الكتابة عن «جميس ميلنر» ليست أمرًا سهلًا. والسبب ليس لأن اللاعب الإنجليزي لا يستحق عناء البحث والسرد والصياغة، ولكن ببساطة لأنه محاط بمجموعة من الشخصيات القادرة على استفزاز قلم أي كاتب، واجتذاب أعين كل قارئ.

ألقِ نظرة سريعة على قائمة ليفربول؛ لتجد أن «محمد صلاح» أتى من روما ليسحق في موسمه الأول أرقام رونالدو ودروجبا، ثم «فيرمينو» الذي تغيّر مركزه من لاعب ارتكاز لجناح، وأخيرًا لأحد أفضل مهاجمي العالم، إلى جانبه «فان ديك» الذي أوقف قطار الأهداف الكوميدية التي مزقت شباك ليفربول الموسم الماضي، وقبل كل هؤلاء يأتي «يورجن كلوب» بشخصيته الكاريزمية. فكيف يمكن اجتياز كل هؤلاء النجوم للكتابة عن لاعب كميلنر؟

في الحقيقة أكتب عن جيمس ميلنر لأنه شخص مختلف، بل فريد من نوعه داخل كتيبة كلوب. فريد في كبر سنه مقارنة بزملائه، وفريد في قدرته الهائلة على لعب أكثر من دور، وفريد حتى في الإيثار على نفسه أغلب الوقت.

يذكرني ميلنر دومًا بالجندي المجهول. ذلك الجندي الذي يقاتل بلا هوادة بأقل الإمكانيات، ويمكنه التأقلم في أي ظرف، وتأدية أكثر من وظيفة دون شكوى، وحين تنتهي مهمته لا ينشغل أبدًا بمن سيثني على جهوده أو يسير في جنازته، بل على الأرجح يستعد لمهمته المقبلة.


ميلنر الممل

نحن أمام لاعب لا يقوم بمراوغات استثنائية. ولا يطلق في العادي تسديدات صاروخية، وإن أطلق فإنه لا يسجل منها أهدافًا كثيرة. كما أنه لا يجيد الاحتفالات التي تعلق بأذهان الجماهير. ولا يفضل تغيير قصّة شعره أبدًا أو رسم الوشوم الغريبة. وبالطبع لا يحب التصريحات النارية لاستفزاز الخصوم. بهذه المعايير، نحن أمام لاعب كرة قدم تقليدي، أو ربما وكما يلقبه بعض الجمهور الإنجليزي: ميلنر الممل.

أضف لكل ذلك أنه لاعب لا يتمرد أبدًا، سواء على ناديه أو مدربه أو حتى على دكة الاحتياط، إذ تخبرنا مسيرته أنه بدأ كمهاجم في أكاديمية ليدز، ثم انتقل إلى الجناح مع نيوكاسل، ولعب كصانع ألعاب رفقة أستون فيلا، ثم أعيد اكتشاف قدراته الدفاعية في مانشستر سيتي، وأخيرًا شغل مع ليفربول أغلب المراكز عدا حراسة المرمى. لنكتشف أن المشترك الوحيد بين كل تلك الفترات هو الانضباط والاحترافية والعمل الصارم فقط، أي ملل ذلك يا جيمس.

العجيب هو أن ميلنر نفسه لا يجد غضاضة في هذا التوصيف، صحيح أنه مُقِل للغاية في ظهوره الإعلامي، لكن شخصًا غيره كان سيخرج لينفي عن نفسه صفة الملل. تخيل مثلًا أن حسابًا ساخرًا على تويتر يحمل اسم «ميلنر الممل» نشر ذات مرة تغريدة تقول إن جيمس يقضي أوقات فراغه في كيّ الملابس -وهو نشاط ممل طبعًا- فما كان من ميلنر سوى أن أنشأ حسابًا و نشر في أولى تغريداته صورة وهو يكوي قميصه بينما تعلو الابتسامة وجهه.


