في مدينة الألف مئذنة، وفي حي السيدة زينب، تطل علينا تحفة القطائع الباقية من إرث ابن طولون، شاهدة بمنارتها الفريدة على أولى الحركات التي أشعلت قنديل المحروسة وأعلنت عنها كمنارة مهمة في تاريخ الحضارة الإسلامية، ومركز ثقل استراتيجي ثالث بدخول موقعها في رحى الصراع على سلطان الأمة، الذي ظل محصوراً بين العراق والشام قرابة القرنين من الزمان.

إن حركة ابن طولون كانت أول تطبيق فعلي لمقولة عمرو بن العاص (فاتح مصر وواليها):

ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة.

وهو ما تجلى في نفوذ ابن طولون، الذي سرعان ما تمدد من مصر ليطول إلى الديار الشامية، ففاق ملكه مُلك الخليفة العباسي في بغداد. [1]

جامع أحمد ابن طولون

المسجد الجامع من الوظيفة إلى الفن

كانت السمة المعمارية الغالبة للعواصم والمدن الكبيرة ذات السلطان وجود أحد المساجد الجامعة في أرضها بالقرب من مقر الحكم، وتنظيم هذا النوع من المساجد كان مأخوذاً من تنظيم مسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينة لأغراض وظيفية محددة، كالتي أنشأ لأجلها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مسجده، مثل جمع الناس من المدينة الكبيرة والقرى المحيطة لصلاة الجمعة، ولتلقي علوم الدين، ومناقشة قضايا الرعية، وغيرها من المناسبات.

وقد تميَّز المسجد الجامع بوجود الصحن المهيمن على تكوينه المعماري، حيث يجتمع فيه الناس إن ضاق عنهم إيوان الصلاة. وقد شرع الولاة في هذا الشأن بأمر من أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» [2]، وظل الأمر هكذا بأغراضه الوظيفية حتى زاد الاهتمام بالجوامع وأُضيف إليها عناصر الإبداع واللمسات الفنية والتطلع للمفاخرة المعمارية في عهد خلفاء بني أمية، ثم نال هذا الفن اهتمام الخلفاء والولاة والسلاطين على مر العصور، تعبيراً عن قوة الحاكم وسخائه، ليستمد منهما شرعيته وهيبته أمام الرعية.

أيادٍ قبطية ونسق عراقي

أريد أن أبنى جامعاً من مال حلال… إذا غرقت مصر نجا، أو احترقت بقي.
أحمد بن طولون – أمير مصر (868م – 884م).

بعدما استقر الأمر لابن طولون في الديار المصرية، وأصبح المتصرف فيها دون الخليفة، إذ لم يبقَ للخليفة في مصر إلا دعاء المنبر، وقد كثر مرافقو ابن طولون من جند وعبيد وموالٍ وآلات، شرع حينئذٍ في إنشاء عاصمته «القطائع» شمال الفسطاط، فبنى القصر والميدان، ثم أمر مرافقيه أن يخطُّوا لهم الدور حتى اتصلت بالفسطاط. [3]

ثم أراد أن يبني مسجداً جامعاً بالقرب من قصره على طراز عمائر العراق التي نشأ فيها وتأثر بفنونها، ويكون على نسق ملوية سامراء التي أنشأها الخليفة المتوكل، فخطط للمئذنة الملوية ولسور الزيادة اللذين اشتهرت بهما مساجد العباسيين، ولا سيما جامع سامراء، وبنى سور الزيادة من الآجر لحماية الجامع من الحريق ومن الضوضاء الخارجية، فكأنما أراده رمزاً دينياً لاستقلاله عن الخليفة في بغداد.

قُدِّر للمسجد 300 عمود، وكانت إشكالية صناعة الأعمدة الرخامية -التي كثيراً ما لازمت البناء المسلم- تمثل عائقاً أمامه، حيث إن المسلمين كانوا يلجؤون إلى إعادة استخدام الأعمدة الرخامية من الكنائس الخَرِبة والديار المُتهدمة، وكان الحل المعروض على ابن طولون أن يأتي بها من كنائس الأرياف أو الضياع الخراب، إلا أنه تورع عن ذلك، وظل الأمر يؤرقه حتى علم بالأمر أحد مهندسي القبط النصارى في محبسه، وكان ابن طولون قد حبسه لظن سوء سابق به، فكتب إليه القبطي يعرض له أن يبني الجامع بلا أعمدة إلا عمودي القبلة، وكما يريده ابن طولون أن يكون.

