الصاغ الأحمر، قالها الرئيس جمال عبدالناصر واصفًا بها خالد محيي الدين، لتلازمه الكلمة طوال حياته. أما كونه صاغًا، فكانت تلك رتبته أثناء قيام ثورة يوليو، أما كلمة الأحمر فإشارة لتوجهات الرجل اليسارية التي لم يحاول إخفاءها، بل ظل مخلصًا لها حتى وفاته.

وُلد خالد محيي الدين في كفر شكر في محافظة القليوبية عام 1922. ينحدر من عائلة ميسورة ولها مكانتها الدينية. والده وجده من أصحاب المزارع وتجار القطن. أما جدّه لأمه فكان شيخ الطريقة النقشبندية، الشيخ عثمان خالد. مرّ بمراحل التعليم المختلفة حتى تخرج في الكلية الحربية عام 1944.

 لكن في فترات دراسته ما قبل الجامعية لم يكن معروفًا بالهدوء أو الانشغال بالتحصيل الدراسي قدر انشغاله بالمظاهرات. يقول الرجل في مذكراته، الآن أتكلم، أن خاله قد حصل على ماجستير في الاقتصاد من فرنسا. وحين عاد ظل يحكي له عن كلمات مثل الديمقراطية والدستور، وهو ابن تسع سنوات. في الوقت الذي كان فيه المصريون يعانون من صدقي باشا رئيس الوزراء.

 انضم للضباط الأحرار سريعًا بعد تخرجه، وكان من الأوائل فيه وفي مجلس قيادة الثورة. ليستمر في ذلك الطريق الذي خاضه ضد رغبة أهله. فقد كان والده يرغب في إرساله للولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الزراعة الحديثة ويحصل على الدكتوراه فيها. لكنه آثر الانضمام للحربية لشعوره أن مصر بحاجة لجيش قوي وحقيقي يحميها.

 في الفترة التي سبقت الثورة كان الرجل مشغولًا بالحصول على بكالوريوس التجارة، ليكون من أوائل الضباط الأحرار الذين قرروا دراسة العلوم المدنية حتى تساعده في إدارة الدولة لاحقًا. كما أكسبته مشاركته في حرب عام 1948 خبرة عسكرية، وزادت من قناعته بضرورة إزاحة الملك.

المنفى الاختياري

تولى عديدًا من المناصب الإدارية في الدولة في فترة قصيرة. كان يمكن لتلك المناصب أن تتزايد لولا أن الرجل وقع في المحظور. فقد كان من الرفاق الذين دعوا إلى عودة رجال الضباط الأحرار لثكناتهم وترك السلطة للانتخابات. إثر تلك الدعوة دب خلاف قوي بينه وبين عبدالناصر ومعظم رجال مجلس قيادة الثورة. على إثر تلك الخلافات قرر الاستقالة من المجلس.

بعد الاستقالة فضّل الرجل أن يبتعد عن المشهد السياسي، فاختار سويسرا. تدور التكهنّات أن اختياره كان مدفوعًا بضغط من الرئيس جمال عبدالناصر. وهو ما أشار إليه في مذكراته أن سفره لسويسرا كان باتفاق، على حد تعبيره، بينه وبين عبدالناصر. ظل الرجل في عزلته الاختيارية حتى عام 1957.

 في ذلك العام، بعد عودته من سويسرا،  التقى عبدالناصر وسأله عما يريد أن يفعل، فأجابه محيي الدين  أنه يريد الاشتغال في الحياة العامة. لهذا قرر الترشح في انتخابات مجلس الأمة عن دائرة كفر شكر. نجح في الانتخابات، فبدأ يخطط للخطوة التالية.

أسس الرجل أول جريدة مسائية في الجمهورية الوليدة، جريدة المساء. يحكي الرجل في مذكراته أن تلك الجريدة كانت اقتراحًا، ضمن اقتراحات كثيرة، قدمها له عبدالناصر في لقائهما. فيقول إن الرئيس قال له إن كل الدول العربية بها صحف يسارية، ومن غير اللائق ألا تحتوي مصر على جريدة يسارية. لكن عبدالناصر أكدّ ضرورة أن تكون يسارية معتدلة، واشترط أن تكون مسائية. وحين سأله خالد لماذا مسائية تحديدًا، أجابه عبدالناصر بوضوح، كي تكون محدودة التأثير.

كما أنه شغل منصب أول رئيس للجنة الخاصة التي شكلها مجلس الأمة في أوائل الستينيات لحل مشاكل أهل النوبة أثناء التهجير. كذلك شغل الرجل منصب مدير ورئيس تحرير دار أخبار اليوم خلال عامي 1964 و1965، بتكليف من عبدالناصر.

