مرحبًا، طالما أنك هنا فربما تكون شاهدت المسلسل الإسباني الذي أنتجته شبكة Netflix، ولعلك التهمت الجزء الثالث الذي صدر مؤخرًا في أمسية واحدة، لذا لا داعي من تحذيرك من حرق أحداث المسلسل فيما ستقرؤه الآن. بصراحة لست مختصًا في الدراما، لذا سأترك استعراض مزايا وعيوب المسلسل للزملاء في قسم الفن، كل ما أريد الإشارة إليه هو عدة تفاصيل تخص بطل المسلسل: البروفيسور.كلما شاهدت البروفيسور «سيرجيو ماركينا»، قفزت إلى ذهني صورة المدرب «بيب جوارديولا»، وبدأت في ملاحظة أوجه التشابه بين الشخصيتين، حتى ظننت أن البروفيسور سيخرج ذات مرة حالقًا شعره، ثم يهم بكشف حقيقته لنجد أمامنا نسخة قريبة من جوارديولا، تقود عملية سطو جديدة اسمها بالطبع سيكون: تيكي تاكا!هذا التشابه يبدأ من مظهر ورداء كل منهما، ويمتد حتى يشمل الصفات الشخصية، أسلوب العمل، وحتى الولع الشديد بالتفاصيل الذي يتميزان به في مجالين مختلفين تمامًا. هذه كلها مساحات تماس بين شخصية افتراضية تخطط لسرقة وخداع الحكومة، وبين أخرى حقيقية تصنع الواقع في عالم التدريب، فكيف يمكن قراءة مسيرة المدرب الكتالوني من خلال محتال عبقري؟


كيف بدأ البروفيسور؟

هذا هو السؤال الذي حيّر الشرطة الإسبانية، حيث إن سيرجيو توقف عن تحديث بياناته قبل استخدام الحكومة للنظام الرقمي، ولم يمتلك أي سجل جنائي سابق، وبذلك لن يمكن الاشتباه به، أو العثور عليه بسهولة. كان السطو على دار سك العملة هو عمليته الأولى، وقد ادخر كل التكتيكات والحيل التي تعلمها لسنوات ليباغت بها الشرطة، ويتمكن من إتمام العملية بنجاح.جوارديولا أيضًا بدأ بشكل مماثل، لا أقصد هنا السجل الجنائي، ولكن التدريبي. فقبل عشرة أعوام، كانت أسماء مثل «أليكس فيرجسون، مورينيو، وأرسين فينجر» تتصدر عالم التدريب، بينما كان بيب مجرد مدرب لفريق الرديف في برشلونة، لذلك صُدم الكثير عندما أوكلت إليه مسئولية الفريق الأول، لكنه رغم ذلك فاق كل التوقعات محققًا في عامه الأول أفضل موسم في تاريخ البلوجرانا. المثير أن شخصًا واحدًا هو من دفع الإدارة لتعيين جوارديولا. كان ذلك «يوهان كرويف»، الأب الروحي الذي تولي تدريب بيب حين كان لاعبًا، ثم علمه الخطوط العريضة لكل شيء يعرفه عن كرة القدم، وآمن أن بإمكانه تطوير تلك الخطوط لأسلوب لعب ناجح وفعال. وهنا لا يشبه جوارديولا سيرجيو، بل سيرجيو هو من يشبهه. فهو أيضًا لم يبتكر فكرة السطو على دار السك، لكنها كانت من فكرة والده الذي قُتل حين حاول تنفيذها، فشعر بضرورة الثأر لأبيه، وأخذ يسد ثغرات الخطة من كل جانب. يوهان وماركينا هما من ألهم بيب وسيرجيو، ولولا وجودهما لسلك الثنائي الأخير مسارات مغايرة، الفارق أن كرويف امتلك حضورًا أكثر بريقًا من السيد ماركينا الذي عاش ومات دون أن يظهر أبدًا على الشاشة.الآن دعنا ننتقل لنقطة أكثر عمقًا في جوهر الشخصيتين، بقليل من التأمل ستكتشف الرابط بين لقب الفيلسوف الذي يطلقه مناصرو جوارديولا عليه، وبين اسم سيرجيو المستعار: البروفيسور. الأمر هنا أبعد من مجرد لقب واسم مستعار، فكلاهما يشير لصفة محددة وهي الاهتمام بالنظرية قبل التطبيق. بيب ليس مدربًا يسعى للنجاح وحسب، بل هو يسعى للنجاح مستعينًا بأسلوب لعب معين لا يتنازل عنه، هو أشبه بالمفكر الذي يحمل أيديولوجيا ثم ينقلها إلي الميدان العملي، فتراه يثني على من ينفذ الضغط ويستحوذ على الكرة ويهاجم بضراوة. أما سيرجيو فهو نسخة أكثر تطرفًا من بيب، لم يكن يستهدف السطو والسرقة عمومًا، بل استهدف دار السك تحديدًا دون أي منشأة مالية. وقد درس دار السك أكثر من الحكومة، بل إنه عاش عمره يعرف دهاليز الدار ويبني سيناريوهات للاقتحام والهروب والمواجهة.