أمر ابن طولون أن تُحضَر له الجلود فأُحضرت، وصوَّره له فأُعجب به واستحسنه، فأطلقه وخلع عليه، وأطلق له النفقة على البناء مائة ألف دينار، فقاله له: أنفق وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك، فوضع النصراني يده في البناء في الموضع الذي هو فيه، وهو «جبل يشكر»، فكان ينشر منه ويسطح ويعمله جيراً ويبني، إلى أن فرغ من جميعه وبيضه وخلَّقه وفرش فيه الحصر، وعلَّق القناديل والسلاسل الطوال الغلاظ الحسان، وحمل إليه صناديق الصحاف، ونقل إليه الفقراء والقُرَّاء، وتصدَّق في ذلك اليوم صدقات عظيمة فيه، وعمل طعاماً واسعاً كبيراً وحُمِل إليه، فأطعم سائر من حضر.

وعند افتتاح المسجد صعد النصراني المنارة، ووقف إلى جانب الركن النحاسي، وصاح بأحمد بن طولون: «أيها الأمير عبدك يريد الجائزة، ويسأل الأمان وألَّا يجري عليه مثل ما جرى في المرة الأولى»، فقال له أحمد بن طولون: «انزل»، فقال: «وحق رأس الأمير لا نزلت أو تؤمِّنني»، فقال له: «انزل فقد أمَّنك الله ولك الجائزة»، فنزل وأمر له بعشرة آلاف دينار، وخلع عليه وأجرى عليه رزقاً واسعاً. [4]

بسم الله الرحمن الرحيم
أمر الأمير أبو العباس أحمد بن طولون مولی أمير المؤمنين، أدام الله له العز والكرامة والنعمة التامة في الآخرة والأولى، ببناء هذا المسجد المبارك الميمون، من خالص ما أفاء الله عليه وطيَّبه لجماعة المسلمين، ابتغاء رضوان الله والدار الآخرة، وإيثاراً لما فيه تسنية الدين وأُلفة المؤمنين، ورغبةً في عمارة بيوت الله وأداء فرضه وتلاوة كتابه ومداومة ذكره. إذ يقول الله تقدس وتعالى: «في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأبصار* لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يشاء بِغَيْرِ حِسَابٍ».
في شهر رمضان من سنة خمس وستين ومائتين.
نص منقوش على لوح من الرخام بالخط الكوفي البسيط.

مجرى الزمان ومآله

تعرَّض جامع «سامراء» صنيعة الخليفة المتوكل للتخريب والدمار على أيدي المغول، ثم توالت عليه آثار البيئة من أمطار ورياح وما صاحبها من إهمال جسيم في حقه، وزاد الأمر سوءًا نتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 وما تبعه من حرب أهلية طالت إلى مدينة سامراء وأثرت سلباً على الجامع، الذي لم يبقَ منه إلا سوره ومنارته الملوية المُهددة بالانهيار وآثار لقواعد أعمدة ودعامات الجامع، فلم يبقَ من الجامع ما يُقيمه بوظيفته كأي مسجد، أي الصلاة والتدارس فيه، وإنما بقيت ملويته الفريدة الشهيرة كرمز تاريخي لعمارة العباسيين المتفردين بهذا النوع من المآذن، وشاهد عيان لجامع كان الأكبر والأجمل في زمنه.

أمر بتجديد هذا الجامع مولانا السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين لاجين.
قطعة نحاسية مُخلَّفة من عمارة الجامع مكتوبة بخط النسخ، ومحفوظة في دار الآثار العربية.

أما جامع ابن طولون فكان له حظ أوفر من الحفظ والصيانة، فلم تنله أيدي المغول كنظيره في سامراء، وقد توالت أعمال الصيانة فيه في عهد خلفاء الفاطميين كالعزيز بالله والمستنصر ووزيره بدر الدين الجمالي، ثم كانت أعمال التجديد الكبرى في تاريخه في عهد السلطان المملوكي حسام الدين لاجين، فعندما هرب في فتنة قتل السلطان الأشرف ولجأ إلى جامع أحمد بن طولون، وكان الجامع قد جرى فيه ما جرى من خراب وتهدم، حيث تهدم النصف العلوي من منارته وتخرَّب سقفه، فكان حينئذٍ خراباً لا ساكن فيه، وكاد أن يؤول أمره إلى أسوأ مما آل إليه أمر  جامع سامراء، فنذر لله أنه إن نجا من محنته هذه ومُكِّن له في الأرض أن يُجدِّد عمارة الجامع.

