انفجر الوضع في السودان كما لم ينفجر منذ ثلاثين عامًا، لا وقود لا خبز، والمواطنون في الشارع ينتفضون، سيناريو توقع المراقبون حدوثه قبل أعوام خلت، لكنه حصل متأخرًا الآن.

لم يعد للقائمين في السلطة فرصة المبادرة، لقد أضاعوا الفرصة تلو الأخرى للإصلاح وقد غدروا بالأحزاب التي وافقت على الحوار معهم في قاعة الصداقة قبل عامين، وكانوا يهيئون أنفسهم للبقاء في السلطة للأبد بتعديل الدستور.

لم يعد للمواطنين ما يخسرونه، إنهم لا يستطيعون الحصول على مدخراتهم و«شقا عمرهم» بعد أن حجزته السلطة في البنوك حتى لا يقوموا بتحويله لدولار بعد أن انهارت قيمة العملة السودانية. لم يعد من المتيسر الحصول على رغيف الخبز ولا الوقود، وارتفعت أسعار الدواء لمستوى غير مسبوق. وفوق كل ذلك يعلن رئيس الوزراء أن هناك صدمات قادمة اقتصادية، ويعلن البشير عن نوايا لرفع الدعم عن الوقود.

القوى السياسية ليست مستعدة لهذا الحدث، الخلافات بينها كبيرة وتغمرها الانقسامات الطولية والأفقية بعد أن أضعفها النظام الحاكم واخترق أغلبها عبر جواسيسه وعملائه.

الآن في السودان حراك دون رأس، الجماهير الجائعة تتحرك كالسيل الهادر لتقتلع النظام وهو لا يعول إلا على الحل الأمني المستهلك، وعلى إطلاق الوعود المزيفة.

هذا الحراك أو إن شئنا القول هذه الانتفاضة تملك من الأسباب الموضوعية ما يفوق الأسباب التي اندلعت بسببها مظاهرات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، فهذه البلدان عندما انتفضت شعوبها لم يكونوا يعانون مثلما يعاني الشعب السوداني اليوم.

ربما يتغير قدر الشرق الأوسط كله لو نجحت ثورة السودان، لأنها ثورة جاءت بعد أن تراكم الوعي الثوري عند أغلب الشعوب العربية وباتت هذه الشعوب مدركة لألاعيب الأنظمة العربية وسياساتها المدمرة.


ما الجديد في مظاهرات السودان؟

المظاهرات السودانية تمثل طرازًا جديدًا من الانتفاضات العربية تتميز بأنها مظاهرات ذات طابع عفوي عشوائي مفاجئ لا تقف خلفها أحزاب المعارضة وبدلًا على الانشغال بالكم وهو الخطأ الذي وقعت فيه مظاهرات الموجة الأولى من الربيع فإن هذه المظاهرات تهتم بالكيف.

المظاهرات في كل حي وفي كل شارع، فليس هناك داع للتجمع في موقع واحد. الاستفادة من أي تجمع كبير وتحويله لتجمع احتجاجي وما حدث في استاد الهلال أكبر مثال عندما تمت الاستفادة من زخم المباراة لتكوين فعالية ثورية. وسائل التواصل الاجتماعي ليست أداة الحشد فرغم أن الحكومة السودانية أغلقت كل مواقع التواصل فإن التظاهرات لم تتوقف ولا توجد دعوات للتجمع في المكان الفلاني أو المكان العلاني بل الدعوة للنزول في كل مكان و إعلان الرفض.

الإطارات المحترقة أهم أداة احتجاجية لذا يمكن تسمية ما يحدث بأنها ثورة الإطارات المحترقة. السودان لم يشهد من قبل مظاهرات بهذا الزخم مشاركة الولايات في الفعاليات الثورية تفوق العاصمة وهو أمر على النقيض تمامًا مما حدث عام 1964 و1985 عندما كانت الولايات هادئة والعاصمة مشتعلة.


القوات المسلحة هل هي الحل؟

كان واضحًا في هذه الاحتجاجات تدخل القوات المسلحة لفرض الأمن في أكثر من منطقة وتدخلها في بعض الأماكن لحماية المتظاهرين ومدينة عطبرة أكبر مثال على (التدخل الإيجابي للجيش). هذا التدخل دفع مراقبين للحديث عن إمكانية حدوث تحرك من الجيش للإطاحة بالرئيس البشير كما كان الأمر بحق جعفر النميري عندما أطاح به المشير عبدالرحمن سوار الذهب عام 1985.

لكن القوات المسلحة وقطعًا لهذه التحليلات أعلنت في بيان رسمي نقلته وكالة الأنباء السودانية عن الناطق باسم الجيش أن القوات المسلحة والجيش والشرطة والأمن كلها خلف القيادة أي خلف الرئيس البشير.

الحديث عن تدخل منفرد للجيش ضد البشير وتكرار لسيناريو 1985م الآن يُعتقد أنه صعب الحدوث، لأمور عدة هو أن الجيش السوداني اليوم ليس كما كان عام 1985، حيث إنه لم يعد القوة الوحيدة المحتكرة للأسلحة الثقيلة والمتوسطة، فقد قام النظام السوداني بإنشاء وحدات داخل جهاز الأمن تتمتع بنفس تسليح الجيش، وكذلك قام بإنشاء وحدات شرطية تجيد استخدام مختلف أنواع الأسلحة.

والأهم من كل ذلك، تم إنشاء قوات الدعم السريع التي هي جيش مواز يتبع للمشير البشير، فضلًا عن أن الحركة الإسلامية نفسها تمتلك فصيلًا مسلحًا اسمه قوات الدفاع الشعبي، وجهازًا أمنيًا خاصًا موازيًا يسمى جهاز الأمن الشعبي إلى جانب الأمن الوطني التابع للدولة، ومثل هذه التشكيلات يمكن أن تشتبك كلها مع بعضها لو تدخل الجيش منفردًا. لذلك وإدراكًا ربما من قيادة الجيش تم الحديث عن تنسيق مع الشرطة والأمن والدعم السريع.

إن أقرب نظام إلى شكل النظام السوداني هو نظام البعث العراقي السابق المكون من الجيش والشرطة وفدائيي صدام والمخابرات والحرس الجمهوري، كيف تتوقعون الحال لو كانت اندلعت ثورة ضد البعث الصدّامي؟

هذا الأمر يقودنا إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن الثورة السودانية لن تنتصر إلا بالتفاهم مع الجهات الأربعة مجتمعة، لكي تتدخل مجتمعة لسحب الأجهزة من جسد الإنقاذ الذي مات دماغيًا. التفاهم مع هذه الجهات يقتضي تقديم مبادرات سياسية لها للتخلي عن النظام أو إقناع رأس النظام بترك السلطة والحفاظ على نفسها، والقائمون على هذه المؤسسات سوف يغيرون ولاءهم عن البشير إذا ما شعروا فعلًا أن الأمور فلتت من أيديهم و أنهم باتوا في خطر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.