بيلا تشاو

أريد تذكيرك مرة أخرى: لست مختصًا في الدراما، لكني لا أستطيع منع نفسي من الثناء على مؤلف العمل الذي برع في رسم الشخصيات. وقد اختار للبروفيسور صفات مظهرية مميزة كالنظارة، اللحية الخفيفة، الملابس شبه الرسمية، الحفاظ على لياقته. هنا لا يمكنني الادعاء أن كلها صفات تنطبق على جوارديولا، لكن أغلبها بالفعل مشترك، سوى أن عناصر أخرى أكثر أهمية لفتت انتباهي.أولها هو الهوس. البروفيسور ليس إلا شخصًا مهووسًا بالسطو، وهو يتحرك بذلك الدافع طوال الوقت سواء لتوجيه فريقه أو مواجهة الشرطة. والهوس هو صفة أصيلة أيضًا في بيب، هو أساسًا يقضي حياته بين مشاهدة المباريات وتدوين الملاحظات والاجتماع مع مساعديه ولاعبيه. تصوَّر أنه يدخل ساحة التدريبات قبل التاسعة صباحًا ولا يغادر إلا بعد السابعة مساءً، يصل إلى النادي قبل الجميع ويغادر بعد الجميع دون أي ضجر، ثم يخرج لتناول العشاء مع أصدقائه، فيحدثهم بعد نصف ساعة فقط عن حيلته تكتيكية جديدة. في الأعوام الأخيرة نشرت الصحافة أخبارًا تفيد بأن جوارديولا فقد عقله بالفعل، منها انتداب لاعب كرة ماء لتدريب لاعبي بايرن ميونخ على ركلات الجزاء، بالإضافة لرغبته في قص عشب ملعب مدينة مانشستر ب 3 مليمترات بالضبط، وأغربها على الإطلاق هو الأخذ برأي طفليه: ماريوس وماريا في كثير من التعديلات التكتيكية. بصراحة أعتقد أن بيب أكثر هوسًا من سيرجيو.

أما ثانيًا فهو بناء الفريق. البروفيسور أتى بعناصر مختلفة، لا يجمعها أي شيء أحيانًا، لكنه نجح في صهر قدراتهم لينتج فريقًا من الصعب مجابهته. الحال نفسه مع جوارديولا، وأكبر مثال على ذلك هو إعادة تشكيل فريق برشلونة بأكمله. لقد قام بتعديل مركز إنيستا من الجناح للاعب الوسط، وبيكيه من الوسط لقلب الدفاع، وطلب من إيتو تفريغ منطقة الجزاء حتى يتمكن ميسي الذي لا يتجاوز طوله 170 سم من لعب دور المهاجم. هذه كلها تعديلات تبدو عبثية، لكن في جوهرها برزت رؤية متماسكة لبيب جوارديولا.هذه النقطة تحيلنا لأمر آخر، وهو رغبة كل منهما التحكم في خطوات فريقه. البروفيسور لا يخاف إلا من المفاجآت، لذلك يرفض خروج أحد عن المسار الذي رسمه، لأن ذلك ببساطة سيؤدي بهم للهلاك. وهنا أدعوك لتذكر ماذا فعل بيب مع تيري هنري حين خالف تعليماته وغيَّر تمركزه ليسجل هدفًا، هرع بيب لإخراجه من الملعب ثم لامه على ما فعل. تكرر الأمر ثانية مع أجويرو، حتى كاد يستغني عن خدمات مهاجم السيتي التاريخي لأنه لا ينفذ كل ما يطلبه.جوارديولا يريد الالتزام التام بتعليماته، لذلك لا يكف عن تذكير لاعبيه بها طوال المباراة، وكأنه يريد تحويلهم لقطع يشكلها كيفما أراد، ويعدل مراكزهم في النقطة التي يحبذ تحديدًا. بيب هو بالأحرى لاعب شطرنج ضل طريقه لكرة القدم، ولو اعتزل اللعبة اليوم لاحترف الشطرنج في اليوم التالي.أخيرًا أحب أن أستعيد لحن «بيلا تشاو»، تلك الأغنية التي أبدع المخرج في استخدامها بكل حالات الأبطال؛ الفرح والحزن والغضب والخوف والاقتحام والهرب والموت. اختيار هذه الأغنية ليست صدفة، بل لها مغزى واضح. إذ تعود لحركة المقاومة الإيطالية ضد فاشية موسوليني المتحالفة مع نازية هتلر، وتبث الحماس في نفوس من لا يزال يقاوم رغم البطش.والبروفيسور يظن أنه أيضًا يقاوم على طريقته الخاصة. أما جوارديولا فقد أضحى منذ زمن رمزًا للاستقلال الكتالوني، حيث يحضر جلسات البرلمان في الإقليم، ويشارك في الاستفتاءات مصوتًا لصالح الانفصال عن إسبانيا، ويخطب في الجموع المتظاهرة ضد العاصمة مدريد. يعتقد بيب أن عليه دور في توظيف ما يمتلك من شهرة لخدمة قضية يؤمن بها، هو أيضًا يغني بيلا تشاو على طريقته.


المدمنان

بيب جوارديولا خلال كلمته أمام البرلمان الكتالوني، ومشاركته في إحدى التجمعات الداعية للاستقلال عن إسبانيا.

كلما اندلع اشتباك، اختار المخرج أن تظهر «طوكيو» بينما تعلو وجهها ابتسامة ماكرة لتنطق بجملتها الشهيرة «سيكون هناك شغب». هنا تكمن رسالة برزت بوضوح خلال الجزء الثالث من المسلسل، وهي أن هذا الفريق يدمن الإثارة ويفضل حياة الصخب عن تلك المستقرة. لذلك عندما نجحت العملية، ثم أخطأ أحدهم ووقع في الأسر، لم يجد البروفيسور أمامه سوى القيام بما يجيده وهو التخطيط لعملية أخرى، هذه المرة أكثر صعوبة وأكبر تحدٍّ.الآن انظر إلى جوارديولا، هو الآخر يدمن التحديات الصعبة، حتى بعدما أدرك أنه لن يحقق ما حققه مع برشلونة، وأنهى حقبته مع بايرن ميونخ بنتائج أقل من التوقعات، ورغم ذلك ألقى بنفسه إلى شوارع مانشستر وقبل بتولي مهمة صناعة شخصية قوية للفريق السماوي محليًا وأوروبيًا، وكأنه يتوق إلى مغامرة تضعه أمام كل ذلك القدر من الخطط والأفكار والمؤتمرات الصحفية والإشادة والانتقاد، هكذا فقط يجد بيب ذاته.البروفيسور امتلك 2.4 بليون يورو، وقد أنفق بعضها في شراء أغلى المعدات والإمكانيات، وهذا قبل دخول عملية شديدة الصعوبة كالسطو على البنك الوطني. بيب أيضًا أرهق خزينة ناديه في شراء لاعبين يلائمون أسلوب لعبه، يكفي فقط حجم ما صرفه السيتي لتدعيم خط الدفاع، المهم أنه دخل الموسم الماضي وهو يرغب في تحقيق المهمة المستحيلة وهي الفوز بأي بطولة ينافس عليها. رأينا بيب يبدأ بداية مثالية في الدوري، ويضع التشامبيونزليج نصب عينيه. انتصف الموسم ليفقد السيتي بعض توازنه، لكن جوارديولا نجح في إعادة الفريق على الطريق الصحيح. عاد مجددًا لصدارة الدوري، وحصد ثلاث كئوس، وكان قريبًا من الوصول لنهائي دوري الأبطال، ليختم الموسم متوجًا بكل البطولات المحلية وبإخفاق أوروبي آخر. نهاية تشبه إلى حد كبير نهاية الجزء الثالث، حيث حافظ فريق البروفيسور بسيطرتهم على البنك، لكنهم أخفقوا في تسيير الأمور كما أرادوا، على كل حال نحن في انتظار الموسم الجديد، سواء على Netflix أو BeIN sports.