مئذنة مسجد أحمد بن طولون بالقاهرة، وهي إحدى أكثر مآذن القاهرة تميُّزًا إذ أنَّ سُلَّمها الخارجيّ حلزونيّ شديد الشبه بمئذنة سامرَّاء الشهيرة.
Berthold Werner / wikimedia

فتم له ذلك وصار له السلطان، فجدد المئذنة بأن أضاف الجزء المثمن إلى الجزء القديم، والمرجح أنه هدم الجزء المتبقي من مئذنة ابن طولون، ثم أنشأه كما كان مرة أخرى، ثم زاد النصف العلوي بمئذنته المثمنة، فأصبحت المئذنة التي نراها الآن بالقاعدة المربعة ثم الدائرية ثم المثمنة، لتجمع في تشكيلها الفريد نسقين لعصرين مختلفين، ثم أزال كل ما كان فيه من تخريب، وبلَّطه، وحسَّن المحراب، وجدَّد السقف، وبيَّضه.

ثم رتَّب فيه دروساً لإلقاء الفقه على المذاهب الأربعة، ودروساً لتفسير القرآن، ودروساً للحديث الشريف، ودرساً للطب، وجعل له إماماً راتباً ومؤذنين وفرَّاشين وخدمة، وعمل بجواره مكتباً لإقراء أيتام المسلمين كتاب الله عز وجل، وغير ذلك من أنواع القربات ووجوه البر، حتى مما ذكر أنه بُولغ في ذلك وجُعل من جملة ذلك وقف للديكة على سطح الجامع في مكان مخصوص لإعانة الموقتين وإيقاظهم في السحر، إلا أن السلطان عندما علم بأمر الديكة أمر عُمَّاله أن يبطلوه كي لا يُضحِكوا الناس عليهم فأبطلوه، حتى بلغت النفقة على تجديد عمارة المسجد ومشتملاته عشرين ألف دينار. [5]

ثم نال الجامع العديد من الإصلاحات المستمرة في العصر الحديث، واستمرت الصلاة فيه إلى يومنا هذا.

هل تقص لنا العمارة نبأ بانيها؟

إن المتأمل في أمر خلفاء العباسيين وما آل إليه أمر الخلافة بعد وفاة الخليفة المتوكل مؤسس جامع سامراء، من فقد السيطرة الفعلية على الولايات المختلفة حتى لم يبقَ للخليفة إلا لقب الخليفة والدعاء باسمه على المنابر وبعض السلطان على العراق، وتجرد لقب الخليفة من المضمون والوظيفة، وأُبقي على الاسم والشكل، يُرى انعكاس ذلك جلياً على موروثهم جامع سامراء، في تجريد الزمن له من الوظيفة والمضمون، وإبقائه على السور والملوية الرمز والشكل.

ملوية سامراء

كما أن الناظر إلى جامع ابن طولون الذي نال التغيير الأكبر -في مظهره منذ أُنشئ- شكل وتكوين مئذنته، لكنه يقوم بوظيفته ومضمونه إلى اليوم، سيجد أن لابن طولون – وإن لم يكن الخليفة وإن ظل اسمه تابعاً للخليفة وواليًا له – السلطان والكلمة الأولى والأخيرة دون الخليفة في مصر والشام.

وبالتأمل في مئذنته، ينتقل بصرك من الأسفل، من بقايا ملوية ابن طولون أو هيئة بقاياها، التي صوَّرها «لاجين»، والتي هي على النسق العباسي، ثم آثار انهيارها وتهدمها وعدم وصولها للقمة، ثم بروز تكملة السلطان المملوكي المثمنة التي أحيت المنارة وأقامتها في صورة بديعة، وكأنها تروي لنا إحياء المماليك للخلافة العباسية في القاهرة بعد انهيارها على أيدي المغول في العراق، فكأننا والحجارة تقص خبر بانيها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. حسن عبد الوهاب، “تاريخ المساجد الأثرية في القاهرة: الجزء الأول”، القاهرة، الدار العربية للكتاب، 1993، ص33.
  2. المرجع السابق، ص11-12.
  3. المقريزي، “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، ج1، ص869.
  4. عبدالله بن محمد البلوي، “سيرة أحمد بن طولون”، ص181.
  5. محمود عكوش، “تاريخ ووصف الجامع الطولوني”، ص92-95.