أبعد ما يكون عن الملل

المشكلة الأساسية أن هذا التوصيف يرسم لنا صورة غير مكتملة عن ميلنر، إذ يحجب عنا تفاصيل مهمة تخصه، ويحصر تقييمه بين خانتي اللاعب العادي أو الجيد فقط. وأول هذه التفاصيل أن ذلك الممل هو أكثر صانع أهداف في نسخة واحدة من دوري الأبطال متفوقًا على أسماء خرافية كـ«ميسي، وإنيستا، ومودريتش».

تريد مزيدًا من الغرابة؟ إذن حاول تخمين مركز جيمس في قائمة أكثر صناع الأهداف بتاريخ البريمييرليج، ربما يكون ضمن أول ثلاثين؟ ربما عشرين؟إنه السابع. نعم السابع. معادلًا لرقم «بيكهام» ولا يفصله عن «جيرارد وبيركامب» سوى القليل.

أما ثاني تلك التفاصيل فلا يقل مفاجأة، إذ يمتلك ميلنر ثاني أعلى معدل دقة تمرير بين لاعبي وسط البريمييرليج هذا الموسم، تخيل أن معدله تخطى أرقام «بوجبا، وديفيد سيلفا، وبالطبع تشاكا». وقبل أن تفسر تلك الإحصائية بلجوء ميلنر لتمريرات آمنة بعرض الملعب أو إلى الخلف، فإليك إحصائية أخرى تقول بأن قرابة 30% من تمريراته هي للأمام بشكل مباشر، ناهيك عن التمريرات القطرية أو العرضية.

أمر آخر، وهو أن جيمس لا يحظى بردود أفعال مميزة. فهو لا يبتسم كصلاح، ولا يرقص كفيرمينو، ولا يحتفل كستوريدج، هو منشغل بشيء واحد فقط، وهو الركض وتغطية المساحات. ربما لفت انتباهك أنه في عامه الـ 32 لايزال يمتلك لياقة البدنية ممتازة، لكن هل تصدق أنه ركض أكثر من أي لاعب آخر خلال إحدى مواجهات ليفربول مع السيتي بدور الـ 8؟ نعم ركض أكثر من تشامبرلين ومن ماني ومن كايل واكر شخصيًا!

جيمس ميلنر يعتلي قائمة أكثر اللاعبين ركضًا خلال مباراة دور الـ 8.

أضف لكل تلك الإحصاءيات المرعبة حقيقة تخص جائزة أفضل لاعب شاب بالبريمييرليج. هذه الجائزة التي فاز بها «ليروي ساني» وسبقه إليها «هاري كين، وروني»، إذ يمكنك بمراجعة باقي سجل الجائزة اكتشاف أن ميلنر هو الآخر كان يومًا ما الجولدن بوي! ميلنر إذن ليس لاعبًا عاديًا، وفي أفضل حالاته لا يكون مجرد لاعب جيد، حتي وإن التصقت به عنوة صفة الملل.

بذكر الملل،يقول المدرب الإنجليزي «نيل وارنكوك» إن ميلنر يظهر بكل تلك الجدية في الملعب بهدف التركيز، لكن في غرف المعسكرات وخلال تجمعات اللاعبين يمتاز بقدر عالٍ من خفة الظل، وهو ما يبدو مفاجئًا للجمهور.


ملك البساطة

لا بد أنك تتساءل الأن لماذا لا يحب ميلنر استعراض كل تلك الأمور التي حققها؟ ولماذا يصر على عدم تسويق جهوده إعلاميًا بالشكل الذي يستحقه؟

والإجابة على تلك التساؤلات ربما تزيدك حيرة، لأنها تتلخص في شخصية ميلنر التي تميل نحو البساطة، لا الملحمية. يؤمن جيمس بأنه لاعب كرة قدم فقط، ليس بطلًا قوميًا ولا نجمًا سينمائيًا، فهو يتقاضى راتبًا من النادي نظير مهمة معينة. وهذه المهمة لا تنتهي إلا مع استنفاد كامل طاقته. وخلال ذلك الأمر لا يحب أن يلتفت ميلنر إلى أي شيء آخر، حتى لو كان أرقامه الرائعة.

كما يدرك أنه ليس جيرارد ولا سكولز، ولن يرتبط في الوعي الجماهيري بشخصية البطل الملحمي، لذا يفضل أن يستمر في بذل الجهد والتركيز في الملعب لا أمام الشاشات أو المدرجات. هذه الوضعية لم تمنحه التقدير الكافي، لكنه راضٍ عنها تمامًا.

