في أحد أصعب المواسم التي عاشها فريق عظيم كمانشستر يونايتد، موسم 2018 / 19، وتحت ولاية واحد من أكبر الأسماء في تاريخ التدريب صيتًا وشهرة، «جوزيه مورينيو»،أجاب الأخير على تساؤل أحد الصحفيين الذي كان غرضه ضغطه وفريقه نفسيًّا، بأنه يملك 3 ألقاب للدوري المحلي، فكيف لأحد أن يقلل من قيمة شخص مثله يملك أكثر من الـ 19 مدربًا الآخرين في الدوري، مما يعني – من وجهة نظر البرتغالي- ضرورة احترامه بشكل أكبر من ذلك.

تلك القصة الغرض منها طرح تساؤل واحد، إن كان ذلك ما أفرده جوزيه ليثبت استحقاقه احترامًا أكبر، فماذا بمن يملك 3 ألقاب من دوري أبطال أوروبا و4 ألقاب لدوريات محلية وعدة كئوس سوبر وكئوس محلية أخرى، بما يجعل المحصلة 21 لقبًا؟ الحديث هنا عن الأستاذ الإيطالي «كارلو أنشيلوتي».


ناجح في موضع اتهام

ولد كارلو في مدينة «ريدجولو» الريفية بمقاطعة «ريدجو إيمليا»، خاض حياته كلاعب في عدة فرق إيطالية، أبرزها ميلان وروما، ومن ثم شرع في التدريب أولًا كمساعد في المنتخب الإيطالي، وتلا ذلك تولي زمام الأمور مع فريق ريجينا الذي صعد للدرجة الممتازة تحت ولايته، ومن ثم تاريخ طويل بدأ منذ النصف الثاني من عام 1995.

خلال كل رحلاته التدريبة وداخل كل الدول التي درب فيها الـ«مستر»، كما يُحب عشاقه أن ينادوه، لم تكن له بصمة تكتيكية ثابتة، فهو ليس «جوارديولا» ولا حتى «سيميوني». يملك كل منهما رسمًا تكتيكيًا واضحًا وفلسفة واستراتيجية لا يرحب بالتنازل عنها، سواء هجومية أو دفاعية، على عكس الريفي الإيطالي، الذي يمكن وصفه مجازًا بـ«المتكيف».

لا يغير كارلو في قوائم الفرق التي يتولى زمام الأمور فيها، في صغره، انتقل من مدينة ريفية صغيرة إلى عالم واسع في مدينة بارما، ومنها إلى أوسع في ميلان، لكنه سرعان ما تأقلم كما عودنا أن يفعل بعد ذلك مرات في المستقبل. لا يملك طريقة واضحة هجوميًّا، ليس من ذوي الطباع الدفاعية ولا الاندفاع الهجومي.

لتدرس طريقته عليك أن تدرس كل فريق على حدة، كما يفعل هو بالضبط. تلك المدرسة التدريبية التي تؤمن بأن أسلوب اللعب يجب أن يتوافق مع اللاعبين وليس العكس. خلال مدة توليه للإدارة في ميلان حاول الرئيس «بيرلسكوني» أن يثنيه عن ميوله الدفاعية مع الفريق، فأقحم -رغمًا عنه- بعض الأسماء الهجومية الكبيرة بأسعار ضخمة.

حافظ أنشيلوتي على سياسته بتغيير بعض المفاهيم التكتيكية عند اللاعبين، تحويل بعض المراكز، التنويع بين 4-4-2 و4-2-3-1، أي طريق تمكنه من الفوز بالمجموعة الموجودة وعدم التحجج بافتقاده للعناصر التي تحقق رؤيته.

تصريح الإيطالي باولو مالديني عن مواطنه كارلو أنشيلوتي.

فور أن تولى المسئولية في مدريد، كان الفريق مهلهلًا، رحلت عناصر مهمة كـ«أوزيل» و«هيجوايين» و«كاكا»، وأتت عناصر جديدة لا تعرف طباع النادي بشدة، والكل يتفق على أن الحالة سيئة، الطبيعي في مثل هذه الحالات هو التغيير الجذري، المفاجأة كانت في تعامله.

بالنظر لمجمل ما تم صرفه في الموسم الأول لمورينيو الذي تسلم الفريق من «مانويل بيلجريني» كان 82.5 مليون يورو، في حين صرف الأخير في موسمه الأول 170 مليون يورو، ومن بعده قام الإسباني «رافا بينتيز» بصرف حوالي 70 مليون يورو، أما الأستاذ الذي نجح في الحصول على اللقب العاشر من دوري أبطال أوروبا في خزانة عملاق العاصمة الذي فشل فيه 10 مدربين متتاليين، كان 62 مليونًا فقط.

تلك الأرقام تعني صرفًا أقل ونجاحًا أكبر. لكن بعد مرور سنوات بسيطة على أي من هذه النجاحات لا تتذكره الجماهير، لا يملك بصمة عندهم، فقط لأنه ليس من أولئك الذين تُفرد لهم صفحات في الصحف لشرح ما يقوم به.


الصمت الذي لا يعجب الجماهير

دائمًا ما ينصحنا الفلاسفة بالنظر إلى الصواب والخطأ بنظرة نسبية، أو بأن ندرك أن داخل كل شيء نظنه ميزة عيبًا خفيًا والعكس صحيح.

ينجح دائمًا كارلو في خلق جو مناسب مهما كانت الظروف، تلك ميزة كبيرة تضاف إلى قدراته لكن يكمن بداخلها عيب ضخم، وهو رضاه الكامل بأي شيء يفرض عليه من الإدارة. واقعة كالتي سبق ذكرها في ميلان مع بيرلسكوني، فبالرغم من نجاحه في اختيار شكل أمثل للفريق الإيطالي بالرغم من تدخلات رئيسه، لكن هناك فشلًا لا يمكن إهماله في قبوله من الأساس بذلك التدخل الذي كان ليفسد عمله في أي ظروف طبيعية. ذلك المثال يمكن تطبيق عدة وقائع عليه.

انتقدت الجماهير في الإيطالي رضوخه الكامل للإدارات. في ألمانيا لم يطلب صفقات تحسن من وضع الفريق بالرغم من السوء الواضح في عدة مراكز، في مدريد أيضًا لم يرفض رحيل نجومه وإجباره على اللعب بلاعبين معينين لقيمهم الإعلانية.

كلفه ذلك الكثير باعترافه شخصيًا، حيث أكد أنه خسر منصبه على رأس الجهاز الفني للـ«ميرينجي» بسبب توتر العلاقة بينه وبين رئيس النادي على إثر تغييره لجاريث بيل في إحدى المباريات. الهدوء المفرط وإهماله التعامل مع الإدارة والقبول بأي شيء يُملى عليه يُعد العيب الأبرز في مسيرته، والذي يمكن أن يكون أحد أهم الأسباب لعدم تصنيفه ضمن الكبار عند أغلبية الجماهير.


محبوب اللاعبين

تقوم كرة القدم على عنصرين لا ثالث لهما، لاعب ومدرب. كل ما يحيط بذلك إنما هي عوامل مؤثرة، إما تبدأ منها تلك العناصر عملها أو ينتهي إليها. وبنظرة سطحية تدرك أن المدرب في الجانب الأصعب من العمل. روحك ومستقبلك في يد غيرك، إما أن ينجح فتنجح معه أو أن يفشل هو فتُقال أنت. الجماهير دائمًا ما تميل للاعب، الإدارة أيضًا كذلك، الإعلانات والأموال… إلخ. لا يملك المدرب الهروب من مقصلة كل هؤلاء إلا بأحد طريقتين، إما نجاح خططي ضخم أو نجاح عاطفي بحت.

أجبرت الظروف كارلو أن يوجد دائمًا ضمن عوامل صعبة للعمل طوال حياته المهنية، إذا نظرنا إلى رؤساء مثل «إبراموفيتش» في لندن و«بيريز» في مدريد و«بيرلسكوني» في ميلان، فإن الأمور صعبة جدًّا، بالأخص في ريال مدريد وميلان. الظروف هناك أصعب بكثير من أي مكان آخر: رئيس نادٍ صعب المراس، نجوم كبيرة، متطلبات ضخمة وجماهير لا ترضى بأي شيء.

كيف لأي فرد مهما بلغت قدراته أن يحقق نجاحًا في ظل كل هذا؟ مورينيو المعروف عنه قوته وصلابة شخصيته فشل في نهاية المطاف وكان ضحية الإقالة بعد مشاكله في غرف الملابس مع لاعبي الفريق الملكي، ومن بعده تمت إقالة رافا بنيتيز لنفس الأسباب، وهو عكس ما كان مع أنشيلوتي. الأخير كان دائمًا رهانه على اللاعبين، وكان دائمًا ما ينجح فيه.

حسب تأكيد العديد، فإن القلب الغليظ والشخصية القاسية التي يمتلكها الإيطالي «جاتوزو» لم يمنعاه من أن يدخل في نوبة بكاء عندما علم برحيل مدربه السابق كارلو أنشيلوتي عن الفريق، تأكيد آخر يأتي من «بيكهام» الذي وضعه على رأس قائمة الأفضل من بين الذين تدرب تحت أيديهم بالرغم من وجود السير «أليكس فيرجسون» في تلك القائمة.

حتى البرتغالي «كريستيانو رونالدو»وصف السماح برحيله من مدريد بأنه أحد أكبر أخطاء الإدارة هناك، حيث كان من أشد الرافضين لتكرار نفس الفعلة مع «زين الدين زيدان»، الذي يضع البعض جزءًا كبيرًا من نجاحاته على التشابه بينه وبين أنشيلوتي في جانب كبير من الصفات، لا سيما التعامل الفردي مع كل لاعب وإيجاد سبل الراحة للجميع.

في ميلان تمكن من السيطرة على فريق يملك أسماء يصعب ذكرها حتى: كاكا، بيرلو، سيدورف، ديدا، إنزاجي وروي كوستا. مهما حاولت التخيل، مجرد وضع تلك المجموعة في مكان واحد، لكل منهم شخصية، لكل منهم قاعدة ضخمة من المحبين، ولكل منهم رؤى ومتطلبات، فإن تكييف الأوضاع لملاءمة كل هؤلاء يُعد عملًا مستحيلًا بالرؤية المنطقية.

لا يوجد شك أنه لا يملك قوة مفرطة في الجوانب التكتيكية، لكن فيما يخص العواطف والعلاقات مع اللاعبين، فإن أنشيلوتي هو الـ«مستر».


الرحلة إلى الجنوب

لا يوجد فريق في العالم لا يستطيع كارلو تدريبه.

المدينة التي نشأ منها المدرب الحالي لفريق نابولي تقع في شمال إيطاليا، مدينة مشهورة جدًّا بالزراعة وصناعة الجبن. تربى كارلو هناك في ظروف فقيرة جدًّا، جعلته ينظر لكرة القدم على أنها المنقذ والأمل الوحيد للخلاص من أجل إيجاد عالم أفضل. من هنا بدأت رحلته تاركًا أقصى الشمال إلى وسط المدينة الصاخب.

كرة القدم ليست مجرد لعبة، لقد ولدت في حديقة، بالنسبة لي كرة القدم فرصة لحياة أفضل.
تصريح سابق لكارلو أنشيلوتي.

يمكن القول بأن المستر قد أدرك انخفاض أسهمه عالميًا بعد تجربة فاشلة في ألمانيا، وما كان هذا إلا تتابعًا لسلسلة من انخفاض الأسهم لأسباب سبق شرحها، بالتالي قراره بالعودة إلى الخلف بعض الشيء، والرضا بفريق ليس من الكبار -إعلاميًا- أظنه أكثر عقلانية من عِناد يتملك العديد من الأسماء في مواقف مشابهة.

المتعارف عليه أنه بين حين وآخر يشعر المرء بأنه في حاجة للعودة للوراء قليلًا من أجل الراحة وإعادة الرغبة من جديد، السفر إلى مدينة المنشأ، منزل العائلة، الوطن… إلخ. وفي الواقع، هذا هو التفسير الأكثر منطقية للمفاجأة الكبيرة التي أعلنتها إدارة فريق نابولي في بداية موسم 2018 / 19، بتعيين المخضرم أنشيلوتي خلفًا لمواطنه «ماوريسيو ساري».

نابولي مدينة صاخبة كرويًّا بجماهير محبة للعبة جدًّا، الفوز بأي لقب هناك سيقابل بترحاب بالغ، ولن يُشترط به أي متطلبات تكتيكية أو رؤى فلسفية معقدة. إذن الرغبات متكافئة، بالإضافة إلى أنه في كارلو توجد الواقعية والمرونة التي فقدها الفريق مع سابقه، لأنه لن يضغط الفريق بدنيًّا لتنفيذ تكتيك غريب.

مما يعني -نظريًا- تفادي السقوط البدني في وسط الموسم ونصفه الأخير. التجربة لا تشير في بدايتها للنجاح في الحصول على لقب الدوري، لكنها تؤكد خلق شخصية جديدة لثوار الجنوب من الممكن أن تحول مسار النادي في المستقبل، والأمر نفسه بالنسبة للمدرب.