج «راني مصالحة» في فيلمه الروائي الطويل الأول «جيرافادا» إلى مغامرة جديدة داخل إحدى حدائق الحيوان بمدينة قلقيلية بالضفة الغربية وقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث تسير الحياة كما هي برتابتها وضجرها المعتاد بالنسبة للطبيب البيطري ياسين (صالح بكري) وابنه الوحيد زياد من زوجته الراحلة، والذي بدوره يعشق الزرافتين والمسئول والداه عن رعايتهما، إلى أن يتحول ذلك النعيم الهادئ إلى ضجة صاخبة عقب قصف طائرات الاحتلال الحديقة ويقتل ذكر الزرافة.

تتعقد الأوضاع لاحقًا بعد أن أضربت أنثى الزرافة عن الطعام حزنًا على رحيل شريكها ليبدو جسدها بحالة هزيلة، ومعها يُضرِب زياد أيضًا عن الطعام ويبدأ في تمرده الخاص، ليضعوا ياسين أمام مأزق حقيقي، يجب عليه حلّه، خاصة بعد علمه بنبأ حمل الزرافة.

فيلم جيرافادا أو الزرافة سيضعك في النهاية أمام حالة نفسية متشابكة، لا هي بالراحة المتكاملة أو الحزن الشديد، فأنت تشاهد عملاً بسيطًا قائمًا على قصة حقيقية جرت في العام 2002، وتم تقديمها بلغة سينمائية شاعرية بعيدة عن الشعارات أو قسوة المحتل.

5. واجب

عندما جئنا إلى هذا العالم زارنا الكثير والكثير من الأشخاص، لا لشيء سوى لأداء الواجب مع أسرنا، لنكبر بعد ذلك ونحمل تلك الراية من بعدهم، حتى لو هاجرنا إلى بقاع بعيدة عن بلاد العرب، سنظل دومًا أسرى للعادة والتقليد لا نفارقها ولا تفارقنا حتى إن أثقلت كاهلنا.

من هنا بدأت المخرجة «آن ماري جاسر» فليمها الروائي الطويل الرابع «واجب»، الذي ينطلق خلاله محمد بكري بدور الأب برفقة نجله صالح بكري بدور الابن، في رحلة لتوزيع دعوات حفل زفاف ابنته الصغرى، والتي يتم توزيعها يدويًا في خلال خمسة أيام كما جرى العرف، ولكن الابن الساخط على العادات والتقاليد القديمة يقرر توزيعها في يوم واحد فقط من الصباح للمساء.

تبدأ رحلة الأب وابنه من داخل سيارة صغيرة، حيث تجمع بين أفكار جيلين مختلفين تمامًا، ومن هنا يبدأ صراع من نوع مختلف بعيدًا عن التيمات المعتادة للأفلام الفلسطينية. فالصراع هنا ينحصر بين أفكار جيلين مختلفين يرى كل منهما الحياة بمنظور آخر، ولكنها بالرغم من ذلك تظل مُغلَّفة بما فعله الاحتلال في حياة هذه الأجيال دون ذكره أو الإشارة إليه بصورة مباشرة.

وهذا يجعلنا نصل لفكرة أن الفيلم يسعى إلى إبراز مدى هشاشة وتعقيدات العلاقة بين أبناء الوطن الواحد، فمنهم الذي لم يسعَ يومًا ليكون بطلاً خارقًا مثل الأب، فهو يعلم جيدًا الواقع الذي فُرض عليه ويتعايش معه كما هو ولا يحاول تغييره مطلقًا، بل على العكس هو تقبله وتأقلم معه هكذا. أمّا الابن –العائد من الخارج– فهو دائم السخط والنقم على الأوضاع المعيشية، التي صار معزولاً عنها منذ سفره. فنحن في نهاية المطاف بشر نخطئ ونصيب، وهذه هي سنّة الحياة.

نال الفيلم الذي تصل مدته إلى سبع وتسعين دقيقة، جائزة أفضل فيلم روائي في مهرجان دبي السينمائي، كما حاز بطله، محمد بكري، جائزة أفضل ممثل مناصفة مع نجله صالح بكري، وتم ترشيح الفيلم لتمثيل فلسطين في جوائز الأوسكار لعام 2018، كما عرض في قسم السينما العالمية المعاصرة بمهرجان تورنتو السينمائي.

6. أمبيانس

بعض الأفكار قد تكون عصية على التنفيذ خاصة في ظل محدودية الموارد التي يمتلكها الإنسان نحو الوصول لهدفه، ولكن الإبداع لا سقف له ولا حدود لعالمه، خاصةً إذا اقترن بالإلهام الذي عادةً ما يملأ عقولنا بآفاق أرحب وجديدة. فالأفكار الرائعة يمكن أن تأتي من أي مكان وفي أي وقت، وكذلك الإلهام يمكننا العثور عليه داخل عوالم شتى، يمكننا أن نجده حتى في قلب الفوضى، في قلب «أمبيانس».

يتناول الفيلم القصير «أمبيانس» لمخرجه «وسام الجعفري»، الفائز بالمركز الثالث من «سيني فنديسيون» على هامش مهرجان كان السينمائي في نسخته الـ 72، وأفضل فيلم قصير بمهرجان القاهرة السينمائي العام الماضي (2019). قصة شابين يحاولان تسجيل مقطع موسيقي للاشتراك بإحدى المسابقات لنيل فرصة إنتاج ألبومهم الأول، إلا أن الضوضاء داخل مخيم الدهيشة بمدينة بيت لحم، حيث يقطنون، تقف حائلاً بين الحلم وإنجازه، فينتهي الأمر بإيجاد طريقة مبتكرة بتحويل أصوات المخيم إلى موسيقى.

فعلى الرغم من بساطة ذلك الشريط القصير الذي تم التقاطه بالأبيض والأسود في إطار زمني لا يتعدى اليوم الواحد، إلا أنه يعتبر إنجازًا فريدًا استطاع نقل أصوات الحياة اليومية لسكان المخيم، حيث تسوده طلقات المحتلين وهتافات الثوار، لعب الأطفال في الأزقة الضيقة وأحاديث الجيران المضحكة، أفراح وصخب قد يصل إلى حد الفوضى السمعية، لكنها لم تعد كذلك بعد أن تم تحويلها لمقطوعة موسيقية أصيلة ومبتكرة، أعادت إلى مسامعنا وأذهاننا تاريخًا طويلاً من العزلة القهرية، حيث الحياة فقدت ألوانها والأصوات باتت مطموسة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.