منذ منتصف الليل، وقبل أن تبزغ بشائر الصباح المبكرة، كانت صفوف الكينيين تنتظم أمام لجان الانتخابات، منتظرين لحظة فتح الصناديق للإدلاء بأصواتهم. هذا الحماس ليس غريبًا على الكينيين الذين اعتادوا المشاركة بنسب عالية في الانتخابات، تتجاوز الثمانين بالمائة. لكن كل هذا الحماس والمشاركة الواسعة لا يعكسان بالضرورة (عُرسًا انتخابيا).


جمهورية القبيلة

قبل يوم الانتخابات الموعودة، بعدة أسابيع، أخذ الكينيون في التجمع في ساحات العاصمة نيروبي وبقية المدن والقرى الكينية، لعقد صلوات جماعية مبتهلين إلى الله أن تمر هذه الانتخابات بسلام؛ فلا تزال ذكرى أحداث العنف والخطف والقتل التي استمرت شهورًا عقب انتخابات 2007 محفورة بأذهان الكينيين.

وعلى الرغم من أن انتخابات 2013 قد مرت بهدوء نسبي، إلا أن مخاوف المواطنين، الذين شرع الكثير منهم في مغادرة المدن الكبرى خشية من أعمال عنف قد تشتعل إثر إعلان نتائج الانتخابات، ليست غير مبررة تمامًا.

فقبل موعد الانتخابات ببضعة أيام اختفى مدير المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا بلجنة الانتخابات، وهو منصب شديد الحيوية في عملية التصويت الإلكترونية، قبل يومين من العثور على جثته ملقاة في إحدى الغابات، على أطراف العاصمة نيروبي، وعليها علامات التعذيب.

لاحقًا، وعند الإعلان عن مؤشرات الفرز الأولية التي أظهرت تقدم الرئيس «أوهورو كينياتا» على منافسه «رايلا أودينجا»، أعاد الأخير اتهام الحكومة بتزوير الانتخابات مرة أخرى كما فعلت من قبل في 2007 و2013.

في كينيا تجرى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكل من مجلسي النواب والشيوخ، في نفس اليوم، الأمر الذي يجعل من اليوم الثامن من أغسطس/آب يومًا مهمًا ومفصليًا في مستقبل البلاد السياسي وحياة الكينيين اليومية، التي لا تبدو يسيرة بحال.

فالملايين من الشباب يعانون من معدلات بطالة تناهز الـ 25%، بينما تشتكي العائلات من عدم قدرتها على سداد تكاليف تعليم أبنائها، ورداءة الخدمات الصحية، التي تنعكس في أرقام معدلات وفيات المواليد المرتفعة والتراجع الدؤوب في متوسط العمر المتوقع للشخص، ناهيك عن نقص الماء وانقطاع الكهرباء.

تحقق كينيا، وهي كبرى دول شرق أفريقيا اقتصاديًا، معدل نمو يدور حول 5% إلا أن معظم هذا النمو يأكله التضخم المتوحش، والفساد السياسي الذي تغرق فيه البلاد إلى أذنيها. ووفقًا للمراقبين فقد تجاوز إجمالي الإنفاق على الحملات الانتخابية – الرئاسية والبرلمانية – هذا العام، والتي بلغت حد تأجير طائرات الهليكوبتر من قبل المرشحين، حاجز المليار دولار، وهو مبلغ باهظ اعتاد المرشحون على تعويضه أضعافًا مضاعفة في حال فوزهم.

عادة ما تكون الانتخابات الكينية مصاحبة بمظاهر أعمال ترهيب وعنف، محدودة أو واسعة، إلى جانب أوسع استخدام للرشاوى الانتخابية وشراء الأصوات، إلا أن التحزب القبلي الحاد يظل هو السمة الأبرز والأهم للانتخابات الكينية.

تبدو الانتخابات الكينية وكأنما هي منافسة بين زعماء القبائل أكثر منها منافسة بين أحزاب سياسية. وبشكل عام، يميل الكينيون للتصويت بحسب انتمائهم القبلي، رائين في ذلك أداة لتعزيز فرصهم السياسية والاقتصادية عندما يكون (أحد الأقارب) في منصب مهم قادر على جلب النفع ودفع الضر.