تأسيس حزب التجمع اليساري

لم يقتصر عمله على المستوي المحلي فحسب، بل كان خالد محيي الدين أحد مؤسسي مجلس السلام العالمي، ورئيس منطقة الشرق الأوسط، ورئيس اللجنة المصرية للسلام ونزع السلاح. تتويجًا لهذه الجهود كلها حصل الرجل على جائزة لينين للسلام عام 1970.

بعد الجائزة بست سنوات أسس الرجل حزب التجمع العربي اليساري الوحدوي. فناله الرئيس أنور السادات بتهمة كانت تُوجه لعديد من اليسارين في تلك الحقبة، وهى العمالة لموسكو. خصوصًا أن عديدًا من كوادر الحزب كانوا من المشاركين في انتفاضة الخبز عام 1977.

رغم الخلاف الذي دب بين عبدالناصر وخالد محيي الدين، فإن الأخير كان مؤمنًا بضرورة الاستمرار في حركة التصنيع التي بدأها عبدالناصر. لهذا كان معارضًا شرسًا لحركة الانفتاح الاقتصادي، الاستهلاكي، التي أعلنها الرئيس السادات عام 1974. كما كان معارضًا لبيع الأصول المملوكة للدولة.

كذلك كان معارضًا لمعاهدة السلام التي وقعها السادات مع إسرائيل عام 1979، وكان يرى أن إسرائيل ما زالت تماطل في تحقيق السلام الحقيقي من خلال استمرارها في احتلال أراض مصرية وعربية.

التنازل الطوعي عن القيادة

استمر الرجل في عمله المعارض. وكانت من أبرز لحظاته حين قرر ألا يخوض انتخابات رئاسية ضد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك. فقد رأى أن تلك الانتخابات لن تكون نزيهة، وسوف تُستخدم لمنح شرعية لوجود الرئيس مبارك.

شغل عضوية مجلس الشعب المصري من عام 1990 حتى عام 2005، حين خسر مقعده لصالح مرشح الإخوان المسلمين. وتخلى الرجل طوعيًا عن قيادة حزب التجمع، كمثال منه لضرورة تداول السلطة. التخلي عن رئاسة الحزب كانت قبل خسارة مقعد مجلس الشعب بـ3 أعوام، فقد اعتزل السياسة لظروف مرضه عام 2002. لكن عاد حزب التجمع ليُعلنه زعيمًا شرفيًا مدى الحياة.

برز اسمه على المستوى الرسمي مرة أخرى عام 2013 حين حصل على قلادة النيل، أرفع وسام مصري، من الرئيس السابق عدلي منصور. لكن على المستوى الثقافي والعام كان الرجل حاضرًا طوال الوقت بأفكاره ومؤلفاته. منها مثلًا: حركة السلام، الفكر والمنهج والتكوين، والدين والاشتراكية، والأهم هو كتابه «الآن أتكلم» الذي يسرد فيه مذكراته وكثيرًا من تفاصيل ثورة يوليو.

الثائر لا يشيخ

يحكي في مذكراته جوانب عدة للدولة المصرية وأحوالها. لكن يمكن القول إن المشهور من مذكرات الرجل لا يتجاوز أن يكون نصف صفحة منها فقط. هي السطور القليلة التي يروي فيها أن جمال عبدالناصر هو صاحب التفجيرات التي تمت في القاهرة في خضم أزمة عام 1954. وأن عبدالناصر قرر القيام بهذه التفجيرات ليخيف الناس، ويجعلهم يلجؤون للحاكم القوي الذي يملك السلاح اللازم لمواجهة هذه الفوضى.

كما يحكي فيها عن أول تمرد خاضه في حياته العسكرية حين كان طالبًا في الكلية الحربية.  فقد كان المستشارون العسكريون الإنجليز يشعرونهم بالهوان والإهانة. فقرر خالد مع زميل له استبدال اللافتة المكتوبة بالإنجليزية على مكتب المستشار العسكري بأخرى مكتوبة بالعربية.

كما أن غضبه تجاه الوجود الإنجليزي قد زاد حين صادر الإنجليز دبابات سلاح الفرسان، الذي كان يخدم فيه خالد، لتعويض خسائرهم أمام الألمان. فأصبح المصريون يملكون جيشًا بلا أسلحة. كما اشتغل الرجل بسبب حصار الإنجليز لقصر الملك بالدبابات لإجباره على توقيع مرسوم حكومة النحاس باشا.

ظلت روح خالد محيي الدين المتقدة تميزه حتى في سنواته الأخيرة. فرغم أنه توفي عن عمر يناهز 96 عامًا فإنه ظل يحمل بريق الشاب الثائر الذي يريد دفع الوطن إلى الطريق الذي يراه صوابًا.