وكأنه جندي مجهول، لا يحظى بظهير جماهيري، ويبذل أغلب جهوده خارج دائرة الضوء. فد تظن أنه غير موجود من الأساس، لكنك تتفاجأ بتألقه في أصعب الأوقات. يخفق أحيانًا لكنه لا يتخاذل أبدًا، ولا يعنيه أي شيء يدور خارج ميدان المعركة.

المثير أن هذه البساطة التي تتحلي بها شخصية ميلنر طُبِعت على أسلوب لعبه، لذلك تحديدًا ستجده متميزًا للغاية في المهارات الأساسية كالاستلام والتسليم وإتقان العرضيات، بالإضافة إلى تغطية المساحات والارتداد الدفاعي. وهذا على حساب المراوغات الصعبة وصناعة الفرص المبتكرة والتسديد المتقن. لكن لا بأس، لقد أتى «نبي كيتا» من لايبزيج وهو بارع جدًا فيما يعجز عنه ميلنر.

يكشف هذا الرسم البياني الذي أعده موقع football whispers عن حجم التكامل الذي يمنحه الثنائي معًا لوسط ملعب ليفربول، حيث نلاحظ نقاط تميّز ميلنر باللون الأصفر، في مقابل تلك الخاصة بكيتا باللون الأخضر. لا يعيب الثنائي سوى الفوز بالكرات الهوائية، وهذه يتولى أمرها فان ديك وفينالدوم الآن وفابينيو مستقبلًا.

ونستخلص من ذلك الرسم شيئًا واحدًا، وهو كيف حققت تلك الثنائية أفضلية لوسط ميدان ليفربول خلال المواجهات القادمة، كما تجيب عن سؤال: لماذا يستمر كلوب في الدفع بميلنر بالرغم من تقدم سنه على حساب هيندرسون مثلًا؟

رسم بياني يوضح أدوار الثنائي ميلنر ونبي كيتا في وسط ملعب ليفربول.


في دونكيرك

هل شاهدت تحفة المخرج الفذّ «كريستوفر نولان» دونكيرك؟

إن لم تكن شاهدته، فأنصحك أن تفعل بمجرد أن تنتهي من قراءة المقال.

خلال الفيلم، يصوّر نولان إحدى أهم معارك الحرب العالمية الثانية التي وقعت على ساحل البلدة الفرنسية دونكيرك. حيث يبدأ الفيلم بعدما اكتسحت القوات النازية نظيرتها الفرنسية والإنجليزية، وطاردتها حتى الحدود البحرية، لتبدأ منذ تلك اللحظة عملية الانسحاب نحو إنجلترا بحرًا.

كان «تشيرشل» ينظر بقدر كبير من الأهمية لعملية الانسحاب، وأراد أن يعود أكبر قدر من الجنود، ليتمكن لاحقًا من بناء الجيش الذي سيذيق «هتلر» الويلات.

ويكشف لنا الفيلم عن عدد متنوع وغير محدود من الأنشطة يقوم بها الجنود في سبيل نجاح العملية، من مطاردات شرسة على الأرض، إلى إقامة المتاريس، ثم الاختباء بعيدًا عن مرمى ضربات الطيران الألماني، مع السباحة وبعض المهارات الملاحية في تفادي صواريخ الغواصات النازية، وقبل كل ذلك حضور ذهني مرتفع وقدرة على التحكم في الذات.

لكن ما دخل ميلنر بفيلم دونكيرك؟

ميلنر يشبه هؤلاء الجنود في تلك المعركة؛ فهو ليس صاحب قدرات فنية استثنائية ولا ذكاء حاد يحسد عليه، لكن كل ما يمتلكه هو التركيز وبذل الجهد والقدرة على التكيّف مع أي دور، وهذا كافٍ جدًا ليتم الاعتماد عليه، حتى وإن بدا أقل قدرة من بقية زملائه على لفت انتباه الكتّاب واجتذاب أعين القرّاء، وأكثر مللًا من أن يغني له جمهور الأنفيلد!