الجدير بالذكر هنا أن الشعب الكيني يتكون من عدد كبير من القبائل أهمها الكيكويو واللو. يسكن الكيكويو في المنطقة الوسطى في حين يتركز اللو في المناطق الغربية من البلاد؛ ومنذ الاستقلال الكيني في 1963 انتمى كل الرؤساء الكينيين إلى قبيلة الكيكويو.


نزاع الآباء يرثه الأبناء

تحقق كينيا، وهي كبرى دول شرق أفريقيا اقتصاديًا، معدل نمو يدور حول 5% إلا أن معظم هذا النمو يأكله التضخم المتوحش، والفساد السياسي
جانب من تصديات الشرطة لاحتجاجات 2007، التي أعقبت الانتخابات الرئاسية

جومو كينياتا، الملقب بأب الاستقلال الكيني والرئيس الأول للبلاد، من 1964 إلى وفاته عام 1978، بدأ حياته السياسية كمناضل ضد الاحتلال البريطاني، وممثلا لمصالح ومطالب قبيلته من الكيكويو. تعرض كينياتا الأب للسجن والنفي قبل أن يعود بطلا إلى كينيا ويصعد إلى قمة السلطة في الجمهورية الناشئة. لكن سرعان ما تحول المناضل إلى ديكتاتور!

عقب وفاة كينياتا الأب تولى نائبه دانييل موي حكم كينيا لربع قرن وحتي عام 2002 شهد خلالها محاولات انقلاب وأحداث عنف ومجازر عرقية

عاقب كينياتا الأب بالنفي كل من لا يبدي الاحترام الكافي لمقامه، وسمى أهم الشوارع والمعالم في البلاد باسمه، ونصب تمثالًا برونزيًا له أمام البرلمان، كل هذا في عام رئاسته الأول فقط. لاحقا أضاف كينياتا الأب لنفسه، عبر عدة تعديلات دستورية، المزيد من الصلاحيات التي سمحت له بتركيز السلطة في يده ويد رجاله من قبيلة كيكويو على حساب بقية قبائل البلاد.

أعطى الدستور للرئيس حق سجن أي مواطن دون محاكمة، بتهمة تهديد أمن الوطن، وانتشرت ظاهرة اغتيال المعارضين السياسيين، ومنع تأسيس أي حزب معارض لحزب (الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني) الحاكم.

الأنكى كان ما أقدم عليه كينياتا الأب من بيع الأراضي الخصبة الشاسعة، التي كانت مملوكة للمحتلين البيض، بأسعار بخسة، لشركات خاصة يرأسها سياسيون ينتمون إلى حزبه وقبيلته، الذين بدورهم قاموا بتوزيعها على أتباعهم، مما أسهم في تغذية النزاع العرقي القبائلي. كل هذا في الوقت الذي تمتع فيه بالحماية والدعم البريطانيين وبعلاقة ممتازة مع الغرب عمومًا، الأمر الذي أزعج جاراموجي أوجينجا أودينجا.

أوجينجا أودينجا كان زعيم القبيلة (لو) بجانب كونه أحد المناضلين لاستقلال كينيا. عقب الاستقلال أصبح نائبًا للرئيس كينياتا لكنه اختلف مع الأخير الذي كان ميالا للغرب في حين رغب أودينجا في أن تلتحق كينيا بالركب الاشتراكي.

تفاقم الخلاف مع تركيز كينياتا للمناصب الأمنية والقيادية في يد قبيلته من الكيكويو، الأمر الذي أدى لانشقاق أودينجا الأب عن الحزب الوطني الأفريقي وتأسيسه لحزب اتحاد الشعب الكيني. لاحقًا أُغلق الحزب ووضع أودينجا تحت الإقامة الجبرية.

عقب وفاة كينياتا الأب تولى نائبه دانييل موي حكم كينيا لربع قرن شهد محاولات انقلاب وأحداث عنف ومجازر عرقية. عادت التعددية الحزبية إلى البلاد في التسعينات إلا أن موي استمر رئيسًا حتى 2002.

في هذه الأثناء كان أودينجا الابن قد أنهى رحلة تعليمه في ألمانيا الشرقية وحصل منها على ماجستير في الهندسة الميكانيكية. عاد رايلا أودينجا إلى كينيا، وأسس مصنعًا لأسطوانات الغاز، قبل أن يقرر مواصلة مسيرة والده السياسية معارضًا لنظام الرئيس موي الديكتاتوري، مما انتهى به سجينًا سياسيًا لقرابة الـ 9 أعوام دون محاكمة.

في انتخابات عام 2002 توحدت المعارضة ،بما فيها أودينجا الابن وحزبه، خلف مواي كيباكي، الذي ينتمي هو الآخر إلى قبيلة كيكويو وعمل وزيرًا ثم نائبًا للرئيس موي، في (تحالف ألوان الطيف الوطني)، مما مكن كيباكي من تحقيق انتصار كاسح على مرشح موي المفضل الذي لم يكن إلا (أوهورو كينياتا)، ابن جومو كينياتا الذي اختاره موي خليفة له.

لاحقا نقض كيباكي اتفاقه مع بقية أحزاب المعارضة، فبدلا من إعداد دستور يقلل من سلطات الرئيس لصالح منصب رئيس الوزراء، ويزيد من صلاحيات الحكم المحلي، بعيدًا عن تحكم الكيكويو المركزي، قام كيباكي بتركيز السلطة في يده، الأمر الذي أدى إلى تصدع تحالف ألوان الطيف.

خاض أودينجا الانتخابات الرئاسية في 2007 ضد كيباكي؛ وعلى إثر إعلان نتيجة الانتخابات في 2007، بفوز كيباكي على أودينجا بفارق 200 ألف صوت لصالح الأول، اندلعت أعمال عنف في البلاد راح ضحيتها 1500 كيني، منهم خمسون شخصًا أُحرقوا أحياء بينما كانوا يحاولون اللجوء إلى إحدى الكنائس، وأجبر أكثر من نصف مليون كيني على النزوح.

اتهم أودينجا الحكومة بتزوير الانتخابات مستدلا بتضارب أرقام الناخبين، وببراهين علي أعطال أصابت أجهزة وأنظمة التصويت الإلكتروني

انتهت الاضطرابات باتفاق لتقاسم السلطة في مطلع 2008 يتولى أودينجا من خلاله رئاسة الوزراء، بعد توسيع صلاحيات المنصب، بينما يبقى كيباكي رئيسًا. إلا أن هذا لم يضع حدا لتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية، التي وجهت اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية لعدد من المسؤولين الكينيين، وعلى رأسهم أوهورو كينياتا، الذي سيغدو منافس أودينجا الابن في انتخابات عام 2013.

في 2013 شن كل من كينياتا الابن وأودينجا الابن هجومًا حادًا على غريمه. اتهم كلا المرشحين منافسه بتضخم الثروة وتملك مساحات واسعة من الأراضي الخصبة، عن طريق الفساد واستغلال المناصب.

وبخلاف معظم استطلاعات الرأي التي صبت في صالح أودينجا أتت النتيجة بفوز كينياتا 50.5% مقابل 43.7%لأودينجا. اتهم أودينجا الحكومة بتزوير الانتخابات مرة أخرى كما حدث في 2007 مستدلًا بتضاربات في أرقام الناخبين، وببراهين على أعطال أصابت أجهزة وأنظمة التصويت الإلكتروني بشكل وصفه أودينجا بأنه ممنهج ومتعمد. لكن الأخير تجنب هذه المرة دعوة الجماهير للاحتجاج خشية تكرار أحداث عام 2007.

ردت لجنة الانتخابات بالتصديق على صحة هذه الأدلة والإقرار بوقوع هكذا أخطاء بالفعل لكنها أصرت على صحة العملية الانتخابية ككل الأمر الذي أيده حكم المحكمة العليا في البلاد.

اليوم، وعقب ظهور النتائج التي أشارت لتقدم كينياتا وحصوله على قرابة الـ 55% من أصوات إجمالي الناخبين، وبينما بادر أودينجا إلى تكرار اتهام الحكومة بالتزوير والتلاعب بالأصوات، يحبس الكينيون أنفاسهم داعين الله أن تجلب الانتخابات لكينيا التنمية والحرية والحياة الكريمة، لا مزيدًا من الذعر والقتل